أرشيف المقالات

عبد الله نديم أفندي

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
8 هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، الأديب الألمعي، والخطيب المفوه، نادرة عصره، وأعجوبة دهره.
ولد أبوه ببلدة الطيبة بمديرية الشرقية في شهر ذي الحجة سنة 1234هـ ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية، فكان في مبتدأ أمره نجاراً للسفن بدار الصناعة، ثم اتخذ له مخبزاً لصنع الخبز، ومات بالقاهرة في 4 رجب سنة 1310.
وولد المترجم بالثغر المذكور في عاشر ذي الحجة سنة 1261 ونشأ في قلة من العيش، ومالت نفسه إلى الأدب، فاشتغل به واسترشد من أهله وطالع كتبه، وحضر دروس الشيوخ بمسجد الشيخ إبراهيم باشا، وكان قليل الاعتناء بالطلب، غير مواظب على الدرس، إلا أن الله وهبه ملكة عجيبة وذكاء مفرطاً، فبرع في الفنون الأدبية، وكتب وترسل، ونظم الشعر والزجل، وطارح الإخوان وناظر الأقران.
ثم بدا له أن يتعلم صناعة للكسب، فتعلم فن الإشارات البرقية، واستخدم في مكتب البرق ببنها العسل، ثم نقل إلى مكتب القصر العالي، سكن والدة الخديو أيام ولاية ابنها إسماعيل باشا، وبقى به مدة عرف فيها كثيراً من أدباء القاهرة وشعرائها، مثل الأمير محمود سامي باشا البارودي، ومحمود أفندي صفوت الساعاتي، والشيخ احمد وهبي.
ثم غضب عليه خليل أغا، أغا القصر، وكان في سطوة لم يبلغها كافور الأخشيدي، فأمر بضربه وفصله.
فضاقت به الحيل ورقت حاله، حتى توصل إلى الشيخ أبي سعدة عمدة بداوي بمديرية الدقهلية، وأقام عند يقرئ أولاده، ثم تشاحنا وافترقا على بغضاء.
واتصل بالسيد محمود الغرقاوي، أحد أعيان التجار بالمنصورة فأحسن منزله، وفتح له حانوتاً لبيع المناديل وما أشبهها.
فكانت نهاية أمره أن بدد المكسب ورأس المال، وجعل يجوب البلاد وافداً على أكابرها، فيكرمون وفادته ويهشون لمقدمه، لما رزقه من طلاقة اللسان، وخفة الروح، وسرعة الخاطر في النظم والنثر، فيطوف ما يطوف ثم يأوي إلى دار الغرقاوي بالمنصورة، إلى أن ورد طندتا سنة 1293، واتصل بشاهين باشا كنج مفتش الوجه البحري إذ ذاك، ولاتصاله به سبب لا بأس من ذكره: وهو أن الباشا المذكور كان بينه وبين الشيخ محمد الجندي أحد العلماء بالمسجد الأحمدي صحبة وتزاور، وكان الشيخ يحب الغناء ويطرب له، ولذلك كان يستحضر فتى حلاقاً حسن الصوت ليغني له في داره، فأمر مرة أن يغني بحضرة الباشا، فغنى بقول المترجم: سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه ...
وكفوا إذا سل المهند حاج وعودوا إذا نامت أراقم شعره ...
وولوا إذا دبت إليكم عقاربه ولا تذكروا الأشباح بالله عنده ...
فلو أتلف الأرواح من ذا يطالبه أراه بعيني والدموع تكاتبه ...
ويحجب عني والفؤاد يراقبه فهل حاجة تدني الحبيب لصبه ...
سوى زفرة تثنى الحشا وتجاذبه فلا أنا ممن يتقيه حبيبه ...
ولا أنا ممن بالصدود يعاتبه ولو أن طرفي أرسل الدمع مرة ...
سفيراً لقلبي ما توالت كتائبه وكان كثيراً ما يتغنى بها، فطرب الباشا طرباً شديداً، واستظرف قائل الأبيات وتمنى رؤيته، فأرسلوا له بالحضور.
فلما حضر إلى طندتا، وواجهه استقبح صورته، إلا أنه أعجبه ظرفه وأدبه ومال إليه، فاتخذه نديماً لا يمل، ورفيقاً حيث حل.
فلما استقرت به النوى وملأ يده من الباشا، استعداه على أبي سعدة الذي كان يقرئ أطفاله، وادعى أنه أخر له ثلاثين ديناراً من أجرة التعليم، فأمر الباشا بأشخاصه إلى طندتا، وألزمه أن يدفع للمترجم مائة جنية، فدفعها عن يد وهو صاغر.
وكان مجلس شاهين باشا محط رجال الأدباء ومنتجع الشعراء والندماء، لا يخلو من مطارحات أدبية ومساجلات شعرية، وللمترجم بينهم المقام الأعلى والقدح المعلى.
وحسبك ما وقع له من طائفة (الأدباتية) وهم مشهورون بالقطر المصري يستجدون الناس في الطريق بإنشاد الأزجال والضرب على الطبل، وأغلب أزجالهم مرتجلة في مقتضى الحال.
فكان للمترجم معهم يوم مشهود ذكره في مجلة الأستاذ ثم اتصل المترجم بالبيك التتونجي فجعله وكيلا على ضياعه، وما زال حتى لحق بالإسكندرية مسقط رأسه ومنبت غرسه، وكان منه ما سنقصه عليك تلك خلاصة ترجمته في أول أمره ومبتدأ خبره، وكان القطر المصري في تلك الأثناء في اضطراب وهرج ومرج من اختلال الأحوال وفساد الحكام واعتلاء الإفرنج على الأهلين، وقد سئم الناس حكم إسماعيل باشا وتمنوا زوال دولته، فلما وفد المترجم على الثغر رأى لفيفاً من الشبان ألفوا جمعية سموها (بمصر الفتاة) يتآمرون فيها سراً خوفاً من بطش الخديو، فعرف منهم البعض، واشتغل بالكتابة في صحب الأخبار، فأعجب الكتاب بمقالاته، واقتدوا به في تحسين الإنشاء، وكان سقيما منحطاً في ذلك العهد.
ثم سعى مع جمع من الأدباء فألفوا جمعية سموها (بالجمعية الخيرية الإسلامية) سنة 1296 آخر سني إسماعيل باشا في الحكم وجعلوه مدير مدرستها.
ثم عزل الخديو وتولى ابنه توفيق باشا، ففرح الناس وظنوا انفراج الأزمة.
وجد المترجم واجتهد في إنجاح مسعاه في الجمعية حتى حمل الخديو على زيارة مدرستها، فزارها يوم امتحان تلاميذها، وجعلها في حماية ولي عهده عباس بيك، وأنعم لهم بالمدرسة البحرية يدرسون بها، وأجروا عليها من الحكومة مائتين وخمسين ديناراً في السنة مساعدة.
وطفق المترجم يؤلف القلوب ويحض الأهلين على الالتئام بالمقالات والخطب ينفثها قلمه ولسانه، وألف قصة تمثيلية سماها (الوطن وطالع التوفيق) وأخرى سماها (العرب) شرح فيهما ما كانت عليه حالة القطر وما طرأ عليه، ثم مثلهما هو وتلاميذه بأحد ملاعب لثغر بحضور الخديو، فكان لهما تأثير كبير في النفوس، واشتهر المترجم وعلا كعبه، ولهج الناس بذكره، ثم طرأ فساد على الجمعية سبوه إليه فانفصل منها، وكان شرع في إنشاء صحيفة سماها (التنكيت والتبكيت) مزج فيها الهزل بالجد، ظهر أول عدد منها في 8 رجب سنة 1298، وظهر في أثناء ذلك وميض الثورة العرابية من خلل الرماد، فوافقت هوى في نفس المترجم لميله إلى الشهرة وبعد الصيت، فضموه إليهم وشدوا أزرهم به، فملأ صحيفته بمحامدهم، ودعا إلى القيام بناصرهم، وخطب الخطب المهيجة ونظم القصائد الحماسية، وندب الوطن ورثاه، وحض على الاجتماع والتكاتف ونبذ أضاليل الإفرنج، فأثرت قالته في النفوس وأشربتها القلوب، وادعى الشرف وانتسب إلى الإمام الحسن السبط رضي الله عنه، والله أعلم بتلك النسبة، فقد رأيت كثيرين ممن عرفوه ينكرونها.
ثم أوقف صحيفته بعد أن ظهر منها ثمانية عشر عدداً آخرها تاريخه 23 ذي القعدة سنة 1298 وكانت أسبوعية تظهر يوم الأحد.
وانتقل إلى القاهرة وهي جذوة من نار، وغير اسم صحيفته بأمر عرابي باشا كبير الثوار فسماها (الطائف) تيمناً باسم بلدة بالحجاز مشهورة، وتفاؤلاً بأنها تطوف المسكونة كما جابتها جوائب احمد فارس.
واسترسل المترجم مع رجال الثورة حتى صار جذيلها المحك، وعذيقها المرجب، ولقبوه بخطيب الحزب الوطني.
وقام سراة القطر وأعيانه يعقدون المجتمعات ويولمون الولائم للعرابيين ويدعون المترجم للخاطبة، فكانت له بها المواقف المشهودة، والأيام المعدودة، حتى استفحل الأمر وقامت الحرب بالإسكندرية بين الإنكليز والمصريين يوم الثلاثاء 25 شعبان سنة 1299.
فسافر المترجم إليها مع جماعة من رؤساء الجند وبات بها ليلة، ثم لحق بعرابي باشا وقد انهزم إلى كفر الدوار، ثم انتقل معه إلى التل الكبير وهو ينشئ صحيفة الطائف بالمعسكر فيضمنها أخبار الانتصار ويحشوها بالأكاذيب تهدئة للأفكار، حتى وقعت الهزيمة الكبرى على المصريين بالتل الكبير، ففر عرابي باشا وعلي باشا الروبي ومعهما المترجم إلى القاهرة يوم الأربعاء 29 شوال من السنة المذكورة، واتفقوا على إرساله إلى الإسكندرية بكتاب يطلبون به العفو من الخديو فسافر به يوم الخميس، ولما وصل إلى كفر الدوار بلغه القبض على زعماء الثورة ودخول الإنكليز القاهرة.
فعاد إليها ليلا وبقى في داره بجهة العشماوي إلى الصباح، وخرج مع والده وخادمه فركبوا عجلة وقصدوا بولاق، ورآه شاهين أفندي فؤاد المفتش بالمصرف العقاري، وهو من مماليك عباس باشا وآلي مصر فظنه غير مطلوب، قال ولولا ذلك لقبضت عليه.
فلما وصلوا إلى بولاق ودعه أبوه واختفى هو وخادمه ولم يظهر لهما أثر، فأقام مختفياً نحو تسعة أعوام لا يهتدي إلى مكانه، وقد أعيى الحكومة المصرية أمره حتى جعلوا ألف دينار لمن يرشد إليه، وبثوا عليه العيون فلم يظفروا منه بطائل، فلما أعيتهم الحيل حكموا عليه بالنفي مدة حياته من القطر المصري، ويئس أصحابه من وجوده، وأشيع القبض عليه وخنقه سراً، ومنهم من أشاع موته حتف أنفه، ومنهم من أشاع هربه إلى بلاد الإفرنج، فعد اختفاؤه من الأمور الغريبة، ولا غرو فأمره غريب من أوله. القبض عليه وكان يتردد على بلدة الجميزة (مركز السنطة) رجل يقال له حسن الفرارجي كان منتظماً في العسكر، ثم استخدم جاسوساً سرياً، فأبصر رجلاً أنكر حاله لما رآه عليه من سيما الاختفاء، ورجح أنه عبد الله نديم، فكتب إلى الديوان الخديوي ينبئهم بوجود رجل من العرابيين مختف بالجميزة، وأسرع إلى ديوان الداخلية فأوضح لهم أمره فأعطوه ورقة بحليته، فلما تحقق منه أخبرهم به، فأمروا بالقبض عليه، وحضر من المديرية محمد أفندي فريد وكيل (الحكمدار) ومعه نفر من الشرطة ستروا ملابسهم بثياب أخرى، فأحاط بعضهم بالبلدة متفرقين، وصعد وكيل الحكمدار مع الآخرين على تل مشرف على أفنية الدور، وأحسن المترجم بتلك الحركة، فأوجس في نفسه خيفة، وأراد الانتقال إلى دار أخرى فأخذ عيبته على، كتفه وصعد على سطح المكان فأبصره الذين على التل، فصاحوا وصوبوا بنادقهم عليه، وأمروه بالنزول فنزل، ثم أحاطوا بالدار، وطرقوا الباب طرقاً عنيفاً وأيقن المترجم انه مأخوذ لا محالة، ففتحه لهم، وواجههم متجلداً، فسأله محمد أفندي فريد عن اسمه فقال له: سبحان الله أتجهل اسمي وأنت مأمور بالقبض عليّ، أنا عبد الله نديم ذو الذنب العظيم، وعفو مولاي الخديو أعظم، سلمت أمري لله، فقبضوه هو وخادمه وأعماهم الله عن كتبه وأوراقه، ولولا ذلك لأصابه شر عظيم بسبب أهاجيه القبيحة في الخديو وأسرته، وكان القبض عليه في 29 صفر سنة 1309، ولم ينل الواشي به شيئاً من الجعل لفوات الأجل المضروب للمكافأة، ثم استاقوهما إلى المركز، وسألوه عمن اختفى عندهم، فلم يقر بأحد، وسألوا خادمه وضربوه، فأقر بالبعض ونقلوهما إلى المديرية بطندتا، فسجنا بعض أيام، ووكيل النيابة بالمحاكم يوالي سؤالهما، وانتهى الأمر بعفو الخديو عنه وعمن آواه ونفيه خارج القطر. نفيه فاختار يافا ثغر القدس الشريف ووصلها في غروب يوم الجمعة 12 ربيع الأول، ونزل عند السيد علي أفندي أبي المواهب مفتيها، ولما دخل دارهوعرفه بنفسه قام واعتنقه وضحك وبكى.
فأقام عنده شهراً، ثم اتخذ له داراً وعرفه أعيانها وفضلاؤها، وأكرموه وواسوه جزاهم الله خيراً.
ثم رحل رحلته إلى نابلس وسبطيه وقلقيلا وغيرها من البلاد الفلسطينية.
واجتمع بطائفة السامرة واطلع على كتبهم ومعتقداتهم كما رأيته بخطه في كتابه أرسله لأحد أصدقائه في مستهل رمضان.
ولم يزل مقيما بيافا حتى مات الخديو وتولى ولده عباس باشا في جمادى الثانية، فعفا عنه وأباح له العود إلى مصر.
قال في آخر ذلك الكتاب (عزمنا على الحضور بعد العيد إن شاء الله تعالى، فإن موسم سيدنا موسى الكليم يعمل في نصف شوال، ولا أحضر حتى أزوره مرة ثانية فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه، وذلك أني عند دخولي حضرته الشريفة أنشدته في الحال: رجوتك يا كليم الله حاجا ...
أرجيها وقد حققت فضلك فقل لي مثلما لك قبل أوحى ...
اله الخلق قد أوتيت سؤلك فرأيته ليلا يقول لي (قم روح) ثلاثاً، وكانت ليلة 3 رجب وهو تاريخ صدور الأمر)
. انتهى ما نقلته من خطه. عودته إلى القاهرة ولما عاد إلى مصر استوطن القاهرة، وأنشأ مجلة الأستاذ في شهر صفر سنة 1310، فبرزت موشحة ببديع مقالاته وغرر أزجاله وموشحاته.
وبدت الوحشة في أثناء ذلك بين الخديو والإنكليز، وكان ما كان من عزله صنيعتهم مصطفى فهمي باشا كبير الوزراء ومعاكستهم فيما يريدون.
فقام المترجم يستنهض الهمم ويحض على موازرة الخديو ونبذ طاعة سواه، وكتب في ذلك المقالات الطويلة بالأستاذ حتى أحفظ الإنكليز وخشوا من اتساع الخرق لمكانته السابقة من النفوس، وسعى حساده بما سعوا ولفقوا ما لفقوا، فأوقفوا مجلته في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة وأعادوه إلى يافا منفياً بعد أن أعطوه أربعمائة دينار، وأجروا عليه خمسة وعشرين كل شهر، واشترطوا أن لا يكتب بشأن مصر كلمة، ولم ينفعه الخديو لقصر يده. نفيه إلى يافا فلما استقر المترجم بيافا لم يسلم من السعاية به لدى السلطان، فأمر بإبعاده فعاد إلى الإسكندرية متحيراً، ولقد لفظته البلاد لفظ النواة، فسعى له الغازي احمد مختار باشا وساعده حتى قبله السلطان المعظم عبد الحميد بدار السلطنة، واستخدمه في ديوان المعارف ووظف له خمسة وأربعين ديناراً مجيدياً في الشهر، فأمضى بها بقية أيامه شريداً عن وطنه بعيداً عن أهله وخلانه حتى اشتدت عليه علة السل، فلقي حمامه في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314 وفاته ودفن بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش، وضاعت مؤلفاته ودواوينه ولم يظهر منها إلا جزء من (كان ويكون) كان يطبعه ذيلاً للأستاذ، وكتاب آخر نسبوه إليه اسمه (المسامير) محشو بالهجو القبيح في الشيخ أبي الهدى الصيادي نزيل دار السلطنة، فمضى وكأنه لم يكن رحمه الله رحمة واسعة.
ومن تألم بعين الاتعاظ في تقلب الأحوال بالمترجم، وما ذاقه من حلو الزمان ومره، وقاساه مدة الاختفاء ثم النفي حتى مات غريباً طريداً، حق له العجب وعرف كيف يعبث الزمان بأهل الفضل من بنيه. ونشأ المترجم فقيراً كما قدمنا، وعاش في قلة فإن أصاب شيئاً بدده بالإسراف، وكان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية المعلومة، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان واعتم بعمامة خضراء إشارة إلى الشرف، وكان شهي الحديث حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقاماته بمصر، فرأيت رجلاً في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ.
أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا، وقد انتخب أخوه عبد الفتاح أفندي جملة صالحة من مقالاته جمعها في كتاب سماه (سلافة النديم) فارجع إليه إن شئت. ونحن ذاكرون من شعره ما يحتمله المقام، فمن ذلك مرثيته في الخديو محمد توفيق باشا وقد أشار إليها في كتاب أرسل به من يافا في 16 جمادى الثانية سنة 1309 يقول فيه (غمني وكدرني موت الحضرة الخديوية لأمور: (أولاً) فلعفوه عني وإحسانه إليّ، (ثانياً) لسابقة معروفة معي وتوجهاته السابقة، (ثالثاً) لصغر سنة، (رابعاً) لصغر سن أنجاله، (خامساً) لصغر سنة حرمه وما تقاسيه من حزنها عليه لما كان بينهما من شدة الألفة والمحبة (سادساً) لأنه كان برزخاً بين مصر وبين نكبات إنكلترة وغيرها والله تعلى يجري الأمور على السداد، وسأبعث بمرثية رنانة لحضرة ولدي مصطفى بك ماهر رئيس ترجمة ديوان الحربية ليطبعها وينشرها على حدتها) انتهى ما نقلته من خطه، ولم أقف إلا على ثلاثة أبيات منها ذكرها المترجم بالأستاذ وهي: ما للكواكب لا ترى في المرصد ...
والكون أصبح في لباس أسود عم الكسوف الكل أم فقد الضيا ...
أم كلنا يرنو بمقلة أرمد وتاريخها فملائك الجنات قالت أرخوا ...
توفيق في عز النعيم السرمدي 1309 ومن مختار شعره قوله من قصيدة لم نعثر منها إلا على هذا القدر سيوف الثنا تصدا ومقولي الغمد ...
ومن سار في نصري تكلفه الحمد ومنها ومن عجب الأيام شهم أخو حجا ...
يعارضه غر ويفحمه وغد ومن غرر الأخلاق أن تهدر الدما ...
لتحفظ أعراض تكفلها المجد ويقال أنه نظمها بحضرة شاهين باشا تبكيتاً لمن زعم قصور الشعراء عن معارضة أبي الطيب المتنبي في قوله: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ...
عدواً له ما من صداقته بد قلت: بين القولين فرق ظاهر للمتأمل، وأين الثريا من يد المتناول؟ ومن شعره قوله أيام اختفائه، وكتب بها إلى صديق له يسليه على نازلة نزلت به: يا صاحبي دع عنك قول الهازل ...
واسمع نصيحة عارف بالحاصل اجهل تجد صفو الزمان فإنه ...
من قسمة الفدم الغبي الجاهل ودع التعقل بالتغفل يستقم ...
أرم المعاش فحظه للغافل وارض البلادة تغتنم من بابها ...
مالاً وجاهاً بعد ذكر خامل وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق ...
بحروب دهر لا يميل لفاضل قلب تواريخ الأولى سبقوا تجد ...
دنياك ما قيدت بغير الباطل تجد الأفاضل في الزوايا كلهم ...
حال الحياة وبعدها بمحافل العلم ستر كالسحاب به ترى ...
شمس الحقيقة خلف ذاك الحائل هل أبصرت عيناك ديواناً به ...
مدح البليغ جميل سعد حافل إن قلت أي، فاذكر لنا من ناله ...
أولا، فعش كالناس في ذا الساحل ضدان لا تلقاهما في واحد ...
مال الغبي وحكمة للكامل ثم ذيلها بنثر أضربنا عن ذكره.
ومنه قوله وضمنها كتاباً كتبه مدة اختفائه لأحد أصدقائه: وبعد فهذا شرح حالة غائب ...
عليه من اللطف الخفي ستور تدور به الأهوال حول مدارها ...
فيصبر والقلب الرضى صبور عسى فرج يأتي به الله إنه ...
على فرجي دون الأنام قدير

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١