أرشيف المقالات

مشروعية زكاة عروض التجارة وكيفية إخراجها (1)

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
مشروعية زكاة عروض التجارة وكيفية إخراجها (1)
 
الحمد لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، أما بعد، فسأتناول في هذه المقالة العلمية - بإذن الله تعالى - موضوعَ زكاة عروض التجارة، من خلال مناقشة أدلة المانعين والموجبين، مبيِّنًا في الحصيلة القول الراجح في المسألة حديثيًّا وفقهيًّا، ثم أنتقل بعد ذلك إلى الكلام عن كيفية إخراجها مقتصرًا على الحالات الشائعة، راجيًا نفع الناس ببيان الحكم فيها، واللهَ أسأل الإخلاص والتوفيق والسداد.
 
جعلتُ هذه المقالة منقسمة إلى ثلاثة محاور، سأتناول المحورين الأول في هذا الجزء، وأرجئ الأخيرَ إلى الجزء الثاني:
- المحور الأول: تعريف عروض التجارة لغةً وشرعًا.
- المحور الثاني: بيان الأدلة على وجوبها، ومناقشة أدلة المانعين.
- المحور الثالث: بيان كيفية إخراجها وَفقَ المذهب المالكي الذي يفرق بين التاجر المتربص والتاجر المدير.
 
وحان أوان الشروع في المقصود:
المحور الأول: تعريف عروض التجارة لغة وشرعًا:
العروض جمع عرض بفتح العين وسكون الراء، قال الجوهري في لسان العرب (7/ 170) "العرض: المتاع، وكل شيء عرْض سوى الدراهم والدنانير، فإنهما عين، وقريب منه تعريف أبي عبيد في مختار الصحاح (ص 178)؛ حيث قال "العروض: المتاع ...
تقول: اشتريت المتاع بعرض أي بمتاع مثله".
 
واصطلاحا عرفه الفقهاء بقولهم: "هو ما أُعد للبيع والشراء لأجل الربح"؛ كما جاء في الروض المربع مع حاشية ابن قاسم (3/ 620).
 
المحور الثاني: بيان الأدلة على وجوبها، ومناقشة أدلة المانعين:
إن الأدلةَ على وجوب الزكاة في عروض التجارة يُمكن أن تنقسمَ من حيث أنواعُها إلى: أدلة من القرآن الكريم، وأدلة من السنة وآثار الصحابة وإجماع المسلمين، وكذلك أدلة من القياس الصحيح.
 
أما الأدلة من الكتاب العزيز:
فتنقسم إلى أدلة عامة تتناول زكاة عروض التجارة بعمومها، وأدلة خاصة يقصد بها زكاة عروض التجارة بخصوصها:
1- أما النوع الأول، فمثل قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾ [التوبة: 103]، فهي تدل على دخول أموال التجارة في عموم الآية؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، ثم إن الخطاب موجه للصحابة رضوان الله عليهم، وكان أغلبهم يعتمد في معاشه على التجارة أو الزراعة، قال أبو هريرة رضي الله عنه واصفًا ذلك؛ كما في صحيح البخاري (ح118): "إن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم".
 
وقَالَ أَبُو عُمَرَ في الاستذكار (3/ 170): "اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ في كتابه ﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾، وَلَمْ يَخُصَّ مَالًا مِنْ مَالٍ، وَظَاهِرُ هذا القول يوجب على أصوله أن تؤخذ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ مَالٍ إِلَّا مَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلَا إِجْمَاعَ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَة، بَلِ الْقَوْلُ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ الْغَلَطُ عَلَيْهِمْ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي التَّأْوِيلِ عَلَى جَمِيعِهِمْ".
 
ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 19]، قال قتادة: هي الزكاة المفروضة، وهذه الآية أيضًا تدل على دخول أموال التجارة في عموم الآية.
 
2- أما النوع الثاني، فمثل قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [البقرة: 267]، فقد صح عن مجاهد كما عند الطبري بسند صحيح (5/ 556، برقم6121) أنه فسرها بالتجارة،وإلى ذلك التفسير، أومأ البخاري في صحيحه (كتاب الزكاة، باب 29)، فإنه ذكر الآية الكريمة عقب قوله: "باب صدقة الكسب والتجارة"، قال الحافظ في فتح الباري (3/ 307): "وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة عن الحكم عن مجاهد في هذه الآية"، يؤيد هذا المعنى أن الآية الكريمة ذكرت صنفين من الأموال: ما يكون بسبب الكسب، وما يكون بسبب ما تخرجه الأرض، فكانت مطابقة لما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه من تقسيم معايش الصحابة رضوان الله عليهم في ذلك الوقت إلى نفس الصنفين.
 
الأدلة من السنة النبوية الشريفة:
1- نبدأ بأصحها من جهة السند، وهو حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته"، فالبز هي الأثواب، هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه من ثلاثة طرق (1909و1910 و1911): أما الطريق الأولى، فقد روى الحديث عن شيخه أبي بكر النيسابوري عن أبي عاصم عن موسى بن عُبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر مرفوعًا، ورواه أيضًا من طريق دعلج بن أحمد عن هشام بن علي عن عبد الله بن رجاء عن سعيد بن سلمة عن موسى عن عمران عن مالك بن أوس عن أبي ذر مرفوعًا أيضًا، ومدار الطريقين يرجع إلى رجل ضعيف اسمه موسى بن عبيدة، والعلماء ضعَّفوه من جهة حفظه وغفلته لا من جهة عدالته، وأما الطريق الثالثة، فقد روى الدارقطني الحديث أيضًا عن شيخه أبي بكر النيسابوري عن جعفر بن محمد بن الحجاج الرقي عن عبد الله بن معاوية الجمحي عن محمد بن بكر عن ابن جريج عن عمران عن مالك بن أوس عن أبي ذر مرفوعًا، ورواة هذا الإسناد ثقات، لكن الحديث فيه علة خفية، وهي عنعنة ابن جريج، فقد كان معروفًا بالتدليس، بل إنه قد صرح بأنه لم يسمع هذا الحديث من شيخه عمران وأنه بلغه عنه، وكذلك قال البخاري لما سأله الترمذي عن ذلك، وعلى هذا فالحديث فيه انقطاع، وروى الحاكم في مستدركه(1/ 388) الحديث نفسه من طريق دعلج عن هشام بن علي عن عبد الله بن رجاء عن سعيد بن سلمة قال: حدثنا عمران عن مالك بن أوس عن أبي ذر مرفوعا، وهذا إسناد لا بأس به، حسنه الحافظ ابن حجر في التلخيص والنووي، وسكت عنه الذهبي وإن كان الحديث ليس على شرط الشيخين كما قال الحاكم، وقد أشار الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة(الحديث برقم 1178) إلى أن الحاكم أسقط موسى بن عبيدة سهوًا من السند، ولهذا تتابع الأئمة على تحسينه ولم ينتبهوا لذلك، وأتى بالقرائن التي تدل على صحة قوله رحمه الله، وهو احتمال يبقى قويًّا، لكن احتمال أن سعيد بن سلمة رواه تارة عن موسى عن عمران، وتارة أخرى عن عمران يبقى احتمالًا واردًا أيضًا، خصوصًا أن الحديث مرَّ بين يدي جهابذة نقاد كالحافظ ابن حجر والحافظ الذهبي، وعلى فرض صحة قول الشيخ رحمه الله، فلا شك أن هذه الطرق قابلة بمجموعها للتحسين، خصوصًا إذا انضافت إلى حديث سمرة الآتي والآثارِ عن عمر وابنه الصحيحة.
 
2- الحديث الثاني حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: "كان رسول الله يأمرنا أن نُخرج الصدقة مما نعد للبيع"، وهذا الحديث رواه أبو داود (1562) في سننه بسند ضعيف، وسبب ضعفه عائد إلى جهالة ثلاثة من رواته، لكن جهالتهم جهالة حال لا جهالة عين، فإن البزار روى بنفس السند ما يزيد عن مائة حديث، وهذا ربما وجه تحسين الحافظ ابن عبد البر للأثر.
 
وكما قلت فيما سبق أن ثلاثة من الأسانيد: أحدها فيه جهالة بعض الرواة جهالة حال، والآخر فيه انقطاع، والثالث فيه راو ضعيف من جهة حفظه، لا شك أنه بمجموعها طرق تقبل التحسين، وهذا على فرض ضعف حديث الحاكم كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله، أما إذا قلنا بتصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له، وتحسين الحافظ والنووي وغيرهما، فإن الحديث يصير صحيحًا.
 
3- وهناك حديث آخر استدل به العلماء على زكاة عروض التجارة، وإن كانت قد ترد عليه احتمالات أخرى في المعنى، وهو حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما خالد، فإنكم تظلمون خالدًا فقد احتبس أعتاده وأدراعه في سبيل الله"، (خ 1468، م.3/ 7/ 56،57)، فإن الخطابي والنووي وجماعة من العلماء رجحوا بأن عمر لما قدم إلى خالد ليأخذ الصدقة من الأعتاد التي كان يظنُّها عروض تجارة، امتنع عن ذلك؛ لأنه أوقفها في سبيل الله؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلا سبيل إليها.
 
• ثم ينضاف إلى كله هذا عمومات في السنة تدخل فيها عروض التجارة رأسًا، وذلك من قبيل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"؛ رواه أبو داود (1573) وصححه الألباني، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن النكرة في سياق نفي تفيد العموم، وقد عُلم أن عروض التجارة من جملة الأموال.
 
• ومن ذلك أيضًا حديث معاذ في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه والسلام قال: "فأعلَمهم أن الله افترَض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتُرد على فقرائهم"؛ (خ.1395، م.
(1/ 196، 197)، فعلى رأس الأغنياء في كل زمان جماعة التجار.

 
أما الآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم:
فالأول: الأثر عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنهوالذي رواه الدارقطني (5/ 125) والبيهقي(1/ 147)، وهو ما ثبت عن أبي عمرو بن حِماس أن أباه حماسًا قال: (مررتُ على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعلى عنقي أدم أحملها، فقال: "ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟"، فقال: ما لي غير هذا وآهبةٌ في القَرَظ، قال "ذلك مال فضع"، فوضعها بين يديه فحسبها، فوُجدت قد وجبت فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة)، هذا الأثر ضعَّفه ابن حزم رحمه الله بسبب جهالة أبي عمر بن حماس وأبيه، وقد وثق الدارقطني الابن فقال بأنه معروف فانتفت جهالته، قال الحافظ في تهذيب التهذيب (4/ 318): "شداد بن أبي عمرو بن حماس بن عمرو الليثي المدني، روى عن أبيه، وعنه أبو اليمان الرحال المدني، ذكره ابن حبان في الثقات، روى له أبو داود حديثًا واحدًا للنساء وسط الطريق، قلت: قال الدارقطني في العلل: لا يعرف فيمن يروي عنه الحديث، وأبوه معروف"، فشداد ضعيف وأبوه كما قال الدارقطني معروف، أما حماس فقد غفل ابن حزم رحمه الله عنه فعدَّه من المجهولين، وهو عندهم من الثقات المعروفين".
 
• وهناك أثر آخرُ عن عمر بن الخطاب صحَّحه ابن حزم بنفسه، لكن حمله كعادته على غير صدقة زكاة العروض، فعن عبد الرحمن بن عبدٍ القارئ وكان على بيت المال في زمن عمر مع عبيد الله بن الأرقم، قال: "كان إذا خرج العطاء جمع عمر أموال التجارة فحسب عاجلها وآجلها، ثم يأخذ الزكاة من الشاهد والغائب"؛ رواه أبو عبيد بسند حسن في كتاب الأموال (1120،)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 184).

 
• ومن الآثار التي قد يستأنس بها في هذا الموضوع ما رواه الطبراني بسند صحيح أن عمر رضي الله عنه كان يأخذ الصدقة من الخيول، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة إلا زكاة الفطر في الرقيق"؛ (خ.463، م.
3/ 7/ 55،56)، فيكون فعله محمولًا على أنه كان يأخذ الصدقة من الخيول التي كانت تُعد للتجارة، جمعًا بين فعله رضي الله عنه وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم.

 
• أما الأثر الآخر، فهو عن ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقد روى البيهقي (4/ 187) وغيره بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة"، وقد صححه الألباني رحمه الله.
 
• أما الأثر عن عبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهم في نفي الزكاة في العروض، فكلها آثار ضعيفة، ورغم ضَعفها البيِّن استدل بها ابن حزم ولم يطبق عليها ما طبَّقه في الآثار السابقة، وكلها محمولة إن صحت على نفي الزكاة في العروض التي لا يقصد بها التجارة، وهو الذي يوافق حديث الصحيحين: "ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة إلا زكاة الفطر في الرقيق".
 
• ومن الآثار عن السلف أيضًا ما رواه ابن جريج: قال لي عطاء "لا صدقة في اللؤلؤ، ولا زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض، ولا شيء لا يدار، وإن كان شيئًا من ذلك يدار، ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع"؛ أخرجه عبد الرزاق ( 4 / 84 / 7061 )، وابن أبي شيبة ( 3 / 144 ) بسند صحيح، وقال إبراهيم الصائغ: "سُئل عطاء رحمه الله: تاجر له مال كثيرٌ في أصناف شتى، حضر زكاته، أعليه أن يقوم متاعه على نحو ما يعلم أنه ثمنه، فيخرج زكاته؟ قال: لا، ولكن ما كان من ذهب أو فضة أخرج منه زكاته، وما كان من بيع أخرج منه إذا باعه"؛ أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" (3 / 946 / 1703) بسند حسن، وهو شاهد قوي لرواية ابن جريج المتقدمة كما قال الشيخ الألباني.
 
• قلت: وإني لأعجب لمن جعل هذا الأثر دليلًا على نفي الزكاة في العروض بالكلية، والحال أن عطاء يقول: "وإن كان شيئًا من ذلك يدار، ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع"، فالصواب في هذا أن يقال بأن عطاء يقول بالزكاة في العروض كما هو واضح في الأثر، ولأنه داخل في المجمعين على ذلك، لكن تختلف طريقة احتسابها عنده عن طريقة الجمهور.
 
• من الآثار السلفية أيضًا ما صح عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كما في الموطأ (595) أن يحيى بن زريق ذكرأن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن انظُر مَن مرَّ بك من المسلمين فخُذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارًا دينارًا"، وهذا الأثر إسناده صحيح، بخلاف ما استدل به ابن حزم عن عمر عبد العزيز فيما رواه أبو عبيد في الأموال عن إسماعيل بن إبراهيم عن قطن بن فلان، قال: مررت بواسط زمن عمر بن عبد العزيز، فقالوا:قرئ عليناكتاب أمير المؤمنين ألا تأخذوا من أرباح التجار شيئًا حتى يحول عليها الحول"، فإضافة إلى ضعفه بسبب جهالة قطن بن فلان وأولئك الذين قُرئ عليهم الكتاب، فإنهم مجهولون جهالة عين، يضاف إلى ذلك أنه لا يدل على نفي زكاة عروض التجارة بالجملة، وإنما يدل على طريقة احتساب الزكاة عنده فيها.
 
قال ابن عبد البر رحمه الله في شرح الأثر الأول من الاستذكار: "معلوم عند جماعة العلماء أن عمر بن عبد العزيز كان لا ينفذ كتابًا ولا يأمر بأمر، ولا يقضي بقضية، إلا عن رأي العلماء الجلة، ومشاورتهم والصدر عما يجمعون عليه ويذهبون إليه، ويرونه من السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه المهتدين بهديه المقتدين بسُنته، وما كان ليحدث في دين الله ما لم يأذَن الله له به مع دينه وفضله".
 
دليل الإجماع:
نقل الإجماع جماعة من العلماء:
• قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: "أجمع المسلمون أن الزكاة فرض واجب فيها، وأما القول الآخر فليس من مذاهب أهل العلم عندنا"؛ كتاب الأموال ص429.
 
• وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: "أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التِّجَارَةُ الزَّكَاةَ، إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَالْحَسَنُ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَطَاوُسٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ"؛ الإجماع لابن المنذر ص57، رقم137.
 
• وقال الطحاوي: "رُوي عن عمر وابن عمر زكاة عروض التجارة من غير خلاف من الصحابة".
 
• وقال البغوي في شرح السنة (6/ 350): "ذهب عامة أهل العلم إلى أن التجارة تجب الزكاة في قيمتها إذا كانت نصابًا تمام الحول، فيخرج منها ربع العشر".
 
• قال البيهقي رحمه الله: "وهذا قول عامة أهل العلم"، ثم قال: "وقد حكى ابن المنذر عن عائشة وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر، ولم يحك خلافهم عن أحد".
 
• وقد تقدم النقل عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر في الاستذكار.
 
• وممن نقل الإجماع أيضًا الخطابي، وأبو بكر الشاشي والنووي في المجموع (6/ 47)، وأبو الوليد الباجي، وابن العربي، والكاساني من الأحناف، وابن قدامة، وشيخ الإسلام وجده، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (25/ 15): "والأئمة الأربعة وسائر الأمة إلا من شذَّ، متفقون على وجوبها في عرض التجارة".

 
وكل هؤلاء وغيرهم ذكروا أن قول الظاهرية قول شاذ ومهجور، وبأنه ليس عليه الكافة من أهل العلم، بل يُعدُّ قولهم خرقًا للإجماع؛ لأنهم مسبوقون به منذ عصور، قال أبو المعالي: "وإجماع العصر الأول حجة على العصر الثاني وفي أي عصر كان"، وما استدلوا به من البراءة الأصلية وبراءة الذمة من التكاليف ليس بسديد، فإن البراءة الأصلية آخر الأدلة في الترتيب، قال أبو المعالي بعد أن ذكر ترتيب الأدلة: "فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال".
 
ثم أقف هنا وقفة مع مَن طعن في إجماع هؤلاء العلماء في هذه المسألة، فأقول لهم: ألستم تقرون بإجماع نفس هؤلاء العلماء في مسائل كثيرة من الفقه؟ ألا تُقرون لهم بالإجماع في باب المياه في مسائل كثيرة، وفي باب الصلاة والصوم وغيرها من المسائل، تعتدون بإجماعهم وتُصِدُّرون به كل مسألة فقهية في كتبكم، ثم إذا جاءت هذه المسألة خالفتم نفسَ منْ تعتدُّون بإجماعهم، ثم تستدلون لصحة أقوالكم بالأثر عن الإمام أحمد في تكذيب مدعي الإجماع، فأين كان هذا الأصل فيما أثبتموه وأقررتُم فيه بالإجماع؟ ثم أين الخلاف حتى تقولوا بنفي الإجماع؟ مخالف الإجماع هم أنتم وليس غيركم، وهذا لا يُعتدُّ به إذا انعقد الإجماع قبلكم.

 
الدليل من القياس والاعتبار الصحيح:
قال النووي في المجموع: "تجب الزكاة في عروض التجارة لحديث أبي ذر، ولأن التجارة يطلب بها نماء المال، فتعلقت بها الزكاة كالسوم في الماشية"، وقال ابن رشد: "إن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبهَ الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق؛ أعني الحرث والماشية والذهب والفضة".
 
قلت: لو لم يكن في هذه المسألة إلا القياس الصحيح لصلح الاستدلال به، فالمعنى الذي ينكره الظاهرية والذي استُنبط من وجوب الزكاة في الأجناس المتفق عليها موجودٌ وحاضرٌ بقوة في عروض التجارة، فالتاجر يقصد بالبيع والشراع تنمية المال، كما يقصد الفلاح بالزراعة ورعي الأنعام نماء ماله أيضًا، ولهذا كان قياس أبي حنيفة قويًّا في إلحاق الخيل السائمة بالأنعام، لولا اصطدام قوله مع النص الواضح الجلي في الموضوع.
 
وهنا في مسألتنا لا يوجد معارض واحدٌ من نص صريح إلا ما زعموه من البراءة الأصلية، وهو أصل ضعيف أمام ما ذكرناه من النقول الصحيحة والقياس الصريح.
 
ثم إن الظاهرية رحمهم الله لم يطَّرد أصلهم في عدم القول بالمعاني، فإنهم داخلون فيمن أجمعوا على أن العروض التي يقصد بها القُنية ليست فيها زكاة، ومسند كل هؤلاء العلماء بما فيهم الظاهرية قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، فمقتضى ظاهريتهم أن يقصروا الحكم على الفرس والرقيق، لكنهم قاسوا عليهما من غير أن يشعروا كل متاع يقصد به القنية، فخالفوا أصلهم.
 
وقد حفِظتُ من شيخي حفِظه الله قوله فيما معناه: "كيف تجب الزكاة على من يملك ثلاثة آلاف درهم مغربية ادَّخرها بشق الأنفس، ولا تجب في حق من يربح الملايين من الدراهم في الساعة الواحدة من خلال التجارة؟ أليس هذا تفريقًا بين المتماثلات، ومخالفة لما جاء به القياس والاعتبار الصحيح؟" قلت: وهذا هو الذي كثيرًا ما نُنبه عليه من أن الشريعة الإسلامية جاءت باللفظ والمعنى، والقول باللفظ وإهدار المعنى الصحيح المعتبر، قد يوقع الفقيه في كثير من التناقضات.
 
وأكتفي في هذا الجزء بما ذكرت، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١