شرح حديث ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه))
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
شرح حديث ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبه)) الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ مِن نِعَمِ الله تبارك وتعالى على عباده توفيقه لهم لاستثمار مواسم الطاعات والخيرات والبركات، وإنَّ من هذه المواسم الجليلة العظيمة صيام شهر رمضان المبارك، والذي يُعَدُّ ركنًا من أركان الإسلام العظيمة.
فشهر رمضان شهر مبارك كُلُّه من أوَّلِه إلى آخره؛ بل كُلُّ لحظةٍ منه فيها من البركات والخيرات العظيمات التي تعود على العباد بالخير الكثير والأجر الكبير؛ لذا يجب أن يُستثمَر هذا الشهر حقَّ الاستثمار بعناية وأهمية كبيرة؛ حيث إنَّ شهر رمضان المبارك هو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن وتدارُسه، وشهر العتق والغُفْران، وشهر الصَّدَقات والإحسان، وهو شَهْرٌ تُفتَح فيه أبوابُ الجنَّات، وتُضاعَف فيه الحسنات، وتُقال فيه العثرات، شهرٌ تُجابُ فيه الدعوات، وتُرفَع فيه الدرجات، وتُغفَر فيه السيِّئاتُ، شهرُ رمضان المبارك تُفتَح فيه أبواب الجنَّات - نسأل الله العلي الأعلى أن يجعلنا من أهلها ووالدينا - وتُغلَّق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي من خير الليالي، وهي خيرٌ من ألْفِ شَهْرٍ، فمن حُرِم خيرُها فقد حُرِم، والموفَّق مَنْ وُفِّق لقيامها، والقيام بواجبِها وحقِّها.
ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تُفتَحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، مَنْ حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ))؛ «أخرجه النسائي (4/129)، صحيح الجامع، الألباني(55)».
إذًا فشهرُ رمضان المبارك هو شهرٌ يجود الله سبحانه وتعالى فيه على عباده بأنواع الخيرات والبركات، ويجزل فيه لأوليائه الأعطيات، وهو شهر فرض الله تعالى صيامه، فصامَهُ رسولُنا صلى الله تعالى عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنَّ مَنْ صامَه إيمانًا واحتسابًا غفر الله تعالى له ما تقدَّم من ذنبه، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صامَ رَمَضانَ، إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبه»؛ «أخرجه البخاري، (38) واللفظ له، ومسلم (760)».
ومعنى (إيمانًا)؛ أي: إيمانًا بالله عز وجل، وتصديقًا بخبره، وبالأمرِ به، وعالِمًا بوجوبِه وحكمه، وخائفًا مِن عقابِ تركِه، جلَّ وعَلا.
ومعنى (احتسابًا)؛ أي: محتسبًا لجزيل الأجر والثواب المترتِّب على صوم رمضان، ومحتسبًا لجزيل الأجْرِ في صومِه، وهذه من صفات أهل الإيمان بالله جل وعلا.
قال الإمام العيني رحمه الله تعالى: (قَوْله: (احتسابًا)، وَإِنَّمَا زَاد هَذِه اللَّفْظَة؛ لِأَن الصَّوْم هُوَ التَّقَرُّب إِلَى الله تعالى، وَالنِّيَّة شَرْطٌ فِي وُقُوعه قربَة)؛ «عمدة القاري، العيني، (10/ 274)».
وقال الإمام البغوي: قوله: "احتسابًا"؛ أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه».
وقال المباركفوري رحمه الله تعالى: (قال الخطابي: "احتسابًا"؛ أي: نية وعزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسُه بذلك، غير كارهٍ له، ولا مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه؛ ولكن يغتنم طول أيامه لعِظَم الثواب»؛ «مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، المباركفوري، (6/ 404)».
وفي هذا الحديث المبارك يُخبِرنا نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ مِنَ الأسباب الموجبة لمغفرة الذنوب صيام شهر رمضان المبارك إيمانًا واحتسابًا لله تبارك وتعالى.
والصَّومُ معناه: (الإمساكُ بنِيَّةِ التَّعبُّدِ عنِ الأكْلِ والشُّربِ، وسائِرِ المُفطِراتِ، مِن طُلوعِ الفَجْرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ).
وتُعَدُّ هذه بِشارةٌ عظيمةٌ مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَن وُفِّق لصيام شهرِ رمَضانَ المبارك كلِّه، وحافَظَ على صيامِه، وجاهَدَ نفسَه على الابتعاد عن المُفطِرات والملذَّات والشهوات، بمغفرة ذنبه، وعلوِّ منزلته وقدره عند ربِّه جلَّ وعلا.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: «واعلم أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين وُفِّي أجره بغير حساب»؛ «لطائف المعارف، لابن رجب، (1 /171)».
فإنَّ المَرْجُوَّ مِن اللهِ جل وعلا أنْ يَغفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذُنوبِه السَّابقةِ، غير الحُقوقِ الآدميَّةِ المتعلِّقةِ بأموالِهم أو أعراضِهم أو أبدانِهم؛ فهذه لا تَسقُطُ إلَّا بالعفو وتبرئة الذِّمَّة؛ فعلى الإنسانِ أنْ يَطلُبَ المسامحةَ ممَّن له عليه حقٌّ، أو يُؤدِّي الحقوقَ إلى أهلها، وقد وقَعَ الجزاءُ هنا بصِيغةِ الماضي «غُفِرَ» مع أنَّ المَغْفرةَ تكونُ في المستقبَلِ؛ للإشعارِ بأنَّه مُتيقَّنُ الوقوعِ، مُتحقِّقُ الثُّبوتِ، فضْلًا مِن اللهِ تعالى على عباده.
وقيل: إنَّ المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبِه»؛ أي: ما تقدَّم من صغائر الذنوب، وليس مِن كبائرها، وهذا ما عليه جمهور العلماء، استدلالًا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضانُ إلى رَمَضانَ، مُكَفِّراتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذا اجْتَنَبَ الكَبائِرَ))؛ «أخرجه مسلم، (233)».
وعلى هذا فلا يكون في الحديث دلالة على مغفرة كبائر الذنوب.
ومن العلماء من أخذ بعمومه، وقال: إنَّ جميع الذنوب تُغفَر ولكن بشرط ألا تكون هذه الذنوب موصلة إلى الكُفْر، فإنَّ كانت موصلة للكُفْر فلا بُدَّ من التوبة الخالصة الصادقة، والرجوع إلى دين الإسلام.
إذًا فهنيئًا ثم هنيئًا لمَن صام شهر رمضانَ المبارك على الوَجْهِ المطلوبِ منه شرعًا مؤمِنًا بالله تبارك وتعالى، وبما فرَضَه عليه سبحانه، ومحتسِبًا للثَّوابِ والأجْرِ مِن اللهِ جل وعلا، فإنَّ المَرْجُوَّ والمؤمَّل مِن الله تعالى أن يغفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنوبِه، فرحمةُ اللهِ جَلَّ وعلا واسعة، فلقد وسِعَت السموات والأرض، أفلا تتَّسِع لعَبْدٍ ضعيفٍ مسكينٍ يرجو رحمة ربِّه جل وعلا وعفوه ومغفرته، ويخاف عقابه، بلى والله، والرجاء بالله تعالى عظيم.
هذا ما تمَّ إيراده، نسأل الله العلي الأعلى أن ينفع به، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يُعيننا على صيام شهر رمضان المبارك وقيامه، وأن يجعلنا فيه من المقبولين، ومِن عُتَقائه من النار، ووالدينا أجمعين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.