سيد قطب والسؤال الأصوب!!
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
{بسم الله الرحمن الرحيم }لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيمخمدت التجربة الأولى للصحوة الإسلامية في مصر (نسخة الأستاذ حسن البنا) بعد أن قمعها النظام الملكي، وخمدت الثانية (نسخة يوليو 1952) بعد أن قمعها النظام الناصري. وانتهى الأمر بالجيل الأول من الصحوة الإسلامية في مصر خلف جدران الإهانة والحرمان (السجون).وفي ظلمات السجن تساءل المعذَّبون- حسب رواية الأستاذ محمد قطب في بعض محاضراته- عن سبب تحول الجماهير من الحماسة والتأييد للحركة الإسلامية إلى الحماسة والتأييد لعبد الناصر وهو يحاربهم ويقتلهم؟.وكانت الإجابة يومها- حسب رواية الأستاذ محمد قطب أيضًا- هو الخلل العقدي..
أن الإيمان لم يتمكن من قلوب هؤلاء.ومن هنا اتجه فصيل من الحركة الإسلامية، عرف بالقطبيين بعد ذلك، إلى تصحيح العقيدة، وتبني فكرة مفادها أن شرط النصر هو تحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر وأن الشرك- أيًا كانت نسبته- يقف حائلًا دون تحقيق النصر والتمكين في الأرض، وأن الذين لم يصححوا عقيدتهم جاهليون لم يهتدوا بهدى الله.
مثلت هذه المقولة إطارًا نظريًا لفهم السيرة النبوية وفهم الواقع والعمل على تغييره، ومن ثم تحرك أصحاب هذه المقولة للبحث عن أدواتٍ لتنفيذ الفكرة، فكانت أداة التنفيذ التي اهتدوا إليها هي البدء في تكوين (النواة الصلبة/ الفئة المؤمنة)، التي تتربى على العقيدة الصحيحة وتنمو كالزرع حتى تكوِّن مجتمعًا مسلمًا يزاحم المجتمع الجاهلي ويبتلعه.ومن خلال منظور (الفئة المؤمنة) قرأ الأستاذ سيد قطب وأحباؤه السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، فنظر إلى جيل الصحابة- رضوان الله عليهم- وسماه (جيل قرآني فريد)، يقول: تفوقوا لأنهم تلقوا فقط من الوحي، وتفوقوا لأنهم تلقوا الوحي للتنفيذ، وأن من فعل مثلهم صار حاله كحالهم.وأكمل أخوه (الأستاذ محمد) فذكر أن لا فرق بيننا وبين الصحابة فإن كان شخص الرسول قائمًا بينهم فإن السنة النبوية بيننا كما هي ونص القرآن بيننا كما هو، فلا شيء يمنعنا- حسب قوله- من أن نكون مثلهم!!ولا أدري كيف ومعلوم أن الصحابة أنفسهم- رضوان الله عليهم- اقتتلوا بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم؟؟!!وجد سيد قطب ضالته في كتابات عبد الأعلى المودودي التي تتحدث عن ضرورة تصحيح المصطلحات الأربعة (الإله والرب والدين والعبادة) فراح يشرح ويفصل، هو والأستاذ محمد قطب، المفاهيم التي ينبغي أن تصحح؛ ووجد القطبيون ضالتهم في السلفية النجدية (أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله)، تلك التي لا تكاد تتحدث عن شيءٍ آخر غير التوحيد (تصحيح الاعتقاد)، وأضافت الدعوة السلفية النجدية بُعدًا آخر وهو الاهتمام بالتفاصيل، باعتبار أن البدعة بدرجاتها المختلفة مرفوضة كلها، وباعتبار أن النكير على المبتدعين مقدم على كل شيء؛ وحدث تحالف ضمني بين الرؤية القطبية والرؤية السلفية النجدية بعد الطفرة البترولية وتأييد السياسي الخليجي للقطبيين كمتمردين على خصمه السياسي (النظام الناصري)، فاستخدموا في سياق كشف ظلم النظام الناصري وتعديه على الدين والحريات الخاصة، بمعنى أن الحالة القطبية تحولت من فاعل يستهدف التغيير في اتجاه استئناف الحياة على قواعد الشريعة إلى موظفٍ في سياق الصراع السياسي بين النظم العربية التقدمية والرجعية.
(شرحت هذا في مقالين بعنوان: التوظيف السياسي للدعوة السلفية).وراقت فكرة الأستاذ سيد قطب لبقايا الإخوان، فقد كانت الفئة المؤمنة هي هي بأم عينها النسق المغلق (الجماعة المنظمة) التي بدأت بها تجربة الإخوان الأولى.وراقت الفكرة لطليعة الجهاديين في مصر فقد اشتدوا إلى محاولة الانقلاب العسكري بخلايا صغيرة في العدد (فئة مؤمنة).
وراقت فكرة قطب للذين صبوا غضبهم على عوام الناس مع السلطة فكفروا الجميع وطالبوا بالهجرة والخروج على المجتمع والسلطة.كانت فكرة الفئة المؤمنة شديدة الإغراء للجميع، كل نظر إليها وأُعجب بشيءٍ منها.منهم من استحسن أنه من (الفئة المؤمنة) ذات العقيدة الصافية، وهو معنى ينطوي على عزة واستعلاء وشعور بالتميز؛ ومنهم من استحسن أن النصر لا يحتاج لأكثر من عددٍ من الجلسات الفردية وتصحيح المفاهيم لدى قلة قليلة كسببٍ وحيدٍ-أو رئيسي- للنصر؛ ومنهم من استحسن العكوف ونقد المخالفين وتمزيقهم بدعوى تصفية المناهج التي ستربى عليها الفئة المؤمنة، ومنهم من استحسن الاجتماع في البيوت سرًأ والتحدث مع الخلان والأصفياء كأسرةٍ واحدة تفعل ما لا يفعله غيرها، ومنهم...وقد قدمت في المقال السابق أن كل الذين بعد قطب خرجوا منه حتى الذين يرفضونه ويتطاولون عليه!!حين تضع تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة بين يديك وتعيد النظر فيه مرة بعد مرة تجد أن ثمة عجلة فيما يتعلق بالنظرية والفكر.
تظهر فكرة من شخص له احترامه وتقديره فيندفع لها الناس؛ وتصبح مسلمة ونظرية كلية لا يناقشها أحد؛ وينحصر التنظير-بعد ذلك- في التفاصيل والدفاع عن الفكرة الكلية.عدم دقة السؤال البحثي الذي ذكره الأستاذ محمد قطب أوجد خللًا في النظرية وخللًا في التطبيق!!لم تكن الجماهير خلف الإسلاميين ثم تخلت عنهم.غير صحيح من حيث الكم ومن حيث المحتوى.فما قبل يوليو1952 هو العصر الليبرالي الاشتراكي في مصر وما حولها، وعامة الجماهير كانت حول الوفد وغيره، أو على الأقل لم يكن الناس كلهم خلف الرؤية الإسلامية؛ وحتى أولئك الذين احتشدوا خلف الإسلاميين يومها وإلى اليوم لم يحتشدوا طلبًا لتطبيق الشريعة وإنما بحثًا عن أغراض خاصة بهم تتعلق بالمأكل والمشرب، فالجماهير مستقلة تمامًا في حركتها، دوافعها وأهدافها لا علاقة لها بالمشروع الصحوي، واحترامها للإسلاميين وتأييدها لهم بعض الوقت يكون لأهدف أخرى لا علاقة لها بالمشروع الصحوي.وليتنا وقفنا على حركة الجماهير ندرسها ونستخلص منها الدروس كما فعل (جوستاف ليبون) في كتابه سيكلوجية الجماهير.
ولكننا- مع كثرة الصفعات التي تلقيناها من الجماهير وغيرها- لم نقف نتأمل ونستخلص الدروس والعبر، ولذا يتكرر ذات الدرس على ذات الجيل مرة بعد مرة ولا يفقهون!!صلاح حال الناس بتدابير عملية، والمجتمعات تتحول بفعلٍ ممتد على ظهر سنين طوالٍ من نخبة متخصصة في شتى المجالات، ولذا فإن الحركة العلمية التي تكونت في عهد التابعين لم تضعف حين ضعفت الخلافة العباسية، بل ظلت تتطور مستقلة عن السلطة نظرًا لوفرة رأس المال النخبوي في المجتمع في مجالات شتى.وكذلك: ظلت المجتمعات متمسكة بقيمها وأخلاقها لقرون من الزمان بعد أن ضعف السلطان، فكان ينبغي أن يُفهم أن الطريق طويل وأن نقطة البدء في المعالجة الصحيحة لواقع الناس من خلال نخبة متخصصة تباشر حياتهم الخاصة وتحاول أن تعالجها في سياق مجتمعي، لا من خلال قلة قليلة تستعلي على المجتمع وتصفه بالجاهلي؛ وتظن أن تصحيحها لعقيدتها يكفي لأن تستلم السلطة والمجتمع معًا!!وكان الخلل في الجهل بالتحولات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وأن الأمة تتشظى جغرافيًا بعد أن تشظت ثقافيًا تحت مسمى (الاستقلال).فقد قُسمنا إلى دويلات صغيرة بدعوى التحرر من الاحتلال الغربي.وتغيرت صيغة الحكم إلى (الدولة القومية) وهي عقيدة جديدة شديدة الإحكام والقسوة على كل شيء، وأنها هي التي تصارع الصحوة وصرعتها مرتين (النظام الملكي والنظام الناصري)، وأن علينا أن نقف ونعيد النظر فيما نواجه.كان علينا أن نسأل: كيف انتصر الخصوم على الصحوة؟
كيف أجهض الغرب حركة التجديد في الأمة وحوَّل مسارها لتسير خلفه وهي تدعي الرشد والاهتداء بنور النبوة؟!
وكان الأحرى بالذين جاءوا بعد سيد قطب أن يتساءلوا: كيف انتصر الخصوم مرة بعد مرة على (الفئة المؤمنة) التي لا يشك في إخلاصها؟!ولكن سؤالًا هكذا لم يطرح.
بل ظل القوم يعاندون ويستخفون بالتحديات الخارجية: النظم السياسية للدولة القومية والنظام الدولي.
ويتحدثون عن انهيار الغرب.وقد كان الغرب يومها يمر بأفضل مراحله على مر التاريخ: جمع الله له أسباب القوة المادية واتحاد الكلمة تحت قيادة فتية (الولايات المتحدة)؛ وظل القوم يستحضرون صورة النموذج المثالي للدعوة: قلة قليلة من المؤمنين يجتاحون العالم شرقًا وغربًا، ويحاولون استعادة هذا المشهد من جديد.
والذي أفهمه أن السيرة النبوية نموذج مثالي يجد فيه كل أحد أسوة (نموذج عملي للتشبه به) فالفقير يجد في حال النبي-صلى الله عليه وسلم- أسوة، وكذا الغني، والمنتصر، والمهزوم، ومن فقد ولده، ومن حضر ولده....
والذي أفهمه أن مراحل البعث والتجديد في الأمة لم يكن شرطها صفاء الاعتقاد فكثير ممن نهضوا يندرجون تحت وصف (مبتدع) بمقايس القطبيين والنجديين ولكنهم كانوا على أصل الإسلام!! اللهم رشدًا وعزيمة على الرشد.محمد جلال القصاص
14 رجب 1440