أرشيف المقالات

نور من بدر!

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
 كتب الله لأمّتنا ألّا تنكسر مهما غاصت في وحل الضّعف أو غرقت في ردغة الآثام، ولم يعاقبها بالتّيه فجعل القرآن العزيز كتابًا خالدًا تتدبره وتعمل به، وسخّر عدول عباده لتدوين السّنّة المشرّفة كي تقبس الأجيال منها الصّواب والرّشاد، وأكرم آخرين برواية السّير والمغازي لتغدو منهلًا مأمونًا تستوهب الأمّة منه ماء الحياة والعزّة. ومن أحداث السّيرة التي لا تنُسى، معركة بدر الكبرى، يوم الفرقان المبين، الواقع في اليوم السّابع عشر من شهر رمضان المبارك من السّنة الثّانية للهجرة، في موضع بدر القريب من المدينة النّبويّة، ومع غزارة ما في هذه الواقعة من عبر، إلّا أنّي سأقف مع بعضها تفاديًا للإطالة، على أمل أن يكمل القرّاء الباقي، والباقي كثير. فأصل خروج المسلمين كان للاستيلاء على قافلة تجاريّة قرشيّة، يعوضّون بها أموالهم التي نهبتها قريش أو احتجزتها، ولذلك لم يصدر أمر بالنّفير، ولم يُؤاخذ من تخلّف؛ لأنّ الاستدعاء فقط لمن كان على أهبة الاستعداد فلا وقت للانتظار، وشاء الله سبحانه وأراد غير ما اجتهد المسلمون لنيله، فكانت العاقبة نصرًا معنويًا وماديًا في جوانب عسكريّة وسياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وتعليميّة ودعويّة، وما أعظم إرادة الله لنا، وما أحرانا بالتّسليم إذا اجتهدنا ثمّ صرفتنا أقدار الله عمّا سعينا له، فالخيرة تخفى، والله يعلم السّر وأخفى. كما كانت جميع المقاييس الماديّة ضدّ المسلمين في يوم بدر؛ فهم الأقلّ عددًا وعتادًا، والمعركة أقرب لأرضهم، وغالب محيطهم يخالفهم أو لا يحالفهم، وهي أوّل تجربة للقتال، لكنّهم بذلوا كلّ سبب، وعمروا قلوبهم بالصّدق والإيمان مع التّوكل، فشاركتهم الملائكة، وصار يومهم يوم الفرقان، ونالوا فضلًا ونصرًا وسابقة، وأيّ غنيمة أكبر من نظر الله إليهم، وغفرانه لهم؟ ومع ثقة النّبي وأصحابه بموعود الله، فقد أجادوا التّحضير العسكري للمنازلة، بداية من اختيار الموضع الأفضل بالنّسبة لأماكن الماء والشّمس ورؤية العدو، إضافة إلى إرسال العيون وتقصّي الأخبار، ثمّ تقدير عدد الأعداء من خلال طعامهم اليومي، وانتهاء بترتيب الجيش على هيئة صفوف تشبه صفوف الصّلاة وتخالف عادة العرب في معاركهم، وفيها دروس حرب واستخبارات واستشراف لمن وعى، ولم تصرفهم هذه الجوانب الواقعيّة عن نشدان المثال الأسنى بالصّلاة والدّعاء والالتجاء إلى الله؛ فكان المدد جمعًا من الملائكة على رأسهم جبريل عليهم الصّلاة والسّلام. وحين أقبلت قريش، ورأى عتبة بن ربيعة جيش المدينة وما في سيماهم من عزيمة على النّصر أو الشّهادة، خشي أن يتعاظم القتل فتكثر الثّارات داخل قريش انتقامًا للآباء والإخوان والقرابة، فنادى في قومه أن يرجعوا وينسبوا العودة إليه، وهو ذات مطلب أبي سفيان بعد نجاة قافلته، لكنّ غطرسة القوّة، وطغيان الباطل، وجنون العظمة، حالت دون قبول أبي جهل الذي أراد قرع الطّبول وسماع الغناء والاستمتاع برقص القيان، فآل مراده إلى أعظم حسرة له ولصناديد قومه لحظة سحبت جثثهم إلى قليب يسمعون نداء النّبي الذي كذبوه ولا يقدرون على جوابه، ولو أطاعوا عتبة صاحب الجمل الأحمر لما خابوا كما أخبر الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، وما أنفس الرّجل الرّشيد ساعة الأزمات. وبخلاف عنجهيّة زعماء قريش، فتح النّبي الكريم باب المشاورة لأصحابه، وسألهم مستطلعًا آراءهم خصوصًا من الأنصار، فسمع منهم ورأى ما يسعده نبيًا ويرضيه قائدًا، وبادله القوم التّقدير والتّوقير، فبنوا له عريشًا محكم الحماية، مرتفعًا للاستطلاع، وأطاعوا أمره ولم يختلفوا عليه، وما أحوج الأمّة إلى تلاحم قواعدها مع قادتها، وآكد ما يحقّق ذلك وحدة الهدف ووضوحه، وصدق جميع الأطراف في ابتغاء المصلحة الشّرعيّة العليا. وبعد عودة جيش المدينة ظافرًا عقب بدر، استمر المسلمون في مراكمة القوّة كمًا وكيفًا، وكسبوا موضع النّدية بسرعة فائقة، ولم يبطرهم هذا النّصر أو يركنوا إلى لذيذ ذكراه تاركين الاستزادة والإعداد، وبالمقابل نجم النّفاق الذي تخنسه القوّة، وغدت المواجهات القادمة، ومحاولات الاختراق، وعقد الأحلاف أكثر حتميّة، وهو ما نجم عنه أحداث جسام في أحد والخندق، بيد أنّ العاقبة للمؤمنين، وتلك الأرض يورثها الله من يشاء من عباده، كما فتح مكة لعبده الطّريد منها، وأغنمه خيبر خير مال لأخبث الأعادي، وأخاف به الرّوم ساعة العسرة، وأخرج إليه الوفود مسلمة أو مستسلمة، فالفتح والفرج من أمر الله وفي سابق علمه لمن أخلص وآمن وأحسن. أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياضمدونة أحمد بن عبد المحسن العسَّاف


شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢