أرشيف المقالات

استثمار الأوقات

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2استثمار الأوقات
الهدف من خلق الإنسان:
خلقنا الله عز وجل لهدفين عظيمين؛ هما:
1- العبادة؛ لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

2- عمارة الأرض؛ لقوله سبحانه وتعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].

جعل الله لكل منا أجلًا (الوقت الممتد من الحياة إلى الموت)، يختلف عن آجال الآخرين؛ وهو (الوقت) كنز ثمين لا يقدر بثمن، يفنى شِئنا أم أبينا، لا يتوقف، ولن يعود أبدًا؛ لذا ينبغي على المرء أن يُحسن استغلالَه بما يعود بالنفع والفائدة عليه وعلى غيره؛ لتحقيق الهدف من وجوده على هذه الأرض.

المقصود بالعبادة كما يقول ابن تيمية: اسمٌ جامع لكل ما يُحبُّه الله، ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، لا بمعناها الضيِّق، أو كما يفهمه بعض الناس بقصرها على أداء بعض العبادات؛ كالصلوات، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، ونحو ذلك من الأفعال التعبُّدية الظاهرة فقط.

أمَّا عمارة الأرض فتتطلب معرفةً جيدة بعلوم الحياة، بل آخر ما توصل إليه الإنسان في هذه العلوم التي تتطور يومًا بعد يوم.

الأجلُ أمر غَيْبي لا يعلمُه إلا الله عز وجل قد يطولُ، وقد يكون قصيرًا، ولأهميَّة ما فيه من الأعوام والشهور والأيام، بل والدقائق والثواني؛ كان الإنسان مسؤولًا عنه؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسألَ عن عمره فِيمَ أفناه؟ وعن علمِه فِيمَ فعل؟ وعن مالِه من أين اكتسَبه وفِيمَ أنفقَه؟ وعن جسمِه فيمَ أبلاه؟)).

الراوي: أبو برزة الأسلمي، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

"فِيمَ أفناه؟" كيف قضاه، في الطاعات أم في المعاصي؟

بانقضاء الأجل تظهر نتيجة العمل: فوز أم خسران، جعلنا الله عز وجل جميعًا من الفائزين بمرضاة رب العالمين.

اغتنام الفرص الثمينة:
يمر الإنسان بمراحل عمريَّة مختلفة منذ ولادته إلى حين وفاته، وتعتريه أحوال مختلفة؛ فتراه قوي البِنية، موفور الصِّحة حينًا، ثم يعتريه الضعف والمرض، وقد يكون ذا مال كثير، يتقلَّب في النعيم زمنًا طويلًا، ثم يعتريه الفقر؛ فدوام الحال من المُحال.

لذلك؛ حثَّنا الرسول صلى الله عليه وسلم على اغتنام الفرص الثمينة قبل فواتها؛ بالعمل الصَّالح؛ ففي الحديث الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبلَ شُغلك، وحياتك قبل موتك))؛ أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

يقول أبو العتاهية: ألا ليت الشبابَ يعود يومًا ♦♦♦ فأخبرَه بما فعَل المشيبُ   بنظرة إلى كبار السن مِن حولنا، والاستماع إلى أحاديثهم عن فترة الشباب، أو زيارة إلى دور المسنين والعجزة، أو المشافي التي تعِجُّ بالمرضى المصابين بأمراض مزمنة أو مستعصية، أو سماع قصص الذين فَقدوا ممتلكاتهم - ندرك أن الشباب والصحة والغنى والفراغ كانت لهم زمنًا.

وتسليمُنا على الأموات عند المرور بالمقابر - أينا لم يَفقِد عزيزًا عليه، أو لم يَزُر قبورًا، أو يمر بها، ويسلم على أهلها؟ - كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن بُريدة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية))؛ رواه مسلم.

هؤلاء كانت الحياة لهم وقتًا، ونحن ما زالت الفرصة أمامنا سانحةً؛ للمبادرة قبل المغادرة.
فرض الله عز وجل علينا عبادات، ووقَّت لها أوقاتًا لتُؤدَّى فيها، فالصلاة لها أوقات معلومة من اليوم والليلة، والصيام حدَّد له شهرًا في العام، وجعل للصوم (الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات) وقتًا زمنيًّا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحج له مواقيت زمانية ومكانية كذلك؛ دلالةً على أهمية الوقت في حياة المسلم، ووجوب الاعتناء به واحترامه.


أوقات الفراغ:
اليوم لا يختلف اثنان على عدد ساعاته، مُوزَّعة ما بين النوم والعمل، وتناول الطعام، والاستراحة، وأداء العبادات المفروضة علينا، وما زاد عن ذلك - مهما كان يسيرًا - فهي أوقات فراغ، ويختلف مقدارها من شخص إلى آخر حسب الظروف المعيشيَّة والعمر.


ما الذي يمكن للمرء أن يفعلَه كي يستفيد من وقت فراغه؟
نظرتُ إلى المحيطين بي من أقاربَ وأصدقاءَ، فوجدت أن فريقًا استثمر أوقات الفراغ بممارسة هوايةٍ، والبعض بتقويةِ عَلاقته بالمقرَّبين، أو بأفراد المجتمع، والنوع الثالث أكملوا مشوار التعليم، وطوَّروا أنفسهم في مجال تخصُّصهم العلمي، أما الهوايات، فمنها على سبيل المثال: ♦ أسرة صغيرة تعيش في أطراف المدينة، استفادت من المساحات الواسعة حول المنزل بزراعة بعض أصناف الخضراوات التي لا تستغني البيوتُ عنها، وتربية الدواجن، استطاعت من ممارستها لهذه الهواية تأمين حاجياتها من البيض واللحوم والخضراوات، بالإضافة إلى إهداء الجيران والأصدقاء.


♦ سيدات يَقُمْنَ بغَزْلِ الصوف في الشتاء، وعمل مفارش، وتهذيب شِماغات، والتطريز (حرف يدوية بيتية)، ساهمت هذه الهواية في تحسين وَضْع أسرِهن الماديِّ، ومنهن مَن تبرَّعت بالإنتاج لصالح مراكز الأيتام ومراكز تحفيظ القرآن.

♦ شاب لديه هِواية الرسم والتخطيط، كان يقوم بعمل لوحات فنية رائعة لمدارس الأطفال.
♦ المطالعة، وهي نافعة جدًّا، من فوائدها: التعرُّف على ثقافات الشعوب، وتنمية المعرفة.
♦ ممارسة الرياضة لتقوية الأجسام.

علاقات بالمحيطين:
♦ الجلوس مع الأسرة من والدَيْنِ وزوجة وأبناء، والقيام على شؤونهم بنفسه.

♦ تدريس الأبناء.

♦ الترفيه عنهم بنزهة عائلية - إن توفَّرت الإمكانيات لذلك - ومشاركتهم اللعب، والاستماع إلى أحاديثهم أثناء النزهة، يلفت أنظارهم إلى بديع صنع الخالق عز وجل من حولهم، والصلاة بهم، فيكون الوالد قدوة طيبة لهم، يتعلَّمون منه البر بالوالدين، وكيفية الاعتناء بأسرهم مستقبلًا، وتحمل المشقات، والتفكر في المخلوقات، والمحافظة على العبادات.



تَكثُر النزهات العائلية الجماعية في فصل الربيع؛ إما بالخروج في حافلات كبيرة، أو يساهم الأقارب أو الجيران والأصدقاء في الترفيه عن أقاربهم أو جيرانهم الذين لا يملكون وسيلةَ نقلٍ؛ مما له أثر كبير في تعلم الأبناء البَذْل والعطاء، وتقوية أواصر المحبة بينهم وبين أقاربهم أو جيرانهم.


♦ صلة الأرحام والأقارب، وتفقُّد أحوالهم، وتقديم العون للمحتاجين منهم.
♦ المساهمة في أعمال تطوعيَّة، تعود بالنفع على المجتمع؛ كمتابعة أحوال الأرامل والأيتام والمُقعَدِين، فهناك شاب أخذ على عاتقه مساعدة أسرة في رعاية ابنهم المقعد.
♦ معلمة أخذت على عاتقِها تعليمَ بناتها، وبنات جيرانِها في الإجازة الصيفيَّة القرآنَ الكريم تلاوةً وحفظًا، فحددت لهن يومين في الأسبوع ليَجتمِعْنَ في بيتها.


التعلُّم:
♦ الفريق الثالث استغلَّ فراغه بإكمال مشواره التعليمي الجامعي، أو ما بعد الجامعة، أو لعمل أبحاثٍ علمية ودراسات تعود بالنفع على المجتمع والأمة الإسلامية، أو الالتحاق بدورات في مجال تخصُّصه لتنمية مهاراته، وتطوير نفسه في مجال تخصصه؛ مثال ذلك: دورات الحاسوب.

♦ الكثير من السيدات العاملات منهن وغير العاملات التحَقْنَ بالدورات التي تُقام في مراكز تحفيظ القرآن على مدار الأسبوع؛ ليتعلَّمْنَ علوم القرآن والحديث والفقه.

ومن جميل ما نشاهده في البيوت والأماكن العامة حرصُ الكثيرين على التسبيح والاستغفار في وقت فراغهم القصير أو الانتظار.

المُؤلِم أن هناك مَن لا يعرف للوقت قدرًا ولا قيمة؛ فتراه يقتلُ وقته
ويهدره بما لا نفعَ فيه، ولا فائدة له أو لغيره؛ من ذلك على سبيل المثال:
♦ الثَّرْثَرة التي لا تخلو من نميمةٍ أو غِيبة، خاصة مع العُروض المغرية التي تقدمها شركات الاتصال.

♦ استخدام الإنترنت للتسلية فقط، ولمدة طويلة.

♦ التسكُّع في الأسواق والطرقات، والوقوف على أبواب المحلات، وإزعاج المارَّة بالأصوات.
♦ الاهتمام بمتابعة المسلسلات والأفلام.



باستثمار الفراغ أو الوقت نتخلَّص من الخِصال السيئة التي تدمِّر حياتنا، وتضر بصحتنا، وتخالف شرعَنا الحنيف، ونتحرك بهِمَمٍ عالية؛ لتحقيق أهدافنا السامية التي خلقنا الله عز وجل لها، والله أعلم.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢