أرشيف المقالات

شهر بالغردقة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 5 - شهر بالغردقة للأستاذ الدمرداش محمد مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف والتنظيم الإداري في منطقة الآبار يبلغ درجة عظيمة من الاتقان، والدخول فيها لغير موظفي الشركة غير مسموح، والتدخين فيها ممنوع والقائمون بالعمل فيها ثلاث فئات، طبقة الموظفين الكبار الصناع، وهم خليط من الإنجليز والفرنسيين والأرمن، ثم طبقة الصناع والعمال وغالبيتهم من المصريين من أهالي قنا وقفط، ويقيمون في قرية منازلها نظيفة منسقة في طرفها الشمالي مسجد كبير شيده العمال على نفقتهم الخاصة، ويقوم بالإمامة فيه عالم من الأزهر سمعته يوم الجمعة يلقي الخطبة بعبارة مهذبة جلية، وبالقرب من المسجد كنيسة للأقباط، وفي الجهة الغربية من القرية مدرسة أولية يتعلم فيها أولاد العمال وصغار الموظفين، وبالقرية حانوتان كبيران تباع فيهما أنواع الحاجات المنزلية بأثمان معتدلة، وسكان القرية نحو 650 نسمة منهم 450 من الصناع والعمال. وبالغردقة طبيب ومأمور تابع لمصلحة الحدود لفض المنازعات، ويقيم بها أيضاً مفتش سواحل البحر الأحمر، وهو موظف مصري كبير تمتد سلطته من جنوبي القصير حتى السويس، مركزه دقيق فهو يقوم بالحكم في أربع مناطق نفوذ لشركات أجنبية قوية، ففي القصير وسفاجة شركتان للفوسفات الأولى طليانية والثانية إنجليزية، وفي الغردقة ودمشة شركتان للبترول وهما إنجليزيتان، ومن أهم واجباته صون النظام العام داخل هذه الشركات والمحافظة على الأرواح والأملاك في سفاجة في طريق معبدة تارة تحاذي البحر في انبساط وطورا تحيد عنه إلى سفوح الجبال فتعلو وتهبط وتنحني وتنثني - في هذا الطريق درجت بنا السيارة في الصباح جهة الجنوب قاصدة سفاجة إحدى مواني الفوسفات على البحر الأحمر فوصلناها ضحى، بعد أن قطعنا سبعين كيلومترا في ثلاث ساعات، وسفاجة كالغردقة - كل منهما مركز لشركة أجنبية، فهناك البترول وهنا الفوسفات، وهناك (فيللات) مشيدة ومساكن منسقة وهنا أيضاً (فيللات) ومساكن، وهناك الرأس أجنبية واليد مصرية، وهنا الحال كذلك وتقع سفاجة فوق البحر على سفح جبل عال من الجرانيت وأمامها جهة الشرق جزيرة طويلة مرتفعة، وهي كالغردقة طلقة الهواء خفيفة الروح ولسفاجة مرفأ حسن نصبت فوقه الروافع القوية ومدت عليه سكة حديدية، وعلى مقربة منه تقوم مخازن الشركة ومصانعها ومكاتبها ومقطرات الماء (الكوندسة) نزلنا نقطة بوليس مصلحة الحدود وبعد راحة قصيرة ذهبنا إلى المرفأ حيث كان في انتظارنا سفينة شراعية من مراكب الصيد فسارت بنا صوب الجزيرة في بحر مضطرب، وبعد ساعة أرست أمام شاطئ مرجاني، فانصرف بعضنا إلى الجزيرة للرياضة وصيد الطيور، ومكث البعض الآخر في القارب يلهو بصيد السمك بالشص، وانتجعت ناحية في المركب قرب مقدمها، وجلست أسرح البصر في البر والبحر - كان المنظر بهيجاً حقاً يملأ النفس انشراحاً وحبورا، فجهة الغرب سفاجة بمنازلها ناصعة البياض، ومن خلفها الجبل قائم كالستار الأسود فبدت البلدة أشد ما تكون وضوحاً وتحديداً ومن تحتها البحر يمتد في زرقة نضرة إلى الأفق جهتي الشمال والجنوب، وفي محاذاة البحر شاطئ متجعدا متعرجا في نتوء وانحناء، ومن وراء الشاطئ سلسلة جبال العرب تسمو في عظمة تتضاءل مع مد النظر حتى تصير هي والبحر خطين متوازيين يلتقيان والسماء، وجهة الشرق جزيرة سفاجة في صفرة شديدة تنعكس صورتها في الماء فيبدو أخضر قاتماً، والقارب فوق الماء كالأرجوحة يعلو ويهبط في رفق وهوادة، والموج يلطم جانبيه في توقيع كالنقر على الدف ونسيم بليل عليل يخدر الأعصاب ويثقل الجفون ويجعل النوم أشهى ما يكون - فاتكأت بظهري على (برميل) كان بجانبي والنوم يغالبني، فكنت أغفو تارة وأصحو أخرى، وقد مرت على ساعة هكذا وأنا في سعادة ما بعدها سعادة. كان شريكي في (البرميل) أحد نوتية القارب جمعت سحنته كل مميزات عرب الحجاز من سكان السواحل، فوجه طويل نحيف تحيط به لحية شعثاء خفيفة وعينان صغيرتان براقتان في حاجر بارز فوقه حاجب غزير الشعر، وبشرة نحاسية صقيلة وجسم ناحل دقيق، وصاحبي رقيق الحال لا يستر جسمه سوى أسمال من بقايا ثوب عتيق أطرافها وخاط فتوقها على غير انتظام بغرز طويلة، فكانت معرضاً لأنواع الخيوط وألوانها، كان جالساً القرفصاء وقد بسط في حجره جلدة سمك مقددة امسكها بإحدى يديه واستعان باليد الأخرى على تمزيقها قطعا كان يحشى بها فمه ويلوكها ثم يبلعها من غير أدم، وبعد أن أكل الجلدة حتى ذيلها ورأسها وزعانفها مد يده إلى ناحية من المركب فاخرج منها علبة دخان قبض منها بين إصبعيه قبضة صغيرة من دخان أغبر، دس فيها قطعة صغيرة من مادة حجرية بيضاء، ثم ضغطها وألقاها في فمه، وبعد أن مضغها ألقاها في حلقه كذلك فقلت ماذا تفعل يا أخي؟ فأجاب غير مكترث: - هذه سمكة آكلها وهذا تبغ أمضغه - وهل أشبعتك هذه الجلدة؟ - الحمد لله تكفي فقلت في نفسي مكرراً عبارته الحمد له الذي لا يحمد على النعمة والحرمان سواه، وقبيل الظهر أقلعت بنا السفينة عائدة إلى سفاجة في بحر هائج وريح قوية، فكانت نزهة بحرية لم تخل من مجازفة وبعد الظهر توجهنا إلى مكتب مدير الشركة فاستقبلنا بحفاوة وأخذ يصف لنا أعمال الشركة فقال: هنا المرفأ والمطاحن والإدارة، وفي وادي الحويطات على بعد 22 كيلومتراً من هنا مناجم الفوسفات، والفوسفات كما تعلمون صخر تكون منذ عصور جيلوجية بعيدة من تراكم عظام حيوانات فقرية برية وبحرية من أسماك وزواحف، ومع مرور الزمن الطويل تحولت هذه العظام إلى مادة متماسكة مندمجة يقال لها في علم الكيمياء فوسفات الكلسيوم، ويوجد الفوسفات ضمن طبقات العصر الطباشيري في بعض جهات القطر المصري، كسفاجة والقصير، واسنا، وفي بعض الواحات، والفوسفات لا توجد نقية بل مختلطة بصخور أخرى، وتختلف نسبتها في الصخر الخام من 30 في المائة إلى 75 في المائة، على أن النوع الذي يطلب عادة في التجارة هو الذي يحتوي على 60 في المائة - ونستعين بالطرق الميكانيكية على استنباط الفوسفات من المناجم ونستخدم كذلك عدد كبيراً من العمال في عمليات الحفر، وفرز أحجار الفوسفات وفصلها عن المواد الأخرى، وفي شحنها من المناجم إلى المطاحن.
وبين سفاجة ووادي الحويطات سكة حديدية تنقل في الذهاب الماء العذب والزاد للعمال والموظفين، وتنقل في العودة الفوسفات ثم انه دعانا لمصاحبته إلى المطاحن، وهي بناء كبير من طبقات قد ركبت فيها ماكينات على هيئة اسطوانات كبيرة، داخلها كرات ملساء من الصلب يلقى فيها حجر الفوسفات بعد تجفيفه بنشره في الهواء تحت أشعة الشمس، فيتبخر ما به من الرطوبة فإذا دارت الاسطوانات طحنت الكرات الفوسفات وجعلته كالدقيق الناعم (البودرة) وبعد تعيين نسبة الفوسفات الخالص في عينات الدقيق المختلفة ثم مزجها بالقدر اللازم توضع في أكياس ذات سعة محدودة وترسل للمخازن حيث (تشون) للتصدير. ثم بعد ذلك جلنا حول المطاحن وشاهدنا الفوسفات وهو منشور قبل نقله إليها وهو على هيئة صخر أبيض اللون يميل إلى الصفرة، ولا تزال ترى فيه بقية من أسنان الأسماك التي كونته وبعضها صغير شديد الاندماج كبير لا يختلف كثيرا عن أسنان الحيوانات البحرية التي تعيش الآن، وقال المدير إنهم أحياناً يعثرون على بعض أجزاء من عظام الحيوانات القديمة حافظة شكلها ثم انتقلنا إلى مقطرات الماء العذب من ماء البحر، ثم زرنا مكان توليد القوة التي تدير المطاحن والدوافع، وتنير المدينة بالكهرباء والفوسفات سماد لبعض المزروعات، وهو شائع الاستعمال في كثير من الجهات، على أنه في حالته الطبيعية لا يصلح سماد لقلة ذوبانه في الماء ولذلك يصدر للخارج لتحويله إلى مادة تذوب يقال لها (سوبر فوسفات) ومعظم الناتج من مناجم سفاجة يصدر لليابان لهذا الغرض وسكان سفاجة نحو خمسمائة منهم أربعمائة من العمال والصناع وكلهم تقريباً من المصريين وفي الأصيل عدنا إلى الغردقة فبلغناها قبيل العشاء. الدمرداش محمد

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١