أرشيف المقالات

مقدمة كتاب الاستفصال في الفتوى: دراسة تأصيلية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
مقدمة كتاب
الاستفصال في الفتوى: دراسة تأصيلية


 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الغر الميامين، أما بعد:
فإنَّ الاستفتاء ضرورة دينية يتحقَّق به الامتثال لأحكام الله عز وجل، وبه يعرف العامي مراد الله تبارك وتعالى في كتابه، ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُنَّته؛ لهذا فإن الاستفتاء مشروع؛ بل المكلف مأمور بطلب الإجابة عمَّا يشكل عليه من أمور دينه ودنياه بدليل قوله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، ولما كانت أحكام الاستفتاء كثيرة، اقتصرتُ على ما يتعلَّق بالاستفصال منها، سواء كان الاستفصال صادرًا من المفتي - وهو الأصل- أو من المستفتي.

ومعلوم أنَّ مسألة الاستفصال في الفتوى من المسائل الهامة التي يجب على المفتي أن يحيط بها علمًا قبل الإقدام على الفتوى؛ ولذلك تكلَّم العلماء عن أصول الاستفتاء ومناهج الإفتاء؛ فقد ذكر الكرخي - قبل ما يزيد عن ألف ومائة عام في الأصول التي عليها مدار فقه أبي حنيفة - أنه يجب على المفتي ألَّا يتسرَّع في الجواب حتى يستفصل، ويتعقَّل السؤال، وينظر ويتفكَّر، إلى كم قسم يقسم؛ ليعلم أنَّ سؤال السائل من أي الأقسام، ثم معرفة ما يقابل كل قسم من الأحكام، ثم يعدُّ الجواب؛ لأن إطلاق الكلام ربما يؤدي إلى الانتقاض؛ إذ قلما تجد لفظًا يجري على عمومه وإطلاقه، فلو قيل: إن رجلًا وضع الطيب في الحج؟ فيُستفصل: أكان ذاك قبل التحلُّل الأصغر أم بعده؟ لأن الحكم يختلف، وكذا لو قيل: إن رجلًا أكل في حالة الصيام، هل يفسد صومه؟ فيُستفصل: هل كان سهوًا أم عمدًا؟ وهكذا لأن الأحكام تختلف تبعًا لحال الشخص أو صفته، وهذه غالبًا لا تعرف إلا باستفصال المفتي من المستفتي.

وإذا كان الواجب على المفتي أن يسير وفق منهج علمي منضبط صحيح، فإنه ينبغي له أمران:
الأول: فهم سؤال المستفتي، واستفصاله عما يشكل؛ ليتضح له المراد قبل إصدار الحكم.

الثاني: إصدار الحكم الشرعي لسؤال المستفتي بجواب واضح يُحقِّق له الامتثال، وكذا الإجابة عن استفصال المستفتي عما أشكل له من جواب المفتي.


ومن هذا يتَّضح أن الاستفصال من المفتي للمستفتي، وربما يكون من المستفتي للمفتي؛ لذا فإني درست الاستفصال من جهتي المفتي والمستفتي، ثم بيَّنْتُ أن الاستفصال له ضوابط من الجهتين، ولا ينبغي أن يُستفصل عن كل شيء، مع بيان حكمه، وكل ذلك معلوم من الاستقراء لاستفصالاته صلى الله عليه وسلم؛ فنظمت ما جمعته في عقدٍ اسميته: (الاستفصال في الفتوى: دراسة تأصيلية).

أما الدراسات السابقة: فلم أعثر على أي دراسة تناولت الاستفصال في الفتوى كدراسة مستقلة، ولا أعرف دراسة متخصِّصة في هذا الموضوع قبل هذه الدراسة، إلا أن ما سبق من دراسات قديمًا وحديثًا بعضها تناول الموضوع عرضًا، ولم تبحثه تفصيلًا، فاكتفت بالإشارة عن التفصيل، وبعضها الآخر اقتصر فيه الباحث على جانب من الاستفصال دون الآخر، وجميع هذه الدراسات أفادت الموضوع بكثير من المعلومات، وسهَّلت على الباحث كثيرًا من الصعوبات، ويمكن هنا أن أشير إلى أهم الدراسات في موضوع الاستفصال:
♦ قاعدة ترك الاستفصال - دراسة أصولية تطبيقية -: وهي بحث للدكتور عبدالرحمن محمد القرني[1] تناول فيه ترك الاستفصال، ولا علاقة له بما كتبته من جهتين:


• أني كتبت عن طلب الاستفصال، ودراسته عن ترك الاستفصال.
• أني كتبت عن الاستفصال من المفتي، وهو كتب عن ترك الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم.

♦ الاستفصال في الفتوى حكمه وضوابطه: وهو بحث يقع في عشرين صحيفة لأخي الدكتور عمر عبد عباس الجميلي لم ينشر بعدُ، وهو أيضًا تناول ترك الاستفصال في أكثر المواضع، وتكلم عن بعض الضوابط، فجمع في دراسته بين الاستفصال وتركه، وهو لا يشبه ما كتبته - لما أسلفته - ولم يتناول صدور الاستفصال من المفتي أو المستفتي، وكذلك لم يبين حكمه تفصيلًا؛ وإنما اكتفى بالإشارة.

وهناك مؤلفات ذكرت في طيَّاتها موضوع الاستفصال أشرت إليها في طيَّات هذا المؤلف.

أما خطة البحث: فقد رتبت المادة بعد هذه المقدمة في أربعة مباحث وخاتمة:
تكلمت في المبحث الأول عن: مفهوم الاستفصال والفتوى والاستفتاء، وجعلته في ثلاثة مطالب.

أما المبحث الثاني: فتكلمت فيه عن حكم الاستفتاء والإفتاء، وجعلته في مطلبين.

والمبحث الثالث: تكلمت فيه عن مشروعية الاستفصال وضوابطه، وجعلته في ثلاثة مطالب.

أما المبحث الرابع فتكلمت فيه عن: استفصال المستفتي عن دليل المفتي، وحكم إجابته، وجعلته في مطلبين.

وختمت البحث بأبرز النتائج التي توصَّلت إليها.

وأنا هنا لا أدَّعي لعملي الكمال والتمام؛ إنما قصدي إخراج البحث بالوجه الصحيح، فإن أكُ قد وفقت فلله الحمد والمنة، وإن تكن الأخرى فحسبي أني حاولت الوصول إلى الحق، وبذلت ما بوسعي من جهد.

وختامًا:
أسأل الله عز وجل الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل هذا الجهد خالصًا لوجهه الكريم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] هناك العديد من الدراسات على النت عن ترك الاستفصال، وأنه ينزل منزلة العموم، وهو عكس موضوعي الذي أبحث فيه، فأنا أتكلم عن طلب الاستفصال؛ وليس عن تركه، وأبحثه من جهة المفتي والمستفتي، وهم درسوه من جهة المشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣