أرشيف المقالات

تكذيب الخبر مع احتمال صدقه ضلال مبين

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
سلسلة الرد المجمل على الطاعنين في أحاديث صحيح البخاري (4)
تكذيب الخبر مع احتمال صدقه ضلال مبين

 
قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 52]، والحديث الصحيح وحي من الله، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم:3 - 4].
 
وروى أحمد في مسنده (22215) وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2178) عن أبي أمامة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أَقُولُ مَا أُقَوَّلُ ))، أي: أقول لكم ما أوحاه الله إلي.
وروى أحمد في مسنده (17174) وأبو داود في سننه (4604) بسند صحيح عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)).
 
قال ابن القيم رحمه الله في حاشيته على سنن أبي داود: "وأما رد الحديث بالقياس فلو لم يكن فيه إلا أنه قياس فاسد مصادم للنص لكفى ذلك في رد القياس، ومعلوم أنَّ ردَّ القياس بصريح السنة أولى من رد السنة بالقياس، وبالله التوفيق".
حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (7 /348).
والطاعنون في صحيح البخاري ينكرون كثيراً من الأحاديث الصحاح؛ مثل أحاديث نزول عيسى بن مريم آخر الزمان، وأحاديث الشفاعة وخروج الموحدين من النار، فيُكذِّبونها ويكفرون بها ويجحدونها، مع أنهم لو أنصفوا لوجدوا أنَّ احتمال صدقها قوي جداً، والشبهة في ردها ضعيفة جداً!
 
فطريقة العلماء ليست التكذيب والإنكار بما لم يحط الإنسان بعلمه، بل هذه طريقة الظالمين كما قال تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس:39]، ولا الجزم في مقام الاحتمال المعتبر، قال تعالى: ﴿ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء:36]، أي: لا تقل ما لا تعلم، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية (5/ 75): "ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى: ﴿ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، وفي الحديث: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث))".
 
فهذا هو منهج العلماء رحمهم الله، لا كالمتعالمين الذين يجزمون في مقام الاحتمال، ولا كأهل البدع والضَلَال الذين يُكذِّبون أحاديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وينكرونها ويجحدونها بدعوى أنها لم تدخل عقل الواحد منهم!
وقد قرن الله من يُكذِّب بالصدق بمن كذَب على الله، وحكم عليهما جميعاً بأنهما من الظالمين فقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر:32 - 33].
 
قال ابن تيمية رحمه الله: "بنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به".
مجموع الفتاوى (17/ 336).
فليحذر الإنسان العاقل أن يُكذِّب بما لا يعلم فيضل، قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ﴾ [يونس:39]: "في هذا دليل على التثبت في الأمور، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يبادر بقبول شيء أو رده قبل أن يحيط به علما".
 
ومن عادة الله في المكذبين من الأمم الماضية أنه يطبع على قلوبهم بسبب اعتدائهم بالمبادرة بتكذيب رسله فلا يوفقهم للإيمان كما قال تعالى: ﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [يونس: 74].
 
فالحذر الحذر من تكذيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع احتمال صدقه، فهذا اعتداء وضلال مبين، وهو دليل على اتباع الهوى، فكل من لم يستجب للنبي صلى الله عليه وسلم فهو متبع لهواه كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].

شارك الخبر

المرئيات-١