أرشيف المقالات

الحديث الوحيد الذي تفرد الإمام البخاري بروايته في صحيحه دون غيره من العلماء المصنفين فيما نعلم

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
الحديث الوحيد الذي تفرد الإمام البخاري بروايته في صحيحه
دون غيره من العلماء المصنفين فيما نعلم
 
كل حديث رواه الإمام البخاري في صحيحه قد تابعه على روايته غيره من أهل الحديث، وقد كنت أظن أن هذا العموم لا يُستثنى منه شيء، وبعد أن وفقني الله لقراءة الكتاب العظيم "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، وبعد البحث والنظر تبيَّن لي وجود حديثين في صحيح البخاري لا أعلم أحدًا تابعَ البخاري على روايتهما.
 
وقبل أن نذكر الحديثين نؤكد للقارئ الكريم أن علماء الحديث وشُرَّاح صحيح البخاري تتبعوا جميع أحاديث صحيح البخاري سندًا ومتنًا، وذكروا أن في صحيح البخاري أحاديث يسيرة تفرَّد بها بعض الرواة الذين كانوا قبل البخاري من شيوخه أو شيوخ شيوخه ومن قبلهم، وسموا تلك الأحاديث "غرائب الصحيح"، وتوجد أحاديث تعد بالأصابع ذكر بعض العلماء أن البخاري تفرد بها دون سائر الرواة، وقد وقفت عليها، وبعد البحث في طرقها تبيَّن لي أن البخاري لم يتفرَّد بروايتها؛ بل قد رواها غيره، إلا حديثين فقط لم أقف إلى الآن على من رواهما غيره.
 
ثم بعد كتابة هذا البحث تبيَّن أن أحد الحديثين قد رواه غير البخاري، فلم يبق إلا حديث واحد فقط، والله أعلم.
 
فلله در البخاري من إمام رحمه الله! فإن مجموع أحاديث صحيحه نحو 2500 حديثًا بلا تكرار، انتقاها البخاري من مسموعاته الكثيرة، وشهد له العلماء المتخصصون بأنها أصحُّ الصحيح، ووجد العلماء والباحثون أن جميعها قد رواها غيره، إلا هذين الحديثين اللذين سنذكرهما في آخر هذا البحث، وهما حديث مرفوع، وحديث موقوف.
 
ولا يعني هذا أن البخاري لم يسمع هذين الحديثين من شيوخه؛ بل قد سمع كلًّا منهما من بعض مشايخه، وكتب كل حديث منهما في صحيحه بإسناده؛ لكن علماء الحديث حين تتبَّعوا أحاديث البخاري حديثًا حديثًا، وتكلموا عن رواته راويًا راويًا، كانوا ينصون على أي حديث تفرَّد البخاري بروايته، ولا يلزم من عدم علمنا بوجود ذلك الحديث في الكتب المسندة التي اطَّلَعْنا عليها أن يكون الحديث غير موجود في كتب أخرى لم نطَّلِع عليها، فإن الأمر كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" (6/ 536): "لا يلزم من عدم وجود هذا المتن بهذا الإسناد بعد التتبُّع عدمه في نفس الأمر، والله أعلم".
 
وقد عدَّ العلماء بعض الأحاديث من غرائب الصحيح مع وجود متابع للبخاري في روايتها عن شيخ البخاري نفسه.
 
مثال ذلك: قال الإمام البخاري في صحيحه (6713): حدثنا منذر بن الوليد الجارودي، حدثنا أبو قتيبة وهو سلم، حدثنا مالك، عن نافع، قال: «كان ابن عمر، يعطي زكاة رمضان بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم الـمُد الأول، وفي كفارة اليمين بمُد النبي صلى الله عليه وسلم» قال أبو قتيبة: قال لنا مالك: «مُدنا أعظم من مدكم، ولا نرى الفضل إلا في مُد النبي صلى الله عليه وسلم».
 
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 598): "تنبيه: هذا الحديث غريب لم يروه عن مالك إلا أبو قتيبة، ولا عنه إلا المنذر، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نُعيم فلم يستخرجاه، بل ذكراه من طريق البخاري، وقد أخرجه الدارقطني في غرائب مالك من طريق البخاري، وأخرجه أيضًا عن ابن عقدة عن الحسين بن القاسم البجلي عن المنذر به دون كلام مالك، وقال: صحيح أخرجه البخاري عن المنذر به".
 
ففي هذا المثال ذكر ابن حجر أن هذا الحديث غريب، مع أنه نقل عن الدارقطني أنه روى الحديث عن ابن عقدة عن الحسين البجلي عن المنذر، فقد تابع الحسين البجلي البخاري في روايته عن شيخهما منذر بن الوليد.
 
واعلم أن العلماء قد يذكرون أن البخاري تفرَّد بحديث ويقصدون أنه تفرد به دون مسلم، أو أنه تفرد به دون أصحاب السنن الأربعة، وإن كان أخرج الحديث غيره من العلماء المصنفين، ومقصودنا في هذا البحث هو تفرُّد البخاري بحديث لم يخرجه أحد من المحدثين في جميع تصانيفهم التي اطَّلَعْنا عليها.
 
واعلم أن شُرَّاح صحيح البخاري إذا نصوا على أن حديثًا في صحيح البخاري قد تفرد به البخاري فهو بحسب علمهم واطلاعهم، وقد يطلع غيرهم على طريق آخر يتبين به أن البخاري لم يتفرد به، مثال ذلك:
قال البخاري رحمه الله (3210): حدثنا محمد، حدثنا ابن أبي مريم، أخبرنا الليث، حدثنا ابن أبي جعفر، عن محمد بن عبدالرحمن، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الملائكة تنزل في العَنان- وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكُهَّان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
 
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/ 309): "(قوله: حدثنا محمد، حدثنا ابن أبي مريم) قال الجياني: محمد هذا هو الذهلي، كذا قال، وقد قال أبو ذر بعد أن ساقه: محمد هذا هو البخاري، وهذا هو الأرجح عندي؛ فإن الإسماعيلي وأبا نعيم لم يجدا الحديث من غير رواية البخاري، فأخرجاه عنه، ولو كان عند غير البخاري لما ضاق عليهما مخرجه".
 
قلت: أشار الحافظ ابن حجر في كلامه السابق إلى أن هذا الحديث تفرَّد به البخاري، ولم يطلع رحمه الله على أنه يوجد راويان آخران قد تابعا البخاري في رواية هذا الحديث عن شيخه، وهما أحمد بن سلمة، وأحمد بن النضر، كما روى ذلك ابن منده في كتاب التوحيد، ويتبين من رواية ابن منده ترجيح كلام الجياني في كون محمد شيخ البخاري المبهم هو محمد بن يحيى الذهلي، وليس هو البخاري نفسه كما رجَّحه ابن حجر؛ لكون سعيد بن أبي مريم من مشايخ البخاري المشهورين، والله أعلم.
 
قال الحافظ ابن منده في كتاب التوحيد (36): أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن سلمة، وأخبرنا محمد بن يونس قال: حدثنا أحمد بن النضر قالا: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثني عبيدالله بن أبي جعفر، عن محمد بن عبدالرحمن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة تنزل في العَنان- وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي من السماء، فيسترق الشيطان السمع فيسمعه فيوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم)).
 
وقد وجدت أن هذا الحديث أخرجه قبل البخاري عبدالله بن وهب في جامعه، وهو شيخ شيوخ البخاري.
 
قال الإمام عبدالله بن وهب المصري كما في كتابه "الجامع" (691): وأخبرني ابن لهيعة، عن محمد بن عبدالرحمن، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الملائكة تنزل في العَنان- وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فيسترق الشيطان السمع فيستمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».
 
هذا وقد نجد حديثًا في صحيح البخاري عَدَّه العلماء من غرائب الصحيح لكن بعد جمع طرق الحديث والبحث فيها يتبين لنا أن أصل الحديث قد رواه غير البخاري من طريق أخرى عن نفس الصحابي، مثال ذلك:
قال البخاري (2159): حدثني عبدالله بن صباح، حدثنا أبو علي الحنفي، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، قال: حدثني أبي، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لبادٍ».
 
قال ابن حجر في فتح الباري (4/ 372): "تنبيه: حديث ابن عمر فَرْد غريب، لم أره إلا من رواية أبي علي الحنفي عن عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وعلى أبي نُعَيم فلم يخرجاه إلا من طريق البخاري، وله أصل من حديث ابن عمر، أخرجه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وليس هو في الموطأ".
 
قلت: وقد رواه أيضًا أحمد والنسائي والطبراني من حديث ابن عمر لكن من غير طريق البخاري، وبيان ذلك فيما يلي:
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (5010): حدثنا يزيد، أخبرنا ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتَلَقَّى الرُّكْبان أو يبيع حاضر لبادٍ».
 
وقال الإمام النسائي في سننه (4497): أخبرنا عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالحكم بن أعين قال: حدثنا شعيب بن الليث، عن أبيه، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن عبدالله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: «نهى عن النجش والتلقي، وأن يبيع حاضر لبادٍ».
 
وقال الحافظ الطبراني في المعجم الكبير (13546): حدثنا محمد بن الفضل السقطي، حدثنا سعيد بن سليمان، عن منصور بن أبي الأسود، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتلقى البيوع في أفواه الطرق، وأن يبيع حاضر لبادٍ».
 
فحديث ابن عمر عَدَّه ابن حجر من غرائب الصحيح مع أن له أكثر من طريق عن ابن عمر، فقد رواه عن ابن عمر ثلاثة من أصحابه: مسلم الخياط كما في مسند أحمد، ونافع كما في سنن النسائي، ومجاهد كما في معجم الطبراني الكبير، وتفرد البخاري بروايته من طريق عبدالله بن دينار عن ابن عمر، وهي الطريق التي عَدَّها ابن حجر غريبة؛ لكونه لم يجد أحدًا رواها غير البخاري رحمه الله.
 
وبعد هذه المقدمة المهمة نذكر الحديثين اللذين لم أجد - بحسب علمي القاصر - أحدًا تابع البخاريَّ على روايتهما بإسناده ومتنه:
الحديث الأول: قال البخاري في صحيحه (6587): حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا محمد بن فُلَيح، حدثنا أبي، قال: حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذا زُمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَلِ النَّعَمِ».
 
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 474): "حديث أبي هريرة أيضًا أخرجه من رواية فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار عنه، ورجال سنده كلهم مدنيون، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي وأبي نعيم وسائر من استخرج على الصحيح، فأخرجوه من عدة طرق عن البخاري عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح عن أبيه".
 
قلت: هذا الحديث ضعَّفه الألباني في كتابه السلسلة الضعيفة (14/ 1031 - 1035) حديث رقم (6945) لضعف في سنده، ولمخالفة متنه لغيره من الأحاديث الصحيحة، وهذا كلام الألباني باختصار: شاذ؛ بل منكر.
إسناده غريب، تفرد به البخاري دون مسلم وسائر أصحاب الصحيح، وعلته عندي في إسناده ومتنه.
أما الإسناد؛ ففيه فليح بن سليمان، وهو كما قال الحافظ في التقريب: صدوق كثير الخطأ.
وقريب منه ابنه محمد بن فليح: قال الحافظ أيضًا: صدوق يهم.
هذا ما يتعلق بالإسناد، وهو كما ترى ضعف ووهن.
وأما ما يتعلق بالمتن: ففيه مخالفة لأحاديث الحوض الكثيرة جدًّا، وهي قد جاوزت الثلاثين حديثًا أو قريبًا من ذلك عند البخاري وغيره، ويمكن حصر المخالفة فيما يأتي:
أولًا: قوله: «بينا أنا نائم»، فجعل القصة رؤيا منامية، والأحاديث كلها خالية عن هذه الزيادة المنكرة [قلت: في بعض نسخ البخاري: «بينما أنا قائم»].
 
ثانيًا: قوله: «خرج رجل من بيني وبينهم» منكر أشد الإنكار روايةً ومعنًى؛ لأنه مخالف لكل أحاديث الحوض عن أبي هريرة وغيره.
 
ثالثًا: أنه جعل الذين ارتدوا القهقرى زمرتين، وهذا ما تفرَّد به هذا الحديث المنكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
 
انتهى كلام الألباني باختصار، وسواء وافق العلماء والباحثون الألباني على تضعيف الحديث أو لم يوافقوه، فالمقصود هنا أن هذا الحديث لم أجد من رواه غير البخاري، والله أعلم.
 
الحديث الثاني: قال البخاري في صحيحه (1628): حدثنا الحسن بن عمر البصري، حدثنا يزيد بن زريع، عن حبيب، عن عطاء، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن ناسًا طافوا بالبيت بعد صلاة الصبح، ثم قعدوا إلى المُذَكِّر، حتى إذا طلعت الشمس قاموا يصلون، فقالت عائشة رضي الله عنها: (قعدوا، حتى إذا كانت الساعة التي تُكره فيها الصلاة قاموا يصلون!).
 
قال ابن حجر في فتح الباري (3/ 489): "ضاق على الإسماعيلي وأبي نعيم مخرجه، فتركه الإسماعيلي، وأخرجه أبو نعيم من طريق البخاري هذه"، ومعنى قول ابن حجر: تركه الإسماعيلي؛ أي: ترك تخريجه في كتابه المستخرج، فالحافظ الإسماعيلي المتوفى سنة 371 هجرية له كتاب المستخرج على صحيح البخاري، وكذلك للحافظ أبي نعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430 هجرية كتاب المستخرج على صحيح البخاري، وقد قام هذان الحافظان الكبيران بتتبُّع أحاديث صحيح البخاري حديثًا حديثًا، وأخرجاها بأسانيدهما الخاصة بهما، بحيث يلتقيان مع البخاري في كل حديث في شيخه، أو من فوقه، فقد رويا جميع أحاديث صحيح البخاري من طريق شيخ البخاري أو شيخ شيخه أو شيخ شيخ شيخه، ولكن هذا الحديث لم يجدا في مروياتهما إسنادًا يرويانه عن أحد مشايخ البخاري أو مشايخ مشايخه، فترك الإسماعيلي ذكره في كتابه، وأما أبو نعيم فرواه بإسناده من طريق البخاري نفسه.
 
وكتب المستخرجات على صحيح البخاري وكذلك على صحيح مسلم كثيرة، ألَّفَها حُفَّاظ جهابذة، وهذه المستخرجات تبين بالتفصيل عدم تفرُّد البخاري ومسلم برواية أي حديث في صحيحيهما.
 
فهذا الحديث الموقوف عن عائشة لا أعلم أحدًا رواه غير البخاري رحمه الله، وهو ثقة إمام الدنيا في الحديث، ولا نشك أن البخاري سمعه من شيخه الحسن بن عمر البصري، فهو حديث صحيح لا نعلم أحدًا تكلَّم عليه بضعف.
 
ثم أفادني بعض طلاب العلم بأن هذا الحديث قد أخرجه غير البخاري، قال ابن أبي شيبة في مصنفه (7360): حدثنا عبدالوهاب الثقفي، عن حبيب، عن عطاء قال: حدثني عروة بن الزبير، أن أناسًا طافوا بالبيت بعد الفجر، ثم قعدوا عند المُذكِّر، حتى إذا كان عند طلوع الشمس قاموا يصلون، قالت عائشة: «قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي يكره فيها الصلاة قاموا يصلون!».
 
والحافظ أبو بكر بن أبي شيبة من مشايخ البخاري ومسلم، توفي سنة 235 هجرية، ومصنفه المسمى ((المصنف في الأحاديث والآثار)) أكبر الموسوعات الحديثية المسندة، فيه ما يقارب 40 ألف رواية مسندة، بعضها مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وغالبها آثار عن الصحابة والتابعين وأتباعهم.
 
فرحم الله المحدثين الذين تتبعوا أحاديث الصحيحين حديثًا حديثًا، وتكلموا في شرح متونها كلمةً كلمةً، وتكلموا في بيان أسانيدها رجلًا رجلًا، حتى إنهم كما رأيت يبينون الحديث الذي تفرَّد به البخاري؛ بل إن المحدثين رحمهم الله انتقدوا بعض الألفاظ أو الروايات القليلة جدًّا في الصحيحين، وتكلمهم فيها يزيد المسلم يقينًا بصحة أحاديث الصحيحين؛ لأن المحدثين لا يجاملون أحدًا، ولو جاملوا أحدًا لجاملوا الإمامين البخاري ومسلمًا؛ بل اجتهد حُفَّاظ الحديث بعدهما في تتبُّع أحاديث الصحيحين كلها حديثًا حديثًا، وتكلَّمُوا عن أي علة خفية تظهر لهم في بعض طرق أحاديثهما ولو في لفظة واحدة من الحديث، وإن كان الحديث صحيحًا محفوظًا من طريق آخر، وكتاب الإمام الدارقطني "الإلزامات والتتبُّع" خير شاهد على ذلك، فقد تتبع أحاديث الصحيحين، وتكلم على أدنى علة تظهر له وإن كانت غير مؤثرة في صحة الحديث، وكذلك فعل غيره من جهابذة المحدثين؛ كابن عمار الشهيد وأبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني وغيرهم من علماء الحديث رحمهم الله، وصدق ابن الصلاح رحمه الله حين قال في كتابه علوم الحديث ص 29: "ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يُقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول، سوى أحرف يسيرة تكلَّم عليها بعض أهل النقد من الحُفَّاظ؛ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم".
 
وخلاصة البحث: لم يتفرد الإمام البخاري - فيما أعلم - إلا بالحديثين المذكورين؛ حديث أبي هريرة المرفوع، وحديث عائشة الموقوف، ثم تبين لي فيما بعد أنه لم يتفرد إلا بحديث أبي هريرة فقط، وهذا مما يؤكد لنا أن كل حديث في صحيح البخاري قد تابعه على روايته غيره من أقرانه أو شيوخه أو شيوخ شيوخه، أو تابعه على روايته من جاء بعده من غير طريقه، ولو أن البخاري رحمه الله لم يُخلَق، فالأحاديث التي في صحيحه محفوظة في كتب غيره من علماء الحديث، الذين كانوا قبله أو عاشوا في زمنه أو جاءوا من بعده، والحمد لله رب العالمين.

شارك الخبر

المرئيات-١