أرشيف المقالات

تعريف الفقه المقارن

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
تعريف الفقه المقارن

المعنى اللُّغوي:
الفقه: الفهم الدقيق والعميق[1].
والمقارن: مِن قرن بمعنى وصل، وقارن الشيء بالشيء قابله به، والمعنى مقابلة الرأي بالرأي وموازنته به[2].

المعنى الاصطِلاحي:
الفِقه: العلم بالأحكام الشرعية العمَلية المكتسَبة مِن الأدلة التفصيلية[3].

أما الفقه المقارن: فقد أطلق عليه في القديم مُصطَلح "علم الخلاف"[4]، ولم يوجد تعريف محدَّد له عند الأقدمين، وعرَّفه أستاذنا الدريني بقوله: "تقرير آراء المذاهب الفقهية الإسلامية في مسألة معيَّنة، بعد تحرير محلِّ النزاع فيها، مقرونة بأدلتها، ووجوه الاستدلال بها، وما يَنهض عليه الاستدلال من مناهج أصولية، وخطط تشريعية، وبيان منشأ الخلاف فيها، ثم مناقشة هذه الأدلة أصوليًّا، والموازَنة بينها، وترجيح ما هو أقوى دليلاً، أو أسلم مَنهجًا، أو الإتيان برأي جَديد، مُدعَّم بالدليل الأرجَح في نظر الباحث المجتهد"[5].

ويُمكن لنا أن نعرِّف الفقه المقارن بقولنا: هو العِلم الذي يَبحث في المسائل المختلَف فيها بمنهجيَّة أصوليَّة محدَّدة.

يُستفاد من التعريف السابق الأمور التالية:
أ- الفقه المقارن لا يَبحث في المسائل والفروع المتَّفق عليها، وإنما يبحث في الفروع المختلَف فيها بين المجتهدين؛ ولذلك سُمي بعلم الخلاف، من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه، وأبرز ما في هذا العلم الاختلاف، والاختلاف لا يكون إلا في المسائل المَظنون بها؛ لأنَّ الاحتمالات قائمة، وتعدُّد أوجُهِ الاحتمال يولِّد الخلاف، ولا يبحث هذا العلم في المسائل اليقينية؛ كمسائل الاعتقاد والأخلاق، وأصول الشريعة، والأمور المعلومة من الدين بالضرورة؛ كأركان الإسلام؛ لأنها من مسلَّمات الشريعة وثوابتها.

ب- المنهجية العلمية التي يجب الالتزام بها عند بحث مسائل الفقه المقارن، وهي محدَّدة بأصول الحديث والفقه واللغة، بعيدًا عن الهوى والتشهِّي والرأي المجرَّد.
 
جـ- والاجتهاد في حق الأمة، فرض كفائي، إذا قام به بعض الأمة سقَط الإثم عن الباقي، وإذا لم يقم به بعض الأمة، أَثِمَت الأمة بكاملها، وإذا تعيَّن شخصٌ للاجتهاد ووصَل إلى مَرتبتِه، أو وجه إليه السؤال أصبح الاجتهاد في حقه فرْض عَينٍ، وفي حق نفسه كذلك، أما إذا تعدَّد المُجتهدون، فيبقى الاجتهاد على حكم الأصل وهو فرض كفائي[6].

قد أقرَّ حبيبنا صلى الله عليه وسلم مبدأ الاجتهاد[7]، قولاً وعملاً؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن: ((كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بكتاب الله، قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟)) قال: فبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فإن لم تجد في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟)) قال: أجتهد رأيي ولا آلو[8]، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: ((الحمد لله الذي وفَّق رسول رسول الله، لما يُرضي رسول الله))[9]، وبهذا يكون صلى الله عليه وسلم قد وضَع حجر الأساس لهذا المبدأ؛ لتُبنى وتخرَّج عليه الأحكام الفروع والمستجدات مع الأيام إلى قيام الساعة، وهذا يؤكِّد أن المسلم مطالَب بالاجتهاد، والعمل بما أفضى إليه اجتهاده، وبهذا يرجح جانب الصواب على جانب الخطأ في المسألة المجتهد فيها؛ ليقول: ما ترجَّح لديَّ صواب يَحتمل الخطأ، والرأي المرجوح في نظري خطأ يَحتمل الصواب، دون تعصُّب مذهبي، أو تقليد أعمى.

د- منهجية البحث، أو طريقة البحث في الفقه المقارن:
تُبحَث مسائل الفقه المقارن بالمنهجية التالية:
1- تصوير المسألة.
2- تحديد أو تحرير محلِّ النزاع أو الخلاف.
3- بيان مَنشأ الخلاف.
4- بيان آراء العلماء، وأدلتهم في المسألة.
5- المناقشة والتَّرجيح.

هـ- فائدة دراسة الفقه المقارن[10]:
تُحقِّق دراسة الفقه المقارن الفوائد التالية:
1- يُبيِّن الفقه المقارن قيمة الفقه الإسلامي، ومدى ارتباطه بالمصادر المتولَّد عنها، وهي الكتاب والسنَّة والإجماع والقياس، وغيرها من المصادر التبعية كالاستحسان، والمصالح المُرسلَة، والذرائع، والعُرف.

2- يوضِّح الفقه المقارن المعنى الديني الذي يقوم عليه الفقه الإسلامي، ويتميز بذلك عن القانون الوضعية، وهي التي وضَعها الإنسان بنفسِه لنفسه؛ فهي وليدة العقل البشري، وهي قابلة للنقص والتغير والتناقض، والتبدل بتبدُّل مزاج الفئة الحاكمة، ولا توجد رقابة في تنفيذ القوانين إلا رقابة الدولة والقضاء، بينما الفقه الإسلامي يقوم على بُعدٍ عقَديٍّ إيمانيٍّ يولد الاحترام والتقدير للحكم الشرعي، ويجعل الإنسان رقيبًا على نفسه بنفسه، بالإضافة إلى رقابة الدولة والقضاء.

3- يكشف الفقه المقارن مدى الحاجة إلى دراسة اللغة العربية، وأساليبها في البيان، وطرُق الدلالة والبلاغة؛ لأنَّ القرآن الكريم نزَل بلُغة العرب، وفهمه متوقِّف على فهم اللغة، ومعرفة أساليبها في البيان؛ بالإضافة إلى معرفة أسباب النُّزول، أو الظرف التاريخي الذي نزَل فيه النص، وكذلك معرفة الناسخ والمنسوخ، وعلم مصطلح الحديث، وعلم أصول الفقه، وآيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، ومواقع كل منها مِن عملية الاجتهاد.

4- الفقه المقارن هو الطريق الوحيد لتقدير المذاهب الفقهية حق قدرها[11]؛ لأنَّ المذاهب الفقهية مدارس اجتهادية تُثري الفقه الإسلامي، تتعاون ولا تتناحر، تَخدم الشريعة، ولا تَخرج عليها، تؤصِّل مبدأ احترام الرأي، والرأي الآخر، وبهذا نحفَظ التراث الإسلامي، ونُغلق الأبواب على المُغرضين والحاقدين وأعداء الشريعة الذين يُطالبون بتوحيد المذاهب، أو إلغائها أو تجميدها؛ لأن مثل هذه الدعوات تؤدي إلى إلغاء التراث، وتعطيل أحكام الشريعة، وعدم مُسايرتها، وتلبيتها لحاجة الإنسان مِن الأحكام الشرعية المتعلِّقة بأفعاله، والفقه المقارن هو صمام الأمان في ذلك، مع التركيز على طرح ما يُسمى بالتعصُّب المذهبي والتقليد الأعمى والجمود.

5- الفقه المقارن يشجِّع ويدعم البحث العلمي والاجتهاد؛ لأن الفقه المقارن يضَع الحلول، ويقرِّر الحكم الشرعي في المسائل والمستجدات في كل مجالات الحياة؛ كالطبِّ، والهندسة، وعلوم البيئة، والزراعة، والاقتصاد، والسياسة والحرب، وهذا يتطلب تصوير المسألة من المختصين للمجتهدين في الشريعة، وهذا لا يتمُّ إلا من خلال البحوث العلمية الدقيقة للوصول إلى حكم شرعي صحيح؛ لأنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ بالإضافة إلى الدراسات والبحوث العلمية التي يقوم بها علماء الشريعة في المسألة مدار البحث.

و- كتُب الخلاف:
علم الخلاف أو الاختلاف أو التعليق في المسائل الخلافية، والذي أُطلِق عليه حديثًا، مصطلح الفقه المقارن، صُنِّفت فيه كتب كثيرة، منها:
1- اختلاف الفقهاء؛ لابن جرير الطبري، المتوفى سنة 310هـ.
2- اختلاف الفقهاء؛ لأبي جعفر الطحاوي، المتوفى سنة 321هـ.
3- الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف؛ لابن المنذر، المتوفى سنة 318هـ.
4- تأسيس النظر؛ للدبوسي الحنفي، المتوفى سنة 430هـ.
5- اختلاف العلماء؛ للإمام محمد بن نصر المروزي، المتوفى سنة 294هـ.
6- التجريد؛ للقدوري الحنَفي، المتوفَّى سنة 428هـ.
7- الخلافيات؛ للبيهقي الشافعي، المتوفَّى سنة 458هـ.
8- الوسائل في فروق المسائل؛ لابن جماعة الشافعي، المتوفى سنة 480هـ.
9- مختصر الكفاية؛ للعبدري الشافعي، المتوفى سنة 493هـ.
10- حلية العلماء في اختلاف الفقهاء؛ لأبي بكر محمد بن أحمد الشاشي الشافعي، المتوفى سنة 507هـ.
11- الإشراف على مذاهب الأشراف؛ للوزير ابن هبيرة الحنبلي، المتوفى سنة 560هـ.
12- اختلاف الفقهاء؛ لمحمد بن محمد الباهلي الشافعي، المتوفى سنة 321هـ.
13- بدائع الصنائع؛ للكاساني الحنفي، المتوفى سنة 587هـ.
14- بداية المجتهد؛ لابن رشد المالكي، المتوفى سنة 595هـ.
15- الحاوي؛ للماوردي، المتوفى سنة 450هـ.
16- المغني؛ لابن قدامة المقدسي الحنبلي، المتوفى سنة 620هـ.
17- المحلى؛ لابن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456هـ.
18- البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار؛ لأحمد بن يحيى المرتضى، المتوفى سنة 840هـ.
19- مختصر اختلاف العلماء؛ للرازي، المتوفى سنة 370هـ.
20- القوانين الفقهية؛ لابن جزي، المتوفى سنة 741هـ.

ز- أهم مراجع الفقه لمقارن:
1- الفقه الإسلامي المقارن؛ للأستاذ الدريني.
2- محاضرات في الفقه المقارن؛ للأستاذ البوطي.
3- الفقه المقارن؛ للأستاذ محمد رأفت ورفاقه.
4- بحوث في الفقه المقارن؛ للأستاذ محمود أبو ليل والأستاذ ماجد أبو رخية.



[1] ابن منظور، لسان العرب (13 / 522).


[2] الرازي: مختار الصحاح، (ص: 275)، وابن منظور: لسان العرب (13 / 331) وما بعدها.


[3] إمام الحرمين الجويني: البرهان (1 / 85) وما بعدها، والزرقا: المدخل الفقهي (1 / 54) وما بعدها، والرازي: المحصول (1 / 78).


[4] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: اختلاف الفقهاء (ص: 6).


[5] د.
الدريني: الفقه المقارن (ص: 5).


[6] الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام (3 / 140) وما بعدها، وابن عابدين: رد المحتار (5 / 365).


[7] د.
مصطفى الخن: أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء (ص: 28) وما بعدها.


[8] لا آلو: لا أقصر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع فيه.


[9] أبو داود: سنن أبي داود (4 / 14).


[10] د.
البوطي: محاضرات في الفقه المقارن (ص: 5) وما بعدها، ود.
الدريني: الفقه المقارن (ص: 11) وما بعدها، ود.
أبو ليل وأبو رخية: بحوث في الفقه المقارن (ص: 160) وما بعدها، ود.
محمد رأفت ورفاقه: الفقه المقارن (ص: 22) وما بعدها.


[11] د.
البوطي: محاضرات في الفقه المقارن (ص: 5).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢