أرشيف المقالات

شرح حديث ابن مسعود: إن الصدق يهدي إلى البر

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
شرح حديث ابن مسعود: إن الصدق يهدي إلى البر


عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وَإِنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».
متفق عليه[1].
 
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله للصدق، فقال: باب الصدق، وذكر آيات سبق الكلام عليها.
 
أما الأحاديث؛ فقال: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ...».
 
قوله: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ»؛ أي: الزموا الصدق؛ والصدق: مطابقة الخبر للواقع؛ يعني: أن تخبر بشيء فيكون الخبر مطابقًا للواقع؛ مثال ذلك: إذا قلت لمن سألك: أيُّ يوم هذا؟ فقلت: اليوم يوم الأربعاء؛ وهو يوم الأربعاء فعلًا؛ فهذا صدق، ولو قلت: يوم الثلاثاء لكان كذبًا، فالصدق مطابقة الخبر للواقع، وقد سبق في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه ما يدل على فضيلة الصدق وحسن عاقبته، وأن الصادق هو الذي له العاقبة، والكاذب هو الذي يكون عمله هباء؛ ولهذا يُذكر أن بعض العامة قال: إن الكذب ينجي، فقال له أخوه: الصدق أنجى وأنجى، وهذا صحيح.
 
واعلم أن الخبر يكون باللسان ويكون بالأركان.
 
أما باللسان فهو القول، وأما بالأركان فهو الفعل، ولكن كيف يكون الكذب بالفعل؟! إذا فعل الإنسان خلاف ما يبطن فهذا قد كذب بفعله؛ فالمنافق مثلًا كاذب؛ لأنه يظهر للناس أنه مؤمن، يصلي مع الناس ويصوم مع الناس، ويتصدق، ولكنه بخيل، وربما يحج، فمن رأى أفعاله حكم عليه بالصلاح، ولكن هذه الأفعال لا تنبئ عما في الباطن، فهي كذب.
 
ولهذا نقول: الصدق يكون باللسان، ومتى طابقت أعمال الجوارح ما في القلب فهي صِدْق بالأفعال.
 
ثم بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام عندما أمر بالصدق عاقبتَه، فقال: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ».
 
«الْبِرُّ»؛ كثرة الخير؛ ومنه من أسماء الله: «البَرُّ»؛ أي: كثير الخير والإحسان عز وجل.
 
فالبر يعني كثرة الخير، وهو من نتائج الصدق.
 
وقوله: «يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»؛ فصاحب البر - نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم - يهديه ربه إلى الجنة، والجنة غاية كل مطلب؛ ولهذا يؤمر الإنسان أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار؛ ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185].
 
وقوله: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا»، وفي رواية: «وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا».
 
والصِّدِّيق في المرتبة الثانية من مراتب الخَلْق من الذين أنعم الله عليهم؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69]؛ فالرجل الذي يتحرى الصدق يُكتب عند الله صديقًا، ومعلوم أن الصِّدِّيقية درجة عظيمة لا ينالها إلا أفذاذ من الناس، وتكون في الرجال وتكون في النساء، قال الله تعالى: ﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾ [المائدة: 75].
 
وأفضل الصدِّيقين على الإطلاق أصدقهم؛ وهو أبو بكر رضي الله عنه عبد الله بن أبي قحافة، الذي استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام، ولم يحصل عنده أي تردد وأي توقف، بمجرد ما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أسلم، وصدَّق النبي صلى الله عليه وسلم حين كذبه قومه، وصدَّقه حين تحدث عن الإسراء والمعراج، وكذبه الناس، وقالوا: كيف تذهب يا محمد من مكة إلى بيت المقدس وترجع في ليلة واحدة ثم تقول: إنك صعدت السماء؟ هذا لا يمكن، ثم ذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له: أما تسمع ما يقول صاحبك؟ قال: ماذا قال؟ قالوا: إنه قال كذا وكذا! قال: «إن كان قد قال ذلك فقد صدق»؛ فمنذ ذلك اليوم سُمِّي الصديق، رضي الله عنه.
 
وأما الكذب قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ».
 
«إِيَّاكُمْ» للتحذير؛ أي: احذروا الكذب، والكذب هو الإخبار بما يخالف الواقع، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل.
 
فإذا قال لك قائل: ما اليوم؟ فقلت: يوم الخميس، أو يوم الثلاثاء؛ وهو يوم الأربعاء فهذا كذب؛ لأنه لا يطابق الواقع؛ لأن اليوم يوم الأربعاء.
 
والمنافق كاذب؛ لأن ظاهره يدل على أنه مسلم وهو كافر، فهو كاذب بفعله.
 
وقوله: «وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ»؛ الفجور: الخروج عن طاعة الله؛ لأن الإنسان يفسق ويتعدى طوره ويخرج عن طاعة الله إلى معصيته، وأعظم الفجور الكفر - والعياذ بالله - فإن الكفرة فجرة؛ كما قال الله: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس: 42]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ [المطففين: 7 – 11].
 
وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 14].
 
فالكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار؛ نعوذ بالله منها.
 
وقوله: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ»، وفي لفظ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»؛ والكذب من الأمور المحرمة؛ بل قال بعض العلماء: إنه من كبائر الذنوب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعده بأنه يُكتب عند الله كذابًا.
 
ومن أعظم الكذب: ما يفعله بعض الناس اليوم، يأتي بالمقالة كاذبًا، يعلم أنها كذب، لكن من أجل أن يُضحك الناس، وقد جاء في الحديث الوعيد على هذا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحْدِثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ»([2])؛ وهذا وعيد على أمر سهل عند كثير من الناس.
 
فالكذب كله حرام، وكله يهدي إلى الفجور، ولا يُستثنى منه شيء.
 
ورد في الحديث، أنه يستثنى من ذلك ثلاثة أشياء: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها، وحديثه إياها.
 
ولكن بعض أهل العلم قال: إن المراد بالكذب في هذا الحديث التورية وليس الكذب الصريح.
 
وقال: التورية قد تسمى كذبًا؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذْبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى: قَوْلُهُ: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 89]، وَقَوْلُهُ: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الانبياء: 63]، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَّةَ...»، الحديث، وهو لم يكذب، وإنما ورَّى تورية هو فيها صادق.
 
وسواء كان هذا أو هذا؛ فإن الكذب لا يجوز إلا في هذه الثلاث على رأي كثير من أهل العلم، وبعض العلماء يقول: الكذب لا يجوز مطلقًا؛ لا مزحًا، ولا جِدًّا، ولا إذا تضمن أكل مال أو لا.
 
وأشد شيء من الكذب أن يكذب ويحلف ليأكل أموال الناس بالباطل؛ مثل أن يدَّعي عليه بحق ثابت، فينكر، ويقول: والله ما لك عليَّ حق، أو يدَّعي ما ليس له، فيقول: لي عندك كذا وكذا، وهو كاذب، فهذا إذا حلف على دعواه وكَذَب؛ فإن ذلك هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار والعياذ بالله.
 
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ؛ لَقِيَ اللهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»[3]؛ فالحاصل أن الكذب حرام، ولا يجوز للإنسان أن يكذب مطلقًا، لا هازلًا ولا جادًّا، إلا في المسائل الثلاث، على خلاف بين العلماء في معنى الحديث السابق.



[1] أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607).


[2] أخرجه أبو داود (4990).


[3] متفق عليه: أخرجه البخاري (4594)، ومسلم (138).

شارك الخبر

المرئيات-١