أرشيف المقالات

أحكام صلاة السفر

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
أحكام صلاة السفر


الحمد لله الذي أكمل لنا الدِّين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا خير أمةٍ، وبعث فينا رسولًا منا يتلو علينا آياته، ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا،أما بعد:
فإن للصلاة في السفر أحكامًا وآدابًا خاصة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
قصر الصلاة الرباعية:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101].
يجوزُ للمسافر أن يقصُرَ الصلاة الرباعية، فيصليها ركعتين، أو يتمها إن شاء.
 
روى مسلم عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [النساء: 101]، فقد أمِن الناس؟! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((صدقةٌ تصدَّق الله بها عليكم؛ فاقبَلوا صدقَتَه))؛ (مسلم - حديث: 686).
 
قال ابن قُدامة: قَصْر الصلاة في السفر رخصة، مُخيَّر بين فعله وتركه كسائر الرُّخَص؛ (المغني لابن قدامة - جـ 3 - صـ 122: صـ 123).
قَصْر الصلاة الرباعية في السفر أفضلُ مِن الإتمام عند جمهور العلماء؛ (المغني لابن قدامة - جـ 3 - صـ 125).
 
الجَمْع بين الصلاتينِ:
المقصودُ بالجمع بين الصلاتين هو الجمع بين الظهر والعصر في وقت أحدهما، والجمع بين المغرب والعشاء في وقت أحدهما.
روى البخاري عن ابن عباسٍ، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سيرٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء؛ (البخاري - حديث: 1107).
 
مدة قَصْر وجمع الصلاة في السفر:
إذا نوى المسافرُ أن يقيم أربعة أيام أو أقل من ذلك، فإن له أن يقصر ويجمع الصلاة، وكذلك من أقام أكثر من أربعة أيام ولم يُجمِعِ النية على الإقامة، بل عزم على أنه متى قُضِيت حاجته رجع إلى بلده، مهما طالت المدة، أما من تيقن أنه سوف يقيم في سفره أكثر من أربعة أيام، وجب عليه أن يتم؛ (فتاوى اللجنة الدائمة - جـ 8 - صـ 109: صـ 111).
 
متى يبدأ المسافرُ في قَصْر الصلاة وجمعها؟
إذا ترك المسافر حدود البلد الذي يقيم فيه، فله أن يقصُرَ ويجمع الصلاة، إلا إذا كان يصلي خلف إمام مقيم فإنه يتمُّ معه الصلاةَ كلها؛ (المغني لابن قدامة - جـ 3 - صـ 111).
 
صلاة السُّنن الراتبة في السفر:
لم يكُنْ مِن سنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم أن يصلي السنن الراتبة مع الصلوات الخمس المفروضة في السفر، إلا سنَّة الفجر والوِتر؛ (فتاوى ابن تيمية - جـ 22 - صـ 280).
 
مسافة قَصْر الصلاة:
اختلَف العلماء في المسافة التي تُقصَر فيها الصلاة في السفر على قولينِ مشهورين:
الرأي الأول:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن مسافة قَصْر الصلاة والفِطْر في رمضان هي ثمانية وأربعون مِيلًا؛ أي: بما يعادل ثمانين كيلو مترًا تقريبًا.
وهذا قول ابن عباسٍ وابن عمر،وإليه ذهب الأئمة: مالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل؛ (المغني لابن قدامة - جـ 2 - صـ 188).
 
روى البيهقي عن عطاء بن أبي رباحٍ: أن عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهم كانا يصليان ركعتين ركعتين، ويفطران في أربعة بُرُدٍ فما فوق ذلك؛ (حديث صحيح) (إرواء الغليل للألباني - جـ 3 - صـ 17، حديث: 568).
• البريد: اثنا عشر ميلًا.
 
قال الإمام البخاري - رحمه الله -: كان ابن عمر وابن عباسٍ رضي الله عنهم يقصُرانِ ويُفطِران في أربعة بُرُدٍ، وهي ستةَ عشرَ فرسخًا (أي ثمانية وأربعون ميلًا)؛ (البخاري - كتاب تقصير الصلاة - باب: 4).
 
الرأي الثاني:
ذهب بعضُ الفقهاء إلى أن كل ما يسمى في اللغة سفرًا تُقصَر فيه الصلاة، ويباح فيه الفِطر في الصيام.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ﴾ [النساء: 101].
 
• روى مسلمٌ عن شعبة، عن يحيى بن يَزيدَ الهنائي، قال: سألتُ أنس بن مالكٍ عن قصر الصلاة، فقال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خرَج مسيرةَ ثلاثة أميالٍ، أو ثلاثة فراسخ - شعبةُ الشَّاكُّ - صلَّى ركعتينِ؛ (مسلم - حديث: 691).
• المِيل: يعادل 1600مترًا.
• الفرسخ: يعادل ثلاثة أميال، أو (4800) متر.
 
هذا الحديث دليلٌ على جواز قَصْر الصلاة في سفرٍ أقلَّ مِن ثمانين كيلو مترًا،وسوف نذكُرُ بعضًا مِن أقوال العلماء:
(1) قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -:
أوجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تعالى الفِطرَ في السفر مطلقًا، وجعل الصلاة في السفر ركعتينِ مطلقًا؛ (المحلى لابن حزم - جـ 3 - صـ 214).
 
(2) قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله -: يقصُرُ المسافرُ الصلاةَ في كل سفرٍ، ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يعد في العُرف سفرًا، مثل أن يتزود له، ونصوص الكتاب والسنَّة ليس فيها تفريق بين سفرٍ طويلٍ وسفرٍ قصيرٍ؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية - جـ 24 - صـ 35، 15، 13).
 
(3) رجَّح الإمام ابن قدامة - رحمه الله -:
أن قَصْرَ الصلاة يكون في كل ما يسميه الناس سفرًا؛ حيث قال - رحمه الله -: لا أرى لِما صار إليه الأئمة حجةً (بتحديد مسافة القصر بثمانين كيلو مترًا)؛ لأن أقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف،وقد رُوي عن ابن عباسٍ وابن عمر خلافُ ما احتجَّ به أصحابنا،ثم قال - رحمه الله -: لأن ظاهر القرآن إباحةُ القصر لمن ضرب في الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ﴾ [النساء: 101]، وظاهر الآية متناول كلَّ ضربٍ في الأرض؛ (المغني لابن قدامة جـ 2 صـ 190).
 
(4) قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -:
لم يحُدَّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض؛ (زاد المعاد لابن القيم - جـ 1 - صـ 463).
 
(5) قال الإمام ابن حجَر العسقلاني - رحمه الله -:
الصحيحُ في ذلك أن القَصْرَ لا يتقيَّد بمسافةٍ، بل بمجاوزة البلدِ الذي يخرج منها؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني - جـ 2 - صـ 567).
 
(6) قال الإمام الشنقيطي - رحمه الله -:
كلُّ ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهرُ النصوص، ولم يَصرِفْ عنه صارف مِن نقلٍ صحيحٍ؛ (أضواء البيان - للشنقيطي - جـ 1 - صـ 273).
 
(7) قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله -:
الصحيح أنه لا حدَّ للمسافة، وإنما يرجع في ذلك إلى العُرْف؛ (الشرح الممتع لابن عثيمين - جـ 4 - صـ 256).
 
وهذا الرأي الثاني هو الراجح؛ لقوة أدلتِه.
سؤال هام: هل المسافة من مدينة بلبيس إلى مدينة العاشر من رمضان، أو إلى الزقازيق، تسمى سفرًا؟
الإجابة: لا؛لأن هذه المسافة ليست في عرفنا سفرًا؛فالخارج من بلبيس إلى العاشر أو إلى الزقازيق، لا يقول: إنني مسافر، وهذا معلوم للجميع.
 
• هل المسافة من مدينة بلبيس إلى القاهرة تسمى سفرًا؟
الإجابة: نعم،مع أن المسافة بينهما أقلُّ من ثمانين كيلو مترًا،والسبب أن الخارج من بلبيس إلى القاهرة يتأهب ويقول: إنني مسافر إلى القاهرة.
 
فائدة مهمة:
أخي المسلم الكريم، يجب علينا احترامُ آراء العلماء، والدعاء لهم بالرحمة، وإن اختلفنا معهم في الرأيِ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير