الاستقامة عنوان الفلاح
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الاستقامة عنوان الفلاحما أحلى أنْ يداومَ العبدُ على طاعة مولاه! ما أجملَ أن يستقيمَ العبدُ على الأوامر والنواهي! ليست أوامر لبشر مثله، ولكنَّها لخالقه ومُدبِّر أمره - تبارك وتعالى - الاستقامة هي روحُ الحياة وجَوهرها النفيس، لا يعرف قيمتها إلاَّ العارفون، الذين مَنَّ الله عليهم بتذوُّق حلاوتها، والسير في رِكابها، فهَيَّا بنا سويًّا نعيش مع الاستقامة وأهلها، نتعرَّف على حقيقتها، نتعرف على حالِ مَن يَلزمها، ويداوم عليها.
ما الاستقامة؟
عاش السلف الصالِحُ مع هذا المعنى، فعبَّر كلٌّ منهم عمَّا عاشه مع الله؛ نتيجةً لمداومته على الاستقامة؛ ولذلك اختلفت تعبيراتُهم وألفاظهم، ولكنَّها تعبِّر في حقيقتها عن معنى واحد، وحقيقة واحدة، هي:
"من وجد الله، فما فقد، ومن فقد الله، فما وجد".
الاستقامة: هي لزوم طاعة الله - تعالى - وهي من جوامع الكلم، وهي نظام الأمور.
قال ابن القيم: الاستقامة: روحٌ تَحيا بها الأحوال؛ أي: إنَّ الاستقامةَ بِمنزلة الرُّوح للبدن، فكما أنَّ البدن إذا خلا عن الروح، فهو مَيِّت، فكذلك الحال؛ أي: حال الإنسان إذا خلا عن الاستقامة، فهو فاسد، وكما أنَّ حياةَ الأحوال بها، فزيادة أعمال الزَّاهدين أيضًا ورَبْوُها وزكاؤها بها، فلا زَكاءَ للعمل، ولا صِحَّةَ للحال بدونها.
وسُئِلَ صدِّيق الأُمَّة وأعظمها استقامةً أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة فقال: "ألاَّ تشركَ بالله شيئًا"؛ يريد الاستقامة على محض التوحيد.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: الاستقامة: أنْ تستقيمَ على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب.
وقال عثمان - رضي الله عنه -: استقاموا: أخلصوا العملَ لله.
وقال عليُّ بن أبي طالب، وابن عباس - رضي الله عنهم -: استقاموا؛ أي: أدُّوا الفرائض.
وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته.
وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إلهَ إلا الله، حتى لحقوا بالله.
وقال ابن تيمية: استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمنة أو يَسرة.
هكذا عاش سلفنا الصالح مع الاستقامة، فكانت كلماتُهم مُعَبِّرة عَمَّا في قلوبهم، وعمَّا استشعروه وتذوَّقوه في علاقتهم بالله - عز وجل - وكان إمامهم في ذلك وقدوتهم محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم.
استقامة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
أوصى ربُّ العزة - سبحانه وتعالى - نبيَّه محمدًا بالاستقامة على منهجِ دينه القويم، وصراطه المستقيم، والعمل بما جاء فيه، والقيام بالدَّعوة إليه، وتبليغ أحكامه؛ قال - تعالى -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، فكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما أمَره مولاه، استقام على طريقةِ رَبِّه، وصدع بالحق، ولزم المنهج الذي رَسَمه له، فأيَّده مولاه برُوحٍ منه، حتى جاء الحق، وظهر أمرُ الله؛ ولذلك لَمَّا نزلت هذه الآية الكريمة المباركة، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((شَمِّروا شَمِّروا))، وما رُئِي بعدها ضاحكًا، من أجل ذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ما نزلت على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية؛ ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((شيَّبتْني هود وأخواتها)).
والمطلوب من العبد:
الاستقامة، وهي السداد، فإن لم يقدر عليها، فالمقاربة، فإن نزل عنها، فالتفريط والإضاعة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أنَّه لن ينجوَ أحد منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل))؛ رواه مسلم.
جمع هذا الحديثُ مقاماتِ الدين كلَّها، فأمر بالاستقامة، وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال، فالاستقامة فيها: وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله، فالاستقامةُ كلمةٌ جامعة آخِذَةٌ بِمَجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصِّدق، والوفاء بالعهد.
أخي الكريم، نقرأ كُلَّ يوم في صلاتنا أكثرَ من ستَّ عشرةَ مرة قوله - تعالى -: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، فما هي المعينات التي تُوصِّلنا إلى هذا الصراط المستقيم؟
1- الزم محراب الإنابة:
ما أعظمَ ما قاله ابنُ الجوزي في صيد خاطره!
أيُّها المذنب، إذا أحسست نفحاتِ الجزاء، فلا تكثرنَّ الضجيج، ولا تقولنَّ: قد تبت وندمت، فهَلاَّ زال عني من الجزاء ما أكره! فلَعلَّ توبتك ما تَحققت.
وإنَّ للمجازاة زمانًا يَمتد امتدادَ المرض الطويل، فلا تنجع فيه الحِيَل حتى ينقضي أوانه، وإنَّ بين زمان (وَعَصَى) إلى (فَتَلَقَّى) مدةً مَديدة.
فاصبر أيُّها الخاطئ حتى يتخللَ ماء عينيك خلالَ ثوب القلب المتنجس، فإذا عصرتْه كَفُّ الأسى، ثم تكررت دُفَعُ الغسلات حُكِمَ بالطهارة.
هل تعلم أنَّ آدمَ بَقِيَ يبكي على زلَّته ثلاثَمائة سنة، ومكث أيوبُ - عليه السَّلام - في بلائه ثماني عشرة سنة، وأقام يعقوبُ يبكي على يوسف - عليهما السلام - ثمانين سنة؟
وللبلايا أوقات ثُمَّ تنصرم، ورُب عقوبة امتدت إلى زمانِ الموت، فاللازم لك أنْ تلازم مِحراب الإنابة، وتجلس جلسة المستجدي، وتَجعل طعامَك القلق، وشرابَك البكاء، فربما قدم بشير القَبول، فارتدَّ يعقوب الحزنِ بَصيرًا، وإن مِتَّ في سجنك، فرُبَّما ناب حزنُ الدُّنيا عن حزن الآخرة، وفي ذلك ربح عظيم.
2- الاستقامة تكون بحسب المعرفة:
فمن كَمُلَت معرفته بالله، عَظُم عنده أمره ونَهيه، فإذا سمع قوله: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ [هود: 112]، علم أنَّه مُطالب باستقامةٍ تليق بمعرفته، وعظمة سيده، وجلال مولاه، وتكون بمعرفة طريقه، وهو الصِّراط المستقيم، فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خطَّ لنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خطًّا، ثم قال: ((هذا سبيل الله))، ثم خط خطوطًا عن يَمينه وشماله، وقال: ((وهذه السُّبُل، ليس منها سبيل إلاَّ عليه شيطان يدعو إليه))، ثم قرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
قال الحسن - رحمه الله -: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظرَ على طاعة أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخَّرت.
وقال محمد بن الفضل: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله - عز وجل.
3- الاستقامة تقتضي مقاومة الهوى:
والهوى هو: ميل النفس إلى الشهوة، وسُمِّي بذلك؛ لأَنَّه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية، ومُقاومة الهوى؛ أي: مُغالبته، ومُحاربته، والخلوص من وساوس النفس، وإغواء الشيطان.
ومقاومة الهوى هي الاستقامة، وقد بيَّن الله - تبارك وتعالى - جزاءَ ذلك في كتابه، فقال - تعالى -: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40 - 41]، وقال - سبحانه -: ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ [النساء: 135]؛ أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية على تَركِ العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدلَ على أيَّةِ حال.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فأمَّا اتباع الهوى، فيصد عن الحق، وأما طول الأمل، فيُنسي الآخرة.
يقول أبو بكر الوراق: أصلُ غلبة الهوى مقارفة الشهوات، فإذا غلب الهوى أظلمَ القلب، وإذا أظلم القلب، ضاق الصَّدْر، وإذا ضاق الصدر، ساء الخُلق، وإذا ساء الخُلق، أبغضه الخَلق، وإذا أبغضه الخَلق أبغضهم، وإذا أبغضهم جفاهم، وإذا جفاهم، صار شيطانًا - والعياذ بالله.
4- استقامة الأمور باستقامة الباطن:
يقول ابن الجوزي - رضي الله عنه -: ومَن صفا نظره، وتَهذَّب لفظُه، نفع وعظُه، ومن كدر كُدِّر عليه، والحالة العالية في هذا إقبالُ القلب على الله - عَز وجل - والتوكل عليه، والنظر إليه، والتفات القلب عن الخلق، فإن احتجتَ فاسأله، وإن ضعُفت فارغب إليه، ومتى ساكنتَ الأسباب، انقطعْتَ عنه، ومتى استقام باطنك، استقامتْ لك الأمور.