هل يكون للمجتهد قولان؟
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
هل يكون للمجتهد قولان؟تعرَّض الشَّاطبي لبيان مسألة مهمة، وهي: هل يمكن أن يجمع المجتهد بين قولين متنافيين في مسألة واحدة؟! كأن يكون له في حكم بيع الذرة بالذرة أو الأرز بالأرز مع التفاضل قولان: أحدهما الجواز، والآخر التحريم، أو يكون له في حكم قضاء الفائتة كسلًا قولان: أحدهما الوجوب، والآخر عدم الجواز؛ فالشَّاطبي في هذا المطلب يبين لنا حكم ذلك، وقبل بيان رأيه لا بد من تحرير محل النزاع.
تحرير محل النزاع:
أولًا: اتفق العلماء على جواز صدور قولين متناقضين لمجتهد واحد في مسألتين، إذا لم يكن بينهما جامع مشترك، أو كان، ولكن بينهما فرق، كوجوب الصلاة وتحريم الزنا، وكالجمع بين الأحكام المختلفة التي لا تقابل بينها في شيء واحد؛ كالتحريم ووجوب الحد في الزنا[1].
ثانيًا: اتفق العلماء على جواز اعتقاد وجوب أحد الفعلين المتضادين من مجتهد واحد على سبيل التنوع والتخيير، كالاعتداد بالأطهار والحيض[2].
ثالثًا: اتفق العلماء على جواز اعتقاد وجوب أحد الفعلين، أو الأفعال غير المتضادة؛ كخصال الفطرة[3].
رابعًا: اتفق العلماء على جواز صدور قولين متناقضين لمجتهد واحد في مسألة واحدة، ولكن في وقتين مختلفين[4].
خامسًا: أشير إلى وجود خلاف بين العلماء في حكم ذهاب العالم إلى قولين في مسألة واحدة في وقت واحد[5]، وهذا هو محل النزاع إن كان ثَمَّ نزاع في المسألة، وإلا فإن المسألة لا نزاع فيها، ولكن فُهِمَ مِن صنيع بعض العلماء أن المسألة متنازَع فيها، وليس الأمر كذلك، كما سيأتي بيانه.
رأي الشَّاطبي:
قرر الشَّاطبي أن المجتهد لا يجوز أن يذهب إلى رأيين، أو يقول بقولين متعارضين في مسألة واحدة في وقت واحد؛ لذا قال: "ومن هناك لا تجد مجتهدًا يثبت لنفسه قولين معًا أصلًا، وإنما يثبت قولًا واحد وينفي ما عداه"[6]، وقال أيضًا وهو يدلل على نقض الفتوى بالقولين معًا على التخيير:
"وإن بلَغها - يعني منزلة الاجتهاد - لم يصحَّ له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة، حسبما بسَطه أهل الأصول"[7].
وقد اعتبر الشَّاطبي اختلاف الأقوال بالنسبة للمجتهد الواحد من أنواع الخلاف الذي لا يعتد به، وعلة ذلك أن المجتهد لا يكون له إلا قول واحد، واختلاف ما نقل عنه مبنيٌّ على تغير اجتهاده، ورجوعه عن اجتهاده السابق، وهذا لا يعتد به في الخلاف؛ وذلك لأن رجوع المجتهد عن اجتهاده الأول يعتبر اطراحًا له؛ فقولُه السابق منسوخٌ بقوله الثاني[8].
وقد وافق على ذلك جمهور العلماء[9]، بل نقل عليه الإجماع[10]، وأشير إلى أن الشافعي يخالف في ذلك؛ لأنه قد نقل عنه أنه يقول بالقولين في المسألة الواحدة في الوقت الواحد[11]، ونقل ذلك أيضًا عن أحمد[12].
والذي يبدو أن هذا النقل لا يخالف ما قرره الشَّاطبي؛ ولذا نقل الشيرازي الإجماع على عدم جواز ذلك، مع أنه ذكر عن الشافعي قوله بالقولين في المسألة[13]، وقد قرر كثير من الشافعية المسألة على وفق ما قاله الجمهور[14]، وأكثر الشافعية من تخريج قول الشافعي تخريجًا لا يتعارض مع اتفاق عامة العلماء[15]، وكذا فعل الحنابلة[16]، وهذا يدل على أن المسألة محل وفاق، حتى عند من قال بالتخيير، فإنه يثبت قولًا واحدًا لا قولين اثنين[17]، وقد ذكر ابن الهُمام أن القول بالتخيير ليس مخالفًا لهذا الأصل، وإنما هو أمر آخر ذكره بعض الشافعية بالنسبة لغير المجتهد في حق العمل لا الترجيح لأحدهما[18].
دليل الشَّاطبي ومَن وافقه:
استدل الشَّاطبي على أن المجتهد لا يجوز أن يُثبت لنفسه قولين متناقضين في مسألة واحدة ووقت واحد بأن الشريعة تدل على قول واحد؛ لأن قصد الشارع متَّحِد، والمجتهد ساعٍ إلى تحصيله، فلا يمكن أن يثبت لنفسه قولين متناقضين؛ إذ يلزم من ذلك أن للشارع أكثر من قصد، وأن الشريعة تدعو إلى الاختلاف، وهذا قول باطل منقوض[19].
[1] نقل الاتفاق في الإحكام (4/ 200) ونهاية الوصول (8/ 3633) وانظر: بيان المختصر (3/ 324) شرح الكوكب المنير (2/ 492).
[2] نقل الاتفاق في الإحكام (4/ 200) ونهاية الوصول (8/ 3633) وانظر: المعتمد (2/ 860) قواطع الأدلة (2/ 326).
[3] نقل الاتفاق في الإحكام (4/ 200) ونهاية الوصول (8/ 3633) وانظر: قواطع الأدلة (2/ 326).
[4] انظر: مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 324 - 325) شرح مختصر الروضة (3/ 624) شرح العضد (2/ 299) نهاية السول (4/ 441) الوجيز (85).
[5] انظر: العدة (5/ 1610) التمهيد (4/ 357 - 358) بذل النظر (661) روضة الناظر (2/ 374) شرح مختصر الروضة (3/ 621) المسودة (450).
[6] الموافقات (5/ 73) وانظر منه: (5/ 220).
[7] الموافقات (5/ 96).
[8] انظر: الموافقات (5/ 213 - 214).
[9] انظر: شرح العضد (2/ 299) المعتمد (2/ 860) تهذيب الأجوبة (100) العدة (5/ 1610) اللمع (131) شرح اللمع (2/ 1076) التلخيص (3/ 114) قواطع الأدلة (2/ 326) التمهيد (4/ 357 - 358) بذل النظر (661) روضة الناظر (2/ 374) الإحكام (4/ 201) شرح المعالم (4/ 1643) مختصر المنتهى مع بيان المختصر (3/ 324) شرح مختصر الروضة (3/ 621) المسودة (450) نهاية السول (4/ 439) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 333) الوجيز (85) شرح الكوكب المنير (4/ 492) تيسير التحرير (4/ 232) فواتح الرحموت (2/ 394).
[10] انظر: شرح اللمع (2/ 1076).
[11] انظر: العدة (5/ 1610) التمهيد (4/ 357 - 358) بذل النظر (661) روضة الناظر (2/ 374) شرح مختصر الروضة (3/ 621) المسودة (450)، وفيها حكى عن الشافعيِّ أنه أجاز ذلك.
[12] انظر: العدة (5/ 1610) شرح مختصر الروضة (3/ 621).
[13] انظر: شرح اللمع (2/ 1076).
[14] انظر من المراجع السابقة: المعتمد، اللمع، شرح اللمع، التلخيص، قواطع الأدلة، الإحكام، نهاية السول، شرح العضد.
[15] انظر: الحاوي (16/ 168) المعتمد (2/ 861) التبصرة (512) التلخيص (3/ 416) قواطع الأدلة (2/ 326) الوصول (354) المحصول (5/ 392) السراج الوهاج (2/ 1024) شرح العضد (2/ 299) تشنيف المسامع (3/ 480).
[16] انظر: العدة (5/ 1610) شرح مختصر الروضة (3/ 621).
[17] انظر: المعتمد (2/ 862) بذل النظر (662) روضة الناظر (2/ 374) شرح مختصر الروضة (3/ 622) شرح الكوكب المنير (4/ 493).
[18] انظر: التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 333) تيسير التحرير (4/ 232).
[19] انظر: الموافقات (5/ 214).