أرشيف المقالات

من محاسن التشريع الإسلامي

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
8 للأستاذ حسن أحمد الخطيب - 11 - برّه بأهل الذمة: من مزايا الشريعة الإسلامية، ومظاهر برّها، وشواهد فضلها، ودلائل إنعامها وخيرها، ومن آي تسامحها - كفالتها لأهل الذمة ورحمتها بهم، ورعايتها لهم، ودفع الظلم والأذى عنهم، فإنهم متى أعطوا الجزية - وجب تأمينهم، وحمايتهم،، والدفاع عنهم، وتوفير الحرية لهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم مالا يطيقون كالمسلمين، وينسمون أهل الذمة، لأن هذه الحقوق ثبتت لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله صلوات الله وسلامه عليه. أما الجزية التي تفرض عليهم فليس فيها مشقة، ولا عنت، كما أنها لم تجب عليهم اعتسافاً وتحكما، فهي قدر يسير من المال، لا يفرض إلا على الرجل الحر القادر على الكسب: فلا جزية على صبي، ولا على امرأة، ولا على فقير غير معتمل، كما أنها لا تجب على أهل الصوامع، وهي عند الحنفية ثمانية وأربعون درهما على الغني كل سنة، وأربعة وعشرون على المتوسط، واثنا عشر على الفقير؛ وعند الشافعي أقلها، وهو دينار، وأكثرها غير محدود، وذلك بحسب ما يصالحون عليه.
وقال قوم: ليس لهم قدر معين، وإنما هو متروك لاجتهاد الإمام. واختلف العلماء في سبب أخذها منهم، وأقرب الآراء، وأولاها بالترجيح ما رآه العالم المحقق السيد محمد رشيد رضا، من أنها واجبة للدفاع عنهم وحمايتهم من الاعتداء عليهم، كما يفهم من سيرة أصحاب الرسول ﷺ، وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة، وأعدلهم في تنفيذها، فمن ذلك ما كتبه خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا، حينما دخل الفرات: (هذا كتاب من خالد ابن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني أعاهدكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا)، وذكر البلاذري في فتوح البلدان، والأزدي في فتوح الشام - أن الصحابة رضوان الله عليه ردّوا ما أخذوه من أهل حمص من الجزية، حين اضطروا إلى تركهم لحضور وقعة اليرموك لعجزهم عن الدفاع عنهم في ذلك الوقت، فعجب أهل حمص نصاراهم ويهودهم أشد العجب من ردّ الفاتحين أموالهم إليهم. ذلك، وقد أوصي الإسلام بأهل الذمة خيراً، أوصى ببرهم، والإحسان إليهم، وحرم ظلمهم، أو أخذ شي منهم بغير حق، كما أنه لم ينه المسلمين عن معاملة مخالفيهم في الدين - بالقسط والبر، وإن لم يكونوا أهل ذمة إذا لم يقع منهم عدوان ولا بغي، قال الله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم - أن تولوهم - ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)، وروى داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله ﷺ عن آبائهم - أن رسول الله قال: (من ظلم معاهداً أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجة يوم القيامة). وجاء في كتاب لعمر بن الخطاب أرسله لعمرو بن العاص عامله على مصر (وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد وصى رسول الله ﷺ بهم وأوصى بالقبط فقال: (استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً)، ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله وعليه وسلم: (من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) فأحذر يا عمرو أن يكون رسول الله لك خصما، فإنه من خاصمه فالله خصمه). وجاء في كتاب آخر أرسله عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ابن الجراح قوله في شأن أهل الذمة (وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحقها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت لهم في جميع ما أعطيتهم). أدرك المسلمون الأولون من هذه النصوص وغيرها، ومن تعاليم الإسلام وسمو مبادئه - مدى رحمة الإسلام وعطفه على مخالفيه من الذمة والكتاب - ما استقاموا على الطريقة، ونأوا عن الإثم والعدوان - فلم يعرف عنهم اضطهاد لهم في دينهم، ولا حرمان لهم من حقوقهم، واستخدمهم الخلفاء الأمويون والعباسيون في ترتيب دواوين الخراج، وترجمة علوم اليونان، وقربوا النابغين منهم، واعتمدوا عليهم في شفاء عللهم، بل عدهم المسلمون عضواً في هيئتهم الاجتماعية، يحافظون عليه، كما يحافظون على أنفسهم، وساسوهم بالعدل والرفق، وأشركوهم معهم في مرافق الدولة، وكان شعارهم - حيال أهل الذمة - (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، وهي سياسة عادلة رحيمة، جعلت المؤرخ الاجتماعي جوستاف لوبون يقول: ما رأيت فاتحاً أعدل، ولا أرحم من العرب. (للبحث بقية) حسن أحمد الخطيب

شارك الخبر

المرئيات-١