أرشيف المقالات

أقسام الرخصة (مقالات في الرخصة والعزيمة - 4)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
أقسام الرخصة
مقالات في الرخصة والعزيمة (4)

 
أولًا: أقسام الرخصة عند الحنفية:
قسَّم الحنفية الرخصة إلى أقسام باعتبارين مختلفيْن:
الأول: باعتبار الحقيقة والمجاز.
الثاني: باعتبار الإسقاط والترفيه.
 
ونفصِّل القول فيهما فيما يلي:
التقسيم الأول: أقسام الرخصة باعتبار الحقيقة والمَجاز:
إنَّ الناظر في كتب الحنفية يرى أنهم نوَّعوا الرُّخَص بهذا الاعتبار أنواعًا أربعةً:
نوعان مِن الحقيقة، أحدهما أحق مِن الآخَر.
ونوعان مِن المجاز، أحدهما أتم مِن الآخَر في كونه مجازًا.
 
ونفصِّل القول في كل واحد منهما فيما يلي:
النوع الأول: ما استبيحَ مع قيام السبب المُحَرِّم:
أيِ الفعل الذي يُعامَل معاملة المباح في عدم المؤاخذة، مع بقاء الوَصف الذي كان عليه مِن قبل، وهو أن يكون مُحَرَّمًا في نفسه.
 
مثاله: إجراء كلمة الكفر والشِّرك على اللِّسان عند الإكراه؛ فإن حرمة الشِّرك والكفر قائمة أبدًا؛ لأنَّ المُحَرِّم له باقٍ، وهو الأدلَّة على وجوب الإيمان بالله تعالى وعدم الشرك به، ولكن الشَّارع رخَّص لِمَن خاف على نفسه التلَف عند الإكراه التلفُّظ بكلمة الكفر أو الشِّرك، وامتناع العبد عن التلفُّظ بذلك عند الإكراه الذي يؤدِّي إلى القتل فإنه يكون حينئذٍ قد أَتلَفَ نفسَه صورةً؛ بتخريب البنية، ومعنًى؛ بزهوق الروح.
 
أمَّا إذا أجرَى كلمةَ الكفر على لسانه، وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان، فإنَّه لا يفوت ما هو الواجب معنًى؛ لبقاء التصديق القلبي.
والإقرار الذي سبَق منه بالإيمان قبل ذلك ليس تَكرارًا مطلوبًا؛ لأنه ليس ركنًا في الإيمان، وإنما المطلوب بقاؤه، وهو باقٍ، لكن التلفُّظ بكلمة الكفر أو الشرك يَلزَم منه بطلان ذلك الإقرار في حال البقاء، فبطل حقه في الصورة مِن هذا الوجه، مع بقاء المعنى وهو الإيمان[1].
 
حكْم هذا النوع:
ويرى الحنفيَّة أنَّ الأَوْلى في هذا النوع مِن الرُّخَص الأخذ بالعزيمة وعدم الأخذ بالرخصة، وإن أَخَذ بها فلا إثم عليه، وإن صَبَر وأَخَذ بالعزيمة حتى قُتِل كان مأجورًا؛ لأنه بَذَل نفسَه في دين الله لإعلاء دين الله عزَّ وجل، وهذا هو عين الجهاد[2].
 
واستدلوا: بما رُوي أنَّ مسيلمة الكذاب أخذ رَجُليْن مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟"، فقال: "نَعَم"، فقال: "أتشهد أنِّي رسول الله؟"، فقال: "لا أَدْرِي ما تَقُول"؛ فقتله، وقال للآخَر: "أتشهد أنَّ محمدًا رسول الله؟"، فقال: "نَعَم"، فقال: "أتشهد أنِّي رسول الله؟"، فقال: "نعم"؛ فخلَّى سبيله، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أمَّا الأولُ فقد آتاه الله أجره مرتين، وأمَّا الآخرُ فقد أخذ برُخصة الله، فلا إثم عليه))[3].
 
النوع الثاني: ما استبيح بعذر مع قيام السبب المُحَرِّم الموجِب للحُرْمة، لكن الحكم - وهو الحرمة - متراخٍ عن السبب.

الفَرْق بين هذا النوع وما سبقه:
والفَرْق بين هذا النوع وما سبقه: أنَّ الحكْم هنا متراخٍ عن السبب إلى زمان زوال العذر، فمِن حيث إنَّ السبب قائم كانت الرخصة حقيقةً، ومِن حيث إن الحكْم متراخٍ غير ثابت في الحال كان هذا القسْم دون الأول؛ كالبيع بشرط الخيار مع البيع الباتِّ، والبيع بثمَن مؤجَّل مع البيع بثمن حالٍّ؛ فإن الحكم - وهو المِلك في المبيع والمطالبة بالثمن - ثابت في الباتِّ متراخٍ عن السبب المقرون بشرط الخيار والأجل[4].
 
مثاله: فِطْر المسافر والمريض؛ فإن السَّبب الموجِب شرعًا وهو شهود الشهر قائم في حقِّهما، والحكم وهو وجوب الصِّيام لكنه تراخى بمقتضى قوله تعالى: ﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184].
 
حكْم هذا النوع:
وحكْم هذا النوع: أنَّ الأخذ بالعزيمة أَوْلى، وهو الصوم؛ لقيام السَّبب وهو شهود الشهر، وهو غير مانع مِن التعجيل؛ لأنَّ التعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكْم صحيح؛ كتعجيل الدَّيْن المؤجَّل[5].
 
النوع الثالث: الإصر والأغلال التي كانت على مَن قبْلَنا، وقد وَضَعها الله تعالى عنَّا:
قال اللهُ تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [البقرة: 286].
وقدْ امتنَّ اللهُ سبحانه وتعالى علينا ببعثة النبيِّ الأميِّ الأمين، فقال جل جلاله: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157].
 
والإصر: هو الأمور التي تثبِّطهم وتقيِّدهم عن الخيرات وعن الوصول إلى الثَّواب.
وقيل: هو العهد المؤكد الذي يثبط ناقصه عن الثَّواب والخيرات.
والأغلال: جمع غُلٍّ، وهو مختص بما يقيَّد به فيجعل الأعضاء وسطه، وغُلَّ فلانٌ: قُيِّد به[6].
 
مثاله: قطْع موضع النَّجاسة مِن الثوب والجلد، وأداء الرُّبع في الزكاة وقتْل النفس عند إرادة التوبة، وجزْم الحكْم بالقصاص في القَتل عمدًا كان أو خطأً، وأن لا يطهِّر مِن الجنابة والحدَث غير الماء، وعدم جواز الصلاة في غير دار العبادة، وإحراق الغنائم وحرمة الأكل منها.
 
حكْم هذا النوع:
والرخصة في هذا النوع ليست رخصةً حقيقةً؛ لانعِدام السبب الموجِب لِلحرمة مع الحكْم بالرفع والنسخ أصلًا في حقنا، ولِذا كانت الرخصة مجازًا؛ لأنَّ الأصل لم يبق مشروعًا في حقِّنا، ولمَّا كان الرفع لِلتخفيف علينا والتسهيل سُمِّيَت "رخصةً" مجازًا[7].
 
النوع الرابع: ما يستباح تيسيرًا لِخروج السبب مِن أن يكون موجِبًا لِلحكْم مع بقائه في الجملة:
ويسمَّى "رخصة إسقاط" أو ما سقط عن العباد بإخراج سببه مِن أن يكون موجِبًا لِلحكْم في محلِّ الرخصة مع كونه مشروعًا في الجملة.
ولو نظرْنا إليه مِن حيث إنَّه سقط في محلِّ الرخصة كان نظير النوع الثالث، فيكون مجازًا؛ إذ ليس في مقابلته عزيمة.
 
ولو نظرْنا إليه من حيث إنه بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بالنوع الثاني، وهو الترخُّص باعتبارهِ عذرًا لِلعباد، فكان بمعنى الرخصة فيه حقيقةً مِن وجه دون وجه[8].
 
مثاله: السلم؛ وهو بيع موصوف في الذمَّة بشروط، وهو ثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أسلَف في شيءٍ فليُسلف في كيلٍ معلُومٍ، ووزنٍ معلُومٍ، إلى أجَلٍ معلُوم))[9].
 
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾؛ الآية [البقرة: 282]: نزلَت في السلم إلى أجَل معلوم[10].
 
ونظرًا لأنَّ السلم بيعُ ما ليس موجودًا بعينه وقت العقد، وهو مَنهي عنه، ولكن رخص في السلم للحاجة وتخفيفًا على الناس بشروطه؛ ففي الحديث[11] أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخَّص في السلم[12].
 

حكْم هذا النوع:
وحكْم هذا النوع[13]: وجوب الأخذ بالرُّخصة في الموضع المشروع فيه الرُّخصة، وهو حال الاضطرار في الأكل مِن الميتة ووقت السَّفَر في قَصْر الصلاة، حتى إنَّه لو تَرَك الأكلَ مِن الميتة حالة اضطراره حتَّى مات فإنَّه يُعَدُّ حينئذٍ قاتلًا نفسه؛ لأنَّه وجد سبيلًا لإحيائها بالأكل مِن الميتة ولم يفعل، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].




[1] انظر: أصول البزدوي مع كشف الأسرار لِلبخاري (2/ 576 - 578)، وأصول السرخسي (1/ 118)، وميزان الأصول ص 55)، وفتح الغفار (2/ 74، 75)، وفواتح الرحموت ومُسلَّم الثبوت (1/ 117).


[2] انظر: أصول السرخسي (1/ 117)، ومُسلَّم الثبوت (1/ 117)، وفتح الغفار (2/ 76).


[3] رواه ابن أبي شيبة، وعبدالرزاق.


[4] انظر: كشف الأسرار لِلبخاري (2/ 582، 583)، وفتح الغفار (2/ 77).


[5] انظر: أصول السرخسي (1/ 119)، وكشف الأسرار لِلبخاري (2/ 584)، وفتح الغفار (2/ 77).


[6] انظر المفردات [(1 / 363)].


[7] انظر: تيسير التحرير (2/ 232)، وأصول السرخْسي (1/ 120)، وفتح الغفار (2/ 77)، وشرح ابن ملك ص201).


[8] انظر: أصول السرخسي (1/ 121)، وأصول البزدوي مع كشف الأسرار (2/ 588، 589).


[9] رواه الستة، وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما.


[10] انظر: تفسير القرآن العظيم (1/ 334).


[11] رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عمرو رضي الله عنهما.


[12] انظر: مغني المحتاج (2/ 102)، وأنيس الفقهاء ص 218، 219).


[13] انظر شرح طلعة الشمس (2/ 229).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١