أرشيف المقالات

وجهات نظر وتناقضات حول الرواية والإجازات

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
وجهات نظر وتناقضات في مسائل الرواية والإجازات

المتأمل لحال كثير من الكتاب والباحثين، وحال كثير من الإجازات والمجازين، يرى فيها أحيانا شيئًا من النتاج الذي لا يعدو كونه وجهات نظر، وفهوم خاصة بأصحابها، وبعضهم يظنه نوعاً من العلم، وقد يصل بهم هذا الأمر إلى حد التناقض والتعارض، فمن ذلك ما يلي:
المثال الأول: من يرى أن تحصيل الإجازات والسماعات أمر مهم، وغاية تبذل لها المهج، فهو عاكف على السماع ليل نهار، لا يكل ولا يمل، فبه خصصت الأمة على سائر الأمم، وهكذا دواليك..

بينما يرى الآخرون: أنها لا فائدة منها في هذا الزمان، خاصة وقد دونت كتب السنة، وحفظ العلم، وثبتت الأسانيد الأصول، وما زاد فهو شرفي لا اعتبار به فهي تحصيل حاصل، ولذا يزهد الناس في حضورها أو الانتفاع بها.
بينما يرى فريق ثالث: أن الإجازات شرفية لا علمية ولا بد معها من الدراية والفهم والبصيرة وقد درج عمل السلف رضي الله عنهم على الفقه والدراية مع الرواية، وهذا حق.

المثال الثاني: ومنهم من يرى أنه لا يجوز لمن سمع كتاباً ما، أو حصل إجازةً ما، من شيخ أو أكثر، أن يحدث بذلك ولا أن يخبر به، بل يظل في قبر أمين إلى أن ينزل شيخه إلى القبر، فإذا مات شيخه أخرج هو علمه من القبر ليقول للناس: حدثنا وأخبرنا "رحمه الله"، فيكون عندئذ من المؤدبين، ولا يجوز له عقد المجالس لا بمسجد ولا بغيره.


بينما يرى فريق آخر: أن العلم يقتضي الأمانة والتبليغ، وإلا لما بلغ الصحابة الأكارم رضي الله عنهم الوحيين، ولما وصل إلينا علم قط، فمن هنا فهو يحدث ويبلغ ويعقد المجالس والسماعات.

ومنهم من توسط الأمر وقالوا: الأمر لا يمنع ولا يباح فهو بحسبه، فإذا كان الذي يحدث الناس مجازًا، وهو أهل لأن يحدث به، والناس في ذلك المكان في حاجة إليه، وعدم الوصول إلى شيخه ومجيزه بأي نوع من الوسائل، أو وجوده معهم ليحدثهم، فلا حرج ولا بأس، وكيف يمنع وقد فعله الأكابر والأسياد من كبار المحدثين من السلف الصالح، فقد كانوا يسمعون في بلد، ثم يحدثون غيرهم ببلد أخرى، وشيوخهم جميعًا أحياء، ولم يعدوا هذا من سوء الأدب والانتقاص، كما يعده بعض أهل زماننا، ويسمعون أيضًا فيفيدون ويستفيدون، وعليه درج عملهم رضي الله عنه.
وكانوا لا يرون أن من يحدث في حياة شيخه قد أساء الأدب، مع كمال الأدب فيهم، إنما يرون ذلك من تبليغ السنن والشريعة، وأن من أساء الأدب، فهو المحدث بحضرة شيخه في بلده أو مسجده، وحيث لا يقدم إلا هو، وأما من لا يفقه ما معه فلا يحدث به حتى يستوي على سوقه، ويعقل ما يحمله من علم ورواية، ثم يحدث غيره.

المثال الثالث: ومنهم من يرى أن عقد المجالس هنا وهنالك، لبعض الفضلاء المعروفين، تعدٍّ على غيرهم من أهل الفضل الأخفياء، فالأخفياء عندهم متواضعون لا يحبون الظهور، بينما صاحب المجالس يحب ذلك فيدخلون في النوايا، ويمنعون الأعمال.

بينما يرى آخرون: أن عقد المجالس من باب إحياء السنن، ومجالس السماع والعلم، سواء كانت في المسجد أو في غيره، على حد قول بعضهم.
كما يرون أن عقد المجالس ليس إثمًا أو جريمة يعاقب عليها الشرع، ما دامت ملتزمة بقواعد الأدب والعلم والدراية، ولا يتحملون هم أولئك الفضلاء الذين لا يهتمون بتعليم الناس، ولا عقد المجالس وهم أولى وأفضل، ولا يفهمون سر كونهم أصحاب سماعات عالية وفضل كبير، ثم هم يتأخرون عن الركب تواضعًا زعموا، ولا يعلم النوايا إلا الله، فلو تخلف كل قادر وفاضل عن الخير تواضعًا، لهلكت الأمة في حثيثها، ولو تقدموا لكانوا أولى وأكمل.

ومنهم من يرى: أن تعقد المجالس لمن يحبون أن يسمعوا هم، لا من يهيئ الله له الأمر، ثم يرمونه بسوء الأدب وغير ذلك..

المثال الرابع: ومنهم من يرى أن سرعة القراءة أثناء المجلس أمر عادي ومهم، لأنها قراءة رواية لا دراية، بينما يراها الفريق الآخر هذرمة لا تجوز ولا تصح، حتى أن بعضهم أبطل السماع بها.
وهكذا نجد الأمور تدور بين رحى المانع والمجيز، وبين رحى الأدب وسوء الأدب، وبين رحى الإجازات المباشرة وغير المباشرة، وجل مثل هذه المسائل لا تعدوا كونها وجهات نظر تخص أصحابها، ولا تلزم أي الطرفين، إلا ما ثبت به الدليل القاطع، وإلا فلكل صاحب وجهة نظر منها رأي له فيه سلف وحجة، والمتأمل البصير يدرك ذلك أيما إدراك.
فلا حاجة لإشغال الفضلاء بوجهات نظر جانبية، وكل يلزم غيره بما يراه باجتهاده، وندع المسلك الأمم، والطريق الأهم، فمن وجدناه على بصيرة من أمره، وفقه من علمه، فلنكن له عونًا عليه، ومن كان على قصر من أمره، وقلة فقه من علمه فلنرشده لأقوم سبيل، بالحكمة والموعظة الحسنة البالغة..
والله أعلم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١