أرشيف المقالات

من وراء المنظار

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 من أدلة المروءة الناس يغذون في السير إذ يغدون إلى أعمالهم ولا تزال الشمس حمراء الخيوط فاترة الأشعة، وما من أحد إلا وفي مشيته النشاط والجد، وما من شارع إلا وقد دبت فيه الحياة أو تمثلت فيه أنماط من صور السعي إلى الرزق، وكل امرئ في شغل بسعيه عن غيره. ومررت بباب أحد الفنادق الكبرى، فإذا بغانية كأن وجهها زهرة نَّضرتها أنسام الفجر وأنداؤه، وكأن عينيها نجمتان تخلفتا عن المغيب، وكان يضع خدم الفندق متاعها في سيارة من سيارات الأجرة، بينما كانت تحمل على ذراعها معطفها وفراءها وعدداً ليس بالقليل من ثيابها.

وسقط ثوب على الأرض فأسرع ثلاثة أو أربعة من شبابنا يتنافسون في السبق إليه، وظفر أحدهم بالتقاطه فأزال عنه الغبار بمنديله وقدمه إلى الغانية مزهواً مسحوراً بابتسامتها؛ وهذه مروءة منه لاريب، ونحن قوم أولو مروءة، فلا تحسبن أن مرد ما فعل ذلك الشاب إلى ما جذبه من جمال.
ولو أنها كانت عجوزاً فهل تشك في أنه كان يسعى إليها؟ إنك إذن لمن الجاحدين.
ومضيت أغبط الفتى على مروءته، أو قل أحسده على ما ظفر به جزاء على فعلته، وأذكر ليلة الأمس إذ نزل من النادي أحد الكبراء من أصحاب الديوان، فدفعت المروءة بعض الأساتذة الأماثل إلى الحفاوة به: فهذا يفتح له باب السيرة، وذلك يحنى له رأسه، بل لقد رأيت فيهم من عظمت مروءته فحمل له معطفه على ذراعه من أعلى النادي فناوله إياه في سيارته.
ولكن أحداً من هؤلاء لم يظفر بشيء كتلك الابتسامة الحلوة التي ظفر بها من الغانية هذا الشاب الذي لا يزال منى على خطوات. وبينما تنهال على ذهني صور تلك المروءات التي هي إحدى صفاتنا العامة، آمنت بذلك أو لم تؤمن، إذ التفت على صوت (موتسيكل) انقلب براكبه الشاب الأنيق وتفجرت منه النيران وقد اشتبك سروال الراكب المسكين بأحد أجزائه فما يستطيع النهوض، وعلقت النار بثيابه، وكلماهم وقع من الرعب ومن نشوب ثوبه بالحديد وهو يفرك النار عن ثوبه بيديه في لهفة ولا يدرى ماذا هو فاعل، وإنه ليدور بعينيه مستنجداً في صورة من الرعب لا توصف، وذلك الشاب ذو المروءة الذي يحترق من بنى وطنه.
ولا تسلني بالتقصي أهون عندي من أن تعيب على الفخر. واشتعلت النار في ثياب ذلك المسكين، وأيقن الناس أنه هالك لا محالة، وكلهم ينظرون وكأنهم لا يرون شيئاً، حتى أقبل كهل مقبع ليس من بنى جلدتنا وليس له مثل مروءتنا فخلع معطفه وكان والله جديداً ثميناً وألقاه على الشاب المحترق وضرب عليه بكفيه فأطفأ النار، ثم خلص الشاب وأعانه حتى بلغ به الطوار وأجلسه ثم نادى زميلا له ممن يتقبعون وإن كان حاسر الرأس ليستدعى الإسعاف، ولبث يقلب البصر في بدن الشاب ويهدئ روعه ويسأله عما أصابه من حروق ويهون عليه الأمر حتى جاءت عربة الإسعاف فحملته وهو يسأل ذلك الذي أنقذه عن اسمه وعنوانه ويلح عليه فلا يزيد على أن يبتسم له قائلا: (الحمد لله! مرسى يا حبيبي)، وتناول الرجل معطفه ومضى مطرقاً هادئاً لا ينظر إلى ما أصاب المعطف من احتراق في أكثر من موضع، وكأنه لم يفل شيئاً، ونحن ينظر بعضنا في وجوه بعض نظرات حمدت الله أن كان فيها شئ من الخزي لم يغرق كل الغرق فيما كانت تقطر من بلادة. ولم أمض غير بعيد حتى أبصرت عربة انزلق أحد جواديها في منعطف فخر وجذب الجواد الثاني حتى كاد يخنقه، ووثب الحوذي ينهض الجواد وحده فما يستطيع؛ فيستغيث الناس قائلا (يا هوه! يا مسلمين!) حتى جاءه بعد لأي رجلان فأعاناه مكرهين. وقلت في نفسي إن الدابة في القرية تقع في الترعة، وإن النار تعلق بالدور فيقبل الشباب والكهول من كل صوب للنجدة لا ينتظرون دعاء ولا يحفلون أذى.
أيكون مرد ذلك إلى أن أهل القرية يعرف بعضهم بعضاً؟ أم أن مرده إلى أنهم أهل نجدة لم تفسد المدنية فطرتهم؟ لست أدرى.
ولكن ذلك المقبع ليس من أهل القرية، ولا هو من أهل هذه المدينة! الخفيف

شارك الخبر

المرئيات-١