أرشيف المقالات

في رمضان. . .

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
8 للأستاذ منصور جاب الله لكل أمة مواسمها وأعيادها، وللمسلمين في رمضان موسم حافل جليل، فأما حفوله فيرجع إلى أن له طابعاً يمتاز به على سائر الشهور، فله مطاعم خاصة ومشارب خاصة لا تلذها الأعين في غير أيامه، ولا تشتهيها الأنفس إلا في صيامه، وهو يعد موسم التجارة ونفاق الأسواق، وزيادة الكسب، وتضاعف المرابح، فكم من تجارة معطلة أو بضاعة مزجاة تجد في غضونه موسمها الرائج، وعصرها الذهبي، وكم من صناعة يحييها رمضان من العدم، وتبقى ما بقيت أيامه، فإذا مضى انقضت بانقضائه، وأمست في قرارة النفس منها ذكرى فهو ولا غرو شهر تحي فيه النفوس وتستمتع به القلوب والعيون، وإذا كان رجل التقوى والورع يجد فيه متاع نفسه ولذتها، فرجل الفن ولا ريب واجد فيه طلبة روحه وبغيتها، فللحكمة فيه بلاغ، وللتذكرة مساغ، وللفكاهة تطريب، وللعلم ترغيب.
وإذا كان المسلم يجد في رمضان متاعاً من جهة الدين والتقى، فغير المسلم واجد متاعه من جهة الفن والملهى وكم شهدنا صدقاناً لنا على غير الإسلام يطوون هذا الشهر المبارك صائمين نهارهم فإذا جنهم الليل عمدوا إلى فطور المسلمين متلذين فرحين، ولقد كان بعضهم يرى في الإمساك عن الطعام مشاطرة لإخوانه المسلمين، وحفاظاً على تقاليد البلد الإسلامي، وتأدباً دون المجاهرة بالإفطار، فرمضان من هذه الناحية قاس على المفطرين، فما يُرى المرء مفطراً يطعم الطعام جهاراً نهاراً إلا أحس منه خروجاً على العرف ومخالفة مشنوعة للتقاليد، قد تتاخم في بعض الحين جريمة الاعتداء على المال أو العرض! ولقد كانت الدولات الإسلامية في ذرورها تعاقب المفطرين من غير عذر، بإقامة الحدود عليهم، هكذا يكون عقاب المستهترين بدين الله وشعائر الدولة والخارجين على نظام الحكومة وتقاليدها، ردعاً لهم وقمعاً لشهوات الناس المطوّحة بهم في سبل من المنكر لا ترضى وإذا كان قد رفع الحد عن المفطر لما تخاذلت الدولات الإسلامية، وتداخل العنصر غير العربي في إدارة الشئون، فلقد بقى على الأيام الحد الأدبي، فما أفطر بغير عذر إلا طريد مجتمع أو أضحوكة في المجالس وأما الآخرون من غير المسلمين فيصومون رمضان لا ورعاً ولا تقى، ولكن يصومونه صوماً فنياً بمعنى أنهم لا يشعرون بالأحاسيس الوجدانية والنفحات اللدنية التي يستحسها الصائمون القائمون من المسلمين.
وإنما يرون فيه حمية قامعة لا تحتاج إلى استشارة الطبيب، وهم إذا يرون ألوان المطعوم والمشروب يتشهون ما تقع عليه العيون، ويتحلب منهم اللعاب ثم يقبلون على الشراء وإذا هم يذكرون أنهم مأخوذون من تلقاء أنفسهم بالحمية والامتناع من مزاولة الطعام والشراب، فيمضون في الحمية إلى غاية النهار، يروضون النفس على قوة الإرادة.
وتلك هي (فنية) الصوم عند الصائمين المشاطرين من غير المسلمين على أن للصوم حكمة تسمو على (الفن) يستشعرها الصائم صوماً حقيقياً لا أثر فيه للرياء ولا للمكابرة، وتلك هي المقصودة من قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فما يبعث الصوم إلا على التقوى، وما يستثير في النفس غير الورع والرثاء لحال ذوى الخصاصة والمخمصة والفقراء والمساكين، وما تشعر النفس إلا بالحدب على هؤلاء، وإيثارهم بالصدقة، وبرهم بالزكاة وأن الله جلت قدرته لعليم بما يضار به الصائم وما يلحقه من أذى إذ يترك ـ بأمره تعالى ـ طعامه وشرابه، ويقتسر اقتساراً على هجران كيوفه ولذاذاته، وما كانت تلك منه إلا بمنزلة النفس يتردد، أو القلب يتحرك! فهذا وهذا يجتمعان على النفس، ويأتلفان على الروح، مما يصعب في قليل أو كثير على الناس، ولكن لا مناص لهم من هجران مطاعمهم وكيوفهم وإذلال نفوسهم، حتى تعرف النفس الناعمة الراضية مقدار ما يعاني أهل المخمصة من ألم الجوع وحرارة العطش وأوصاب المرض وبرحاء الألم وهذه، ولا ريب حكمة تسمو على كل حكمة، وما تخفي مراميها على أحد سبر كنه الصيام والصائمون وكثير ما هم، أتراهم يحسبون حكمة في الصيام؟ لعل كثرتهم الكثيرة لا ترى في الصوم إلا أنه ضرب من التسلية والتلهي؛ فلا تشق الشهر الأطول إلا بنهار نؤوم وليل ما جن؛ فإذا جاء العيد انقلبوا فكهين.
وعادوا إلى ما كانوا يقارفون من فنون القطر.
وكأن هؤلاء ما صاموا ولا طووا النهار عطاشاً جائعين ولقد تجد فرداَ من الناس اقتعد من الناس مكان الصدارة، وتبوأ كرسي الرياسة، وإذا به يستفتح مجلس اللغو، مرسلاً لسانه يخوض في عرض هذا ويثلم شرف هذا وينحى باللوم الشديد على هذا، حتى إذا وقف لسانه في حلقه من شدة التعب - تعب الكلام وتعب الصيام - ونال من كل الناس مبغاه وقضى من كل ما يريد وطراً.
رفع بصره إلى السماء وصاح في ورع متكلف (اللهم إني صائم اللهم إني صائم)، كأن هذه العبارة في عرفة تجب كل ما سبق، وتنسخ سائر ما قبلها، وتفتح له باب السماء، وتكون توبة نصوحا يلقى بها وجه الله راجمة حسناته سيئاته، وما هذه إلا صورة لا تخفى من صور رمضان، وما نرانا في حاجة إلى استيعاب غيرها من الصور؛ فالكلام في رمضان لا يتناهى عند حد، والكلام فيه لا يمل له دفع ولا رد. ونخلص من هذا إلى القول بأن رمضان في هذه الأيام العصيبة التي أخذ الناس فيها يدركون معنى الإسلام الحقيقي.
وتقدمت فيها الصفة الإسلامية للدولة، إلى مقام الصدرة من سائر بلدان الإسلام، نقول إن رمضان قد أصبح في هذا العهد ذا صفة بارزة محسوسة، إن كاد ليكون شيئاً مادياً تلمسه الأيدي وتراه العيون، وإن كاد ليأخذ بتلابيب المفطر ليدله على احترام شعائر الله وأداء فرائضه.
وما هذا إلا من بشائر التوفيق ونصرة دين الله. منصور جاب الله

شارك الخبر

المرئيات-١