التنافس في الخير: فضل الذكر عقب الصلاة
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
التنافس في الخير فضل الذكر عقب الصلاة
عن أبي ذر رضي الله عنه أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور، يصلون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقُون بفضول أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تتصدَّقُون منه؟ إن كل تسبيحة صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضع أحدكم - أو قال: في مباضعة أحدكم - أهله صدقة))، قالوا: يا نبي الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليها فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر)) [1].
الراوي الأعلى:
اسمه:
جُنْدُب - بضم الجيم، والدال- بن جنادة بن سفيان بن عبيد الغفاري السيد الجليل، أبو ذَرٍّ بالذال المعجمة المفتوحة، وتشديد الراء.
مناقبه:
(1) أسلم قديمًا؛ قال: "أنا رابع أربعة في الإسلام"، ويُقال: "كان خامس خمسة"، أسلم بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه أقام بها حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم رجع إلى المدينة.
(2) صحِبَ النبي إلى أن مات.
(3) مشهور بزهده وتواضُعه، وزُهْده وتواضُعه مشبهان بتواضُع عيسى عليه السلام وزهده[2].
عدد مروياته:
روي له عن رسول الله مائتا حديث وواحد وثمانون حديثًا (281) اتفق منها على اثني عشر (12)، وانفرد البخاري بحديثين (2)، ومسلم بسبعة (7).
وفاته:
مات بالربذة سنة اثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود رضي الله عنه في خلافة عثمان[3].
المفردات:
قوله: (ناسًا): هم فقراء المهاجرين.
قوله: "من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم": جمع صاحب، والصحابي: وهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على ذلك، وإن لم يره؛ كابن أُمِّ مكتوم[4].
قوله: ((الدثور)) بضم الدال وبالمثلثة: جمع دَثْر - بفتح فسكون- وهو المال الكثير، وأصحاب الدثور هم أصحاب الأموال.
قوله: ((بفضول أموالهم)): بأموالهم الفاضلة عن كفايتهم.
قوله: ((تتصدقون))، وفي رواية: ((تصَّدَّقون)) بتشديد الصاد والدال جميعًا، ويجوز في اللغة تخفيف الصاد.
قوله: ((بُضْع)) بضم فسكون: البُضْع هو عضو الإتيان بين الرجل والمرأة، ويطلق على الجماع، وعلى الفرج نفسه، وكلاهما تصلح إرادته هنا.
قوله: ((وزر)): إثم[5].
الفرق بين الغبطة والحسد:
الغبطة محمودة، وهي مجال للمنافسة في الخير، وهي أن تتمنَّى لك مثل ما لغيرك مع بقاء نعمة الغير عليه، أما الحسد: فهو تمنِّي زوال نعمة الغير ولو لم تأتِ إليك[6].
وقت الأذكار الواردة في الحديث وترتيبها:
في الحديث بيان للذكر عقب الصلاة، ولكن متى يكون الذكر؟
قال ابن حجر: "مقتضى الحديث أن الذكر المذكور يُقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخَّر ذلك عن الفراغ، فإن كان يسيرًا بحيث لا يُعَدُّ معرِضًا أو كان ناسيًا أو مُتشاغِلًا بما ورد أيضًا بعد الصلاة؛ كآية الكرسي فلا يضُرُّ، وظاهر قوله: ((كل صلاة)) يشمل الفرض والنفل؛ لكن حمله أكثر العلماء على الفرض"[7].
ترتيب الذكر:
في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد، وتأخير التكبير.
ما يستفاد من الحديث:
(1) حرص الصحابة على الأعمال الصالحة وقوة رغبتهم في الخير.
(2) أن الصدقة لا تختص بالمال؛ بل ربما كانت الصدقة بغيره أفضل.
(3) فضيلة التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(4) سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى من الدليل، إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك، ولم يكن فيه سوء أدب.
(5) ذكر العالم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيه المفتي على مختصر الأدلة.
(6) إحضار النية في المباحات، وأنها تصير طاعات بالنية الصادقة.
(7) جواز القياس، وما نُقل من ذمِّ القياس المراد به: القياس المصادم للنص[8].
(8) فيه نص على فضل الغني على الفقير إذا استوت أعمالهم بما فرض الله عليهم، فللغني حينئذٍ فضل أعمال البر المتعلقة بالأموال بما لا سبيل للفقير إليها.
(9) أن تحسين النيَّات في أعمال الخير يتنزَّل منزلة الصدقات والأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة.
(10) أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها.
(11) الفقراء نالوا الرُّتبة بحسرة الفوت ألا يجدوا ما ينفقون، فقامت مقام النفقة، فَنِيَّةُ المؤمن أبلغُ من عمله[9].
الآثار المترتبة على امتثال توجيهات الحديث:
(1) لو علم العبد أن الغنى والفقر بيد الله فسيستريح قلبُه، وتهدأ نفسُه، ويرضى بما قسم الله له.
(2) تعويض النقص المالي الذي قد يكون سببًا في رفع درجته بكثرة الذكر.
(3) إصلاح النية في العبادة والعادة، فتنقلب الحركات والسكنات والأفعال اليومية إلى عبادة من العبادات.
[1] أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2 / 697) ح (1006)، وأحمد في المسند (35/ 376) ح (21473)، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة أن أبا ذر في كتاب صفة الصلاة، باب: من لم ير ردَّ السلام على الإمام، واكتفى بتسليم الصلاة (1/ 289) ح (807)، ومسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 97) ح (595)، وأبو داود في كتاب: الوتر، باب: التسبيح بالحصى (1/ 557) ح (1506)، وابن ماجه في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما يقال بعد التسليم (1/ 299) ح (927)، وأحمد في المسند (12/ 186) ح (7243).
[2] مصنف ابن أبي شيبة، كتاب: الفضائل، باب: ما جاء في أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (12/ 125)، ح (32933) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أظلَّتِ الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذَرٍّ، ومَنْ سرَّهُ أن ينظر إلى تواضُع عيسى ابن مريم فلينظُر إلى أبي ذَرٍّ)).
[3] الإصابة في تمييز الصحابة (7/ 105)، ت (9877)، تقريب التهذيب ص638 ت (8087).
[4] ينظر: نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (4/ 724)، وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث (4/ 83).
[5] معالم السنن (1/ 295).
[6] ينظر: فتح الباري؛ لابن حجر (2/ 331).
[7] فتح الباري؛ لابن حجر (2/ 328).
[8] شرح الأربعين النووية؛ لابن دقيق العيد (1/ 68).
[9] المعين على تفهُّم الأربعين، ت دغش (ص: 309).