خاتم النبيين (15) القدوم على المدينة
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
الحلقة الخامسة عشرة من برنامج (خاتم النبيين)القدوم على المدينة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين على إحسانه، والشُّكرُ له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير أنبيائه، وعلى آله وصَحْبه وأتباعه إلى يوم الدين.
وقد سبق معنا - إخواني الأكارم - في الحلقة الماضية الكلام عن قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ حين الهجرة، وكيف استقبله أهل المدينة ذلك الاستقبال الحافل المفعم بالبهجة والفرحة، وأيضًا سبق معنا أين نزل النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف نزل، وأيضًا كيف بنى المسجد والحجرات، ونستكمل في هذه الحلقة شيئًا من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في أول أيامه، فبعد بناء المسجد وتأسيسه شَرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ حيث إن المهاجرين لما هاجروا من مكة تركوا كثيرًا من أموالهم في مكة، فكانوا بحاجة إلى مؤازرة إخوانهم من الأنصار، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجد حلًّا لهذه الحالة المادية عند المهاجرين، فعَقَد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد عُقِدتْ تلك المؤاخاة في دار أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال آخرون: إنها عُقِدتْ في المسجد، وقد وصلت تلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إلى حد التوارُث، فكان يَرِث المهاجريُّ الأنصاريَّ، والأنصاريُّ المُهاجِريَّ، وهو ليس من رَحِمِه؛ ولكن بسبب المؤاخاة، فنُسِخ ذلك بقول الله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 75]، وكانت تلك المؤاخاة مظهرًا شريفًا ورائعًا من مظاهر حسن الإسلام، والتعاون على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي، فجاءت تلك المؤاخاة لتزيل عن المهاجرين وَحْشةَ الغُرْبة، وأُنْسًا لهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، ومن نماذج تلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ما حصل بين أبي عبيدة بن الجرَّاح وأبي طلحة رضي الله عنهما، وأيضًا ما حصل بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي الله عنهما، وقد تكون المؤاخاة أحيانًا بين المهاجرين أنفسهم بعضهم مع بعض، فالأعلى مع الأدنى، وكانت المؤاخاة مع تسعين إلى مئة من الصحابة رضي الله عنهم، وقد سجَّل الأنصار مواقف نبيلة في البذل والعطاء لإخوانهم المهاجرين، كما سجَّل المهاجرون مواقف مماثلة في الشكر وردِّ المعروف للأنصار، وفي الصحيحين وغيرهما قصة سعد رضي الله عنه حين عَرَض على أخيه عبدالرحمن بن عوف أن يُناصفه أهلَه ومالَه، فعَرَض عليه رضي الله عنه أن يُناصفه هؤلاء الأهل وهذا المال، فيتركه لعبدالرحمن بن عوف، فقال له عبدالرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلِكَ ومالِكَ؛ ولكن دُلُّوني على السوق، فذهب إلى السوق فربِح فيه ربحًا كثيرًا.
ومن نماذج المؤاخاة أن الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الأنصار للمهاجرين تبرعًا منهم: تكفوننا المؤونة والسقي، ونشرككم في الثمرة؛ رواه البخاري.
فشاركوهم في المؤونة وشاركوهم في الثمرة، إن تلك المؤاخاة قد أذابَت العصبية والقبلية بصورة عملية واقعية رائعة، فما أحوجنا في زماننا هذا إلى المؤاخاة المعنوية التي تذيب القبلية والعصبية للجنس أو البلد، والمقياس في ذلك هو التقوى، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
وهؤلاء الأنصار سموا بذلك؛ لأنهم نصروا دين الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم حبَّهم علامةً على الإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إلَّا مُنَافِقٌ))؛ رواه البخاري، وأيضًا دعا لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اللهُمَّ اغفِرْ للأنصار ولأبناءِ الأنصار ِولأبناءِ أبناءِ الأنصارِ ولنساءِ الأنصار))؛ رواه البخاري، وقال أيضًا النبي عليه الصلاة والسلام: ((آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصار، وآيةُ النِّفاق بُغْضُ الأنصارِ))؛ رواه البخاري ومسلم، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أحَبَّهم أحَبَّه اللهُ، ومَن أبْغَضَهم أبْغَضَه الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
فهذه المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي العمل الثاني الذي أسَّسَه النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة وذلك بعد العمل الأول والأهَمِّ وهو بناءُ المسجد، أما العمل الثالث الذي عمله النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المدينة فهو المعاهدة وكتابة الوثيقة مع اليهود في المدينة؛ حيث إنه لمَّا وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان بها عدد كبير من اليهود، وحيث نظَّم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقة بين المهاجرين والأنصار كان لا بُدَّ أن يُنظِّم العلاقة مع غير المسلمين، واليهود أبرزُهم؛ وذلك ليأمَن شرَّهم وحتى تكون تلك المعاهدة حُجَّةً للنبيِّ عليه الصلاة والسلام في معاملتهم بما يستحقون.
وهذه الوثيقة يُصحِّحها قوم من أهل العلم، وربما ضعَّفَها آخرون، وكان من بنود تلك الصحيفة ما يلي: أولًا: أنَّ مَن خالف تلك الصحيفة فإنه يُحارب ويُقاتل، ثانيًا: من بنود تلك الصحيفة أن يكون بينهم النصح والبر دون الإثم، ثالثًا: أن جوف المدينة حرام على اليهود، رابعًا: أن الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم، خامسًا: أن ما كان من خلاف في هذه الصحيفة أو شجار فمردُّه إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، سادسًا: أن من خرج من المدينة فهو آمن، وقد بلغت بنود الصحيفة قرابة بضعة وثلاثين بندًا كلها في تنظيم الحياة مع اليهود؛ ليعيش المجتمع المدني آمنًا عابدًا لربِّه مطمئنًّا مستكينًا، وبهذه الحكمة أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعدَ وأسَّس هذا المجتمع المسلم، وأيضًا كذلك في السنة الأولى من الهجرة شُرع الأذان، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاةَ، ليس يُنادى لها، فتكلَّموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال آخرون: بل بُوقًا مثل بُوق اليهود"؛ متفق عليه.
ثم جاءت بعد ذلك رؤيا عبدالله بن زيد رضي الله عنه؛ حيث رأى صفةَ الأذان المعهود في منامه، فلما أصبح حدَّث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها لرؤيا حَقٍّ إن شاء الله، قُمْ فألْقِ على بلال ما رأيتَ، فليؤذن؛ فإنه أندى صوتًا منك))، فقمتُ مع بلال، فجعلتُ ألقي عليه ويُؤذِّن، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد ذلك حينما سمِعَ ذلك فقال: والذي بعثك بالحق، لقد رأيتُ مثل ما رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فللهِ الحمدُ))، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعةٌ من المؤذِّنين؛ وهم: بلال، وابن أُمِّ مكتوم بالمدينة، وأبو محذورة بمكة، وسعد القرظ بقُباء.
وفي فضل الأذان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّه لا يَسْمَع صوتَ المؤذِّنِ جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيء إلا شهِدَ له يومَ القيامة))؛ رواه البخاري، ويُسَنُّ لمن يسمَع الأذان خمس سُنَن؛ وهي: أولًا: المتابعة للمؤذِّن، ثانيًا: أن يُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان مباشرة، ثالثًا: أن يقول: اللهُمَّ رب هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابْعَثْه مقامًا محمودًا الذي وعدْتَه، رابعًا: أن يقول: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، خامسًا: أن يدعو بما شاء، فهذه خمس سُنَن في الوقت الواحد، وفي اليوم والليلة خمس وعشرون سنة، فحافظ عليها.
ولما قدم المهاجرون المدينة استنكروا ماءها، وقد كان هناك عين رومة، وهي لرجل من بني غِفار، وكان يبيع القِرْبة منها بمُدٍّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبيعنيها بعين في الجنَّةِ))، فقال: ليس لي ولعيالي مال غيرها، فبلغ ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: تجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: ((نَعَم)) فاشتراها عثمان رضي الله عنه بخمسة وثلاثين ألف درهم، وجعلها للمسلمين.
ومن الأحكام التي حصلت في أول الهجرة أن الصلاة زِيدت من ركعتين في أول الأمر إلى أربع ركعات بعد الهجرة، وذلك في الظهر والعصر والعشاء، إلا المغرب والفجر فبقيت على عددها، وكانت تلك الزيادة إنما هي في الحضر، وأقرت ركعتين في السفر، وكان اليهود يضمرون العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أشدهم حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر، وسلام بن مِشْكم، وكعب بن الأشرف ونحوهم من أكابر اليهود، فكانوا يُثيرون البلبلة عند المسلمين، ومن ذلك قول بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بمحمدٍ غدوةً، ونكفُر بالعشية حتى نلبس عليهم دينهم، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72]، فعداوة اليهود متأصِّلة على المسلمين قديمًا وحديثًا، والله تعالى يقول: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، فهم لا يرضيهم إلا الخروج من الإسلام واتِّباع اليهودية والنصرانية، فمتى يعي المعجبون بهم ذلك ويبتعدون عن موالاتهم والتشبُّه بهم ليسلم لهم دينهم؟! فإن تولوهم فهم على خطر عظيم وجسيم.
إخواني الكرام، لعلنا نستخرج بعض الدروس والعِبَر والفوائد مما سبق، ونستكمل مادتنا العلمية في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: إن تلك المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هي من محاسن الإسلام، فهو ترابُط رُوحي وجسدي، وإن كان ذلك بينهم رضي الله عنهم، فإن التآخي باقٍ عند المسلمين إلى يوم القيامة تكافلًا وترابُطًا ونُصْحًا وتوجيهًا وإعانةً، وهذا من المحاسن الكُبْرى للإسلام التي من خلالها يكون جسدُ الأمة جسدًا واحدًا متماسكًا، فالمجتمع هو أنا وأنت، فإذا كنا متكاتفين؛ فسيسعد المجتمع، ويكون لُحْمةً واحدةً، ومن مجالات ذلك التماسُك التوجيه التربوي والتكافُل المالي من الصدقة والزكاة وغيرهما، وأيضًا إغاثة الملهوف، وإعانة العاجز، وزيارة المريض، وصِلة الرَّحِم، وإظهار حقِّ الجار، وبَذْل السلام، وبذل المعروف، ونحو ذلك، فلو أن تلك المجالات ظهرت ظهورًا واضحًا في المجتمع لصار المجتمع سعيدًا، يشعُر بإخوانه من حوله، فلنجتهد على إظهارها، فابدأ بنفسك ولا ترتبط بالآخرين فلك أجرك وثوابك الجزيل عند الله تعالى، ولو لم يعمل بها إلا أنت، فإذا رآك الآخرون اقتدوا بك، فكسبت مثل أجورهم.
الدرس الثاني:إن إسداء المعروف يستوجب الشكر عليه؛ ليتكرر ذلك المعروف، ومأخذ هذا من أحداث الهجرة أن الأنصار لما قاموا بخدمة المهاجرين رضي الله عن الجميع وضيَّفوهم أجزل المهاجرون الشكر للأنصار على صنيعهم الجميل، وهكذا كُلَّما أسدى أحدٌ إليك معروفًا ولو صغيرًا فاشكره عليه، فإن هذا الشكر له أثر كبير على النفوس وتقوية لها، وكن شاكرًا دائمًا لصاحب الإيجابية حتى ولو كانت الإيجابية على غيرك فشُكْره تعزيزٌ له، وبعضنا قد يعاتب على السلبية إذا رآها ولا جناح؛ لكن قد لا يشكر على الإيجابية إذا رآها فلا بُدَّ من التوازن بين الشكر والعتاب، وما أجمل أن ترى عملًا طيبًا حسنًا لشخص ما فتُزجي شكرك له وثناءك عليه! فسيتضاعف لديه النشاط والجهد في تكرار ذلك العمل الإيجابي، فيكون لك مثل أجره، فلنكن جميعًا كذلك - جزيتم الجنة - لتكثُر إيجابياتُنا.
الدرس الثالث:في قول عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: دُلُّوني على السوق، عندما عرض عليه أخوه سعد بن الربيع أن يُناصفه ماله وأهله، في ذلك درس عظيم على العمل والنشاط ونَبْذ الكسل، فإن الحياة قد تثقل أحيانًا بمتطلباتها ومستقبلها من زواج وسكن ونفقات وغيرها، فعلى شبابنا المبارك أن يبحثوا عن العمل في جميع المجالات، ولا يتوقف على مجال وظيفي معين، فبعض الشباب قد يرغب في مجال من العمل فينتظره وقتًا طويلًا فتسير الحياة ويتسارع الزمن وهو ما زال في الانتظار، وهذا خطأ واضحٌ جليٌّ، فإن كنت أخي الشاب تنتظر ما تريده وترغبه من العمل، فإنك حين انتظارك يجب أن تعمل عملًا آخر تكسب من خلاله شيئًا من المال؛ حتى لا تخسر المال والعمل جميعًا، فالأعمال الحرة متنوعة وواسعة ومتشكلة، فانظر ما يناسبك منها، وكن مع ذلك منتظرًا لما تريده وترغبه من الوظيفة الأخرى.
الدرس الرابع:في حدث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار زالت - وكأن لم تكن - تلك العصبية القبلية، فإنها إن تعززت أفسدت، فهي ليست مقياسًا للفضل والرفعة، وإنما المقياس الحقيقي، هو في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، فللنسب شرفه ورفعته؛ لكنه ليس مقياسًا للتفاضل بين الناس، فانظر إلى التقيِّ نظرةَ احترامٍ وتقديرٍ، ولو كان من أقل الناس نسَبًا، وانظر إلى الشقيِّ نظرةَ إشفاقٍ، ولو كان من أرفع الناس نسَبًا، فالفضل في التقوى والعمل الصالح.
الدرس الخامس:إن حبَّ الأنصار علامةٌ على الإيمان، وحبهم عبادة وقُرْبة إلى الله تعالى، وعلامة حُبِّهم اتِّباعهم؛ حيث إن المحبة ليست ادِّعاءً فقط باللسان، وإنما لا بُدَّ أن يتوافق اللسان مع الجوارح لتصدق المحبة، فمَن أحبَّهم وخالفَهم فليس صادقًا في محبَّتِه، فمحبَّتُهم مع اتِّباعهم إيمان، وبُغْضهم نِفاقٌ، ومَنْ أحبَّهم يكسب بحُبِّهم أن الله عز وجل يُحِبُّه، ومن أبغضَهم أبغضَه الله كما ثبَت ذلك كله في الأحاديث الصحيحة.
الدرس السادس:الرؤيا هي من طرق الوحي إذا رآها نبيٌّ من الأنبياء أو أقرَّها ذلك النبيُّ، فهذه شعيرة الأذان جاءت في رؤيا أحد الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فأقَرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فصارت شريعةً ظاهرةً لهذا الدين، وعلى المسلم إذا رأى رؤيا، فإن كانت حسنةً وصالحةً أخبر بها مَن يُحِب، وسأل عن تعبيرها، وإن كانت سيئةً كتَمَها وتعوَّذ بالله من الشيطان، ونفَث عن يساره ولم يسأل عنها، فإنها بذلك لا تضرُّه، في حين أن البعض من الناس - هداهم الله - يتحدَّثون بكل ما يرون، ويسألون عن كل ما يرون، وهذا جانب من الخطأ الذي يجب تعديله؛ حتى لا يحصل ما يكرهه.
الدرس السابع:الأذان شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، وله فضل عظيم، وحيث إنه كذلك فينبغي علينا الاعتناء بالأذان من عدة جهات؛ من جهة المؤذِّن في أمانته في ضبطه للوقت، ومن جهة المستمع أيضًا في متابعته وتطبيق سُنَنه الخمس المشهورة المعروفة، في حين أن بعض الناس قد يسمع المؤذِّن ثم ينشغل بأحاديث جانبية ثانوية يمكن تأجيلها حتى يتابع المؤذِّن ويَنال الأجر العظيم؛ بل لو كان في سيارته فسمِع المؤذِّن فوقف قليلًا ليتابع وينال ذلك الأجر العظيم وهو دخول الجنة لكان أمْرًا حَسَنًا طيبًا، فاحرص على ذلك فهو من الأعمال الصالحة المتكررة، وعلينا التسابُق إلى الأذان كما كان يفعله الصَّحْب الكِرام.
الدرس الثامن: بيان حرص عثمان بن عفان رضي الله عنه على استثمار المواقف الصالحة، ومأخذ ذلك من حدث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن كانت له بئر رومة: ((بِعْنِيها ولك عينٌ في الجنَّةِ))، فاعتذر عن هذا، فاشتراها عثمان رضي الله عنه وسَبَّلَها للمسلمين، فالحرص على سقي الماء وحفر الآبار هو عمل صالح جليل رائع، ففي كل كبد رطبة أجْر، فبذلك سقيت الظمآن، فأنت قد أطعمته وأدخلت عليه السرور، ونلت أجر الصدقة عليه، ومن فرص ذلك وضع البرَّادات في أماكنها المناسبة، وأيضًا إيصال الماء المعلَّب إلى العمالة الذين يعملون في الطرق ونحوها، وأيضًا التصدق به على الفقراء والمساكين، وأيضًا ما يتعلق بالمساجد وروَّادها، والاحتساب في بذله في المناسبات الكبيرة والصغيرة، وإن أمرًا آخر قد ينساه كثيرٌ من الناس، وهو ما تضعه في بيتك لنفسك وأولادك فاحتسبه صَدَقةً، فهو يكتب لك كذلك، ويجري على ذلك سائر النفقات على الأولاد، ففي الحديث المتفق عليه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنْفَقَ الرجلُ على أهلِه نفقةً يحتسبها فهي له صَدَقة))؛ متفق عليه، فلنحتسب في نفقاتنا على أولادنا باستحضار النية بأنها صدقة عليهم، وقيام بواجب النفقة، فقد ينفق بعضُ الآباء الآلاف من الريالات على أولاده، فليحتسبها لتكون له صَدَقةً كما في الحديث السابق، واحتسابُها أن يمُرَّ على قلبه أن هذه صَدَقةٌ على أولاده.
الدرس التاسع: بيان عداوة اليهود للمسلمين، وكيف أساءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصَحْبه الكِرام؛ حيث إنهم آذوه وحاولوا قتله، وأساءوا إلى دين الإسلام، وحاولوا تفريق الأمة وبثهم للسُّمِّ الزُّعاف في إنتاجهم الثقافي، ومع ذلك كله نجد مع الأسف من المسلمين من يميل إليهم ويواليهم، وكيف يفعل ذلك وقد عملوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ودينه وصَحْبه ما عملوا، فهؤلاء أحفاد أولئك، والحية لا تَلِد إلا حيَّةً، فعداوتهم وبغضهم والبعد عنهم هو قربة يتقرَّب بها المسلم إلى ربِّه، والله عز وجل يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 51]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، فهذا وعيدٌ شديدٌ يخشى المسلم على نفسه من تلك الموالاة لهم أن يختم له بها، أو يأتيه من فساد قلبه ما يأتيه من خلال موالاته لهم، وكافيك أنهم نسبوا الفقر إلى الله تعالى، وقد قتلوا بعض أنبيائهم، وكتموا العلم، وحرَّفوا كتابهم، وكفروا بالله عز وجل، فكيف بعد ذلك يأتي مَن يواليهم على حساب دنيا حقيرة قليلة فانية؟! فليحذر أولئك أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي منهج يسير عليه المسلم تزكيةً لنفسه وسلامةً لقلبه وشرحًا لصدره وتصحيحًا لمفاهيمه، ماذا أخي الكريم لو قرأت في كل يوم ولو عشر دقائق أو صفحةً من كتاب، فستدرك بذلك شيئًا كثيرًا وجليلًا وجميلًا من السيرة النبوية في وقت يسير، فابدأ واستمر فأنت تقرأ سيرة أعظم رجل في التاريخ وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وما تقرؤه اذكره في مجالسك لتفيد وتستفيد، وهذا من طلب العلم ونشره فسيُيسِّر الله تعالى لك به طريقًا إلى الجنة، وأيضًا أن يكون لك مع أولادك مجلسٌ في هذه السيرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك تستخرجون الدروس والعِبَر، فأنتم بذلك تكونون سببًا في حضور الملائكة إلى مجلسكم وغشيان الرحمة عليكم، وأيضًا تنزل عليكم السكينة ويذكركم الله تعالى فيمن عنده، وأيضًا يتربَّى الأولاد على تلك السيرة النبوية، وتُصحِّح مفاهيمهم، ويحظون بالأعمال الصالحة من خلال إرشادات هذا النبي الكريم، ومن خلال اقتداء الصحابة رضي الله عنهم به عليه الصلاة والسلام، فما أجمل تلك الجلسات أن تكون في بيوتنا وبين أولادنا ومع إخواننا وزملائنا! فهي لا شكَّ خيرٌ عظيمٌ.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنَه، وصلى الله وسلم، وبارك على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.