أرشيف المقالات

ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى (2/2)

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى (2/2)
 
ذكرنا في المنارة السابقة السببَ الأهمَّ الذي جعَل اليهودَ والذين أشركوا أشدَّ الناس عداوةً للمسلمين، وتتمَّةً لبيانِ معنى الآية، نبيِّن: لِمَ كان موقف النصارى إيجابيًّا بإزاء موقف غيرهم مِن الكفار؟
لقد شَهدَت الآيةُ للذين قالوا: إنا نصارى، بأنهم أقربُ الناس مودةً للمسلمين، ونبيِّن السببَ مباشرة، فنقول: ذلك لأن بينهم ومنهم رجالُ دِين - مِن قسِّيسين ورُهبان - أصحاب مواقفَ إيجابيةٍ تجاه الإسلامِ وأهلِه، حتى تطوَّر هذا الموقف، وأدَّى إلى دخول بعضِهم في الإسلام؛ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 82، 83].
 
يمكن القول في ضوء هذا:
إنه لم يكن في ذلك الوقت بين النصارى مَن يُوغِر صدورَهم على الإسلام وأهلِه، أو يُهاجم الإسلامَ ويحُثُّ على مُحارَبتِه، فانعكسَت هذه المواقفُ الإيجابية مِن كُبَراءِ النصارى على الرأي العامِّ النصرانيِّ آنذاك.
 
إنَّ أبرز مثالٍ على هذا نصارى الحبشة، فإن رُهبانَهم - وعلى رأسِهم النجاشيُّ، رحمه الله تعالى - رحَّبوا بهذا الدِّين، وعرَفوا أنه حقٌّ مِن ربهم، فتعاطَف منهم جماعةٌ، وأسلَم مِن الرهبان مَن أسلم، وأشهرُهم النجاشيُّ الذي نَعَاهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يومَ موْته للمسلمين، وصلَّى عليه صلاةَ الغائبِ، وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة، لقد كان لِمواقِفِ الرُّهبانِ الإيجابيةِ أَثَرٌ طيِّب على نصارى الحبشة بعامَّة، حين وَجد المسلمون منهم ترحيبًا وقبولًا.
 
إن الآية التي نتحدَّث عنها صريحةٌ في أنها تتحدَّث عن (نصارى)؛ ولهذا لا يصحُّ أن يُقال: إنَّ سببَ مودَّتهم أنهم أسلَموا، ويُؤيِّد هذا سياقُ الآية، فإن فيها: ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وهذا يعني صراحةً أن هناك فريقين: نصارى أظهروا مودَّتهم؛ بسبب وُجُود قساوسة ورهبان بينهم، لهم مواقفُ إيجابيةٌ، وفريقٌ آخَرُ، وهو المسلمون.
 
تصِف هذه الآية واقعًا كان موجودًا في بداية الإسلام، وهو واقعٌ قابلٌ للتغيير - فيما يبدو - في ضوء مواقف القساوسة والرهبان النصارى، وهذا يفسِّر لنا مودَّةَ النصارى زمَن النجاشيِّ، ومعونةَ النصارى للمسلمين في معركة القادسية، ولعله مِن المناسب أن نذكر في هذا المقام حكمة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حين أوصَى الجيوشَ الإسلاميةَ المُتَّجهةَ إلى فتوحات الشام، بتجنُّب التعرُّض للرهبان في صوامعهم؛ رغبةً في إبقائهم على الحِيَاد، وتَجنُّبًا للتحرُّش بهم؛ حتى لا يؤثِّروا على عامَّة النصارى.
 
كما يفسِّر لنا هذا الفهمُ عداوةَ النصارى في العصور المتأخرة؛ بسب وجود قساوسة ورهبان ناصَبُوا الإسلامَ العداوةَ، وأوغَروا صُدورَ الحُكَّام والعامَّة على المسلمين.
 
إنَّ مفتاح فهم هذه الآية قوله - تعالى - فيها: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ ﴾، بَعد التأمُّلِ في سِيَاقِها، دونما تَجاهُلٍ لأيِّ مُفرَدةٍ فيها، أو تغيير دلالتها.
والله أعلم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١