أرشيف المقالات

تفسير القرآن الحكيم - الجزء الخامس

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
تفسير القرآن الحكيم - الجزء الخامس[1]
سورة البقرة
 
آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات أو ست آيات، جميعها مدنيَّة بالإجماع، منها آية (281) ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]...
إلخ.
 
قال ابن عباس: إنها آخِر القُرآن نُزُولاً، حكاه ابن جرير.
 
وسورة البقرة أطول سُوَرِ القُرآن كلها، وتَلِيها بقيَّة السَّبع الطُّوال، بتقديم المدنيِّ على المكي، لا الطُّولى فالطُّولى.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الم ﴾ [البقرة: 1] تُقرَأ هذه الحروف مُقطَّعة بالسُّكون لا بتحريك الإعراب، فنقول: ألفْ، لامْ، ميمْ؛ لأنها لم تُسَقْ في جملةٍ حتى تُحرَّك بحركة الإعراب.
 
وقد اختُلِف في هذه الحروف الموضوعة في أوائل بعض سُوَرِ القُرآن الكريم؛ فحكي القرطبي عن أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعود - رضي الله عنهم - أنها ممَّا استَأثَر الله - تعالى - بعلمه، وأنهم ردُّوا علمَها إلى الله فلم يُفسِّروها، واختار هذا القول أبو حاتم بن حبان.
 
ومنهم مَن فسَّرها، واختلفوا في معناها:
فقال بعضهم: هي أحرف من كلمات تدلُّ على معنى، فالألف من "أنا"، واللام من "الله"، والميم من "أعلم"، فمعنى ﴿ الم ﴾: (أنا الله أعلم)، حُكِي ذلك عن ابن عباس.
 
وقال آخَرون: هي فواتح يفتَتِح الله بها السُّوَر، حُكِي عن مجاهد.
 
وقال آخَرون: هي أسماءٌ للسور التي فتحت بها، قال الزمخشري: وعليه إطباقُ الأكثر، ونقَلَه عن سيبويه أنَّه نصَّ عليه، ويعتضد لهذا بما رُوِيَ في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقرأ في صلاة فجر الجمعة: ﴿ الم ﴾ السجدة، و﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ﴾ [الإنسان: 1].
 
ورُوِيَ عن ابن عباسٍ أنها أقسام، وقال الأخفش: إنما يُقسِم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها؛ لأنَّها مباني كتبه المنزلة ومبادئ أسمائه الحسنى.
 
أمَّا الحكمة التي اقتضَتْ سَوْقَ هذه الحروف على هذا الوجْه في أوائل هذه السُّوَرِ، فقال بعضهم: هي معرفة أوائل السور، حَكاه ابن جرير، قال ابن كثير: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الفصل حاصِلٌ بدونها ممَّا لم تُذكَر فيه.
 
وقال آخَرون: هي بيان إعجاز القُرآن الكريم، وأنَّ الخلق عاجزون عن معارضته بمثْله مع أنَّه مركَّب من هذه الأحرف التي يتخاطَب بها كلهم، وهذا القول محكيٌّ عن المبرد وجمعٍ من المحقِّقين، وقرَّره الزمخشري ونصَرَه أتَمَّ نصرةٍ، وإليه ذهَب الإمام العلاَّمة المجتهِد شيخ الإسلام تقيُّ الدين أحمد بن تيميَّة وأيَّده ابن كثير.
 
قال الزمخشريُّ[2]: ولم تردْ كلها مجموعةً في أوَّل القُرآن، وإنما كُرِّرتْ ليكون أبلَغَ في التحدِّي والتبكِيت كما قررت قصص كثيرة...
قال: وجاءت على حرفٍ وعلى حرفين وثلاثة وأربعة وخمسة لأنَّ أساليب كلامهم على هذا، من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك.
 
وقال آخَرون: بل ابتدأ بها هذه السور لتنبيه المشركين الذين كانوا يتواصون بالإعراض عن القُرآن؛ ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، حتى إذا استمَعُوا لها والتفَتُوا إليها هجَم عليهم: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، ونحوها قبل أنْ يكون ثَمَّ مجالٌ للانصِراف.
 
قال الفخر الرازي[3]: إنَّ الكفار لَمَّا قالوا: ﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وتواصَوْا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى، لما أحب من صلاحهم ونفعهم - أنْ يُورِد عليهم ما لا يعرفونه؛ ليكون سببًا لإسكاتهم واستِماعهم لما يرد عليهم من القُرآن، فأنزَلَ الله عليهم هذه الحروف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجِّبين: اسمَعُوا إلى ما يَجِيء به محمد (عليه السلام) فإذا أصغَوْا هجَم عليهم القُرآن؛ فكان ذلك سببًا لاستِماعهم وطريقًا لانتفاعهم، ا.هـ.
 
وقد عزا الرازي هذا إلى محمَّد بن الحسن بن عبدالله بن روق المحدِّث المتوفَّى سنة 168هـ وإلى محمد بن المستنير الشهير بقطرب النحوي المتوفَّى سنة 206هـ.
 
وأضعَفُ ما قِيل في هذه الأحرُفِ وأسخفه أنَّ المراد بها الإشارة بحساب الجمل إلى مُدَّة مُعيَّنة لهذه الأمَّة أو ما يُشبِهُ ذلك.
 
قال الحافظ ابن كثير[4]: وأمَّا مَن زعَم أنها دالَّة على معرفة المدد، وأنَّه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادَّعى ما ليس له، وطارَ في غير مَطاره، وقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ ضعيف، وهو مع ذلك أدلُّ على بُطلان هذا المسلك من التمسُّك به على صحَّته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي"، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبدالله بن رئاب قال: مرَّ أبو ياسر ابن ياسر بن أخطب في رجالٍ من يهودٍ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة، وساقَ الحديث وهو طويلٌ ثم قال: فهذا الحديث مَداره على محمَّد بن السائب الكلبي، وهو ممَّن لا يُحتَجُّ بما انفرد به، ا.هـ.
 
بل الكلبي مُتَّهَمٌ بالكذب كما صرَّحُوا به.
 
وأسخَفُ من هذا القول وأشنع زعْم بعض الشِّيعة أنها بعد حذْف المكرر منها لمدح عليِّ بن أبي طالب - رضِي الله عنه - أو تفضيله، وترجيح خِلافته على غيره من الخلفاء الراشدين.
 
وقال الأستاذ صاحب "المنار": إنَّه لا يزال يُوجَد في الناس - حتى عُلَماء التاريخ - مَن يرى أنَّ في هذه الحروف رُموزًا إلى بعض الحقائق الدينيَّة والتاريخيَّة ستُظهِرها الأيَّام.
 
قوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ [البقرة: 2]، ذلك بمعنى (هذا) في قول ابن عبَّاس ومجاهد وعِكرِمَة وغيرهم، إشارة إلى ما أنزَلَه الله - تعالى - على نبيه صلَّى الله عليه وسلَّم من القُرآن كلِّه أو إلى ما نزَل من السُّوَر قبل البقرة، والعرب تُعاقِب بين اسمي الإشارة؛ فتجعل كلَّ واحدٍ منهما مَكان الآخَر، وهذا معروفٌ في كلامهم؛ قال ابن جرير: فإنْ قال قائلٌ: وكيف يجوزُ أنْ يكون (ذلك) بمعنى (هذا)، وهذا لا شكَّ إشارةٌ إلى حاضِر مُعايَن، وذلك إشارةٌ إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن؟ قيل: جازَ ذلك لأنَّ كلَّ ما تقضى وقرُب تقضِّيه من الأخبار فهو وإنْ صار بمعنى غير الحاضر فكالحاضر عند المُخاطَب، ا.هـ.
 
وقال الأستاذ صاحب "المنار": والإشارة البعيدة بالكاف يُراد بها بُعد مَرتَبته في الكمال، وعُلوها عن متناول قريحة شاعِر أو مَقُول خطب قوَّال، والبُعد والقُرب في الخطاب الإلهي إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ا.هـ.
 
و﴿ الكتاب ﴾ مصدرٌ، وهو بمعنى المكتوب، كما يُقال للمخلوق: خلْق، وأصلُ الكَتْبِ الجمعُ والضم، ويُقال للجند: كتيبة؛ لاجتماعها، وسُمِّي الكتاب كتابا لأنَّه جمَع أحرُفًا إلى أحرف، والإشارة إليه تُعيُّنه تعيينًا شخصيًّا أو نوعيًّا، والمراد: كتابٌ معروف معهود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم بوصفه، وذلك العهد مَبنِيٌّ على صِدق الوَعد من الله - تعالى - بأنْ يُؤيِّده بكتابٍ مُبِين؛ ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16]أأقبيلبيل.
 
وإنما أشارَ الله - جلَّ شأنه - إلى الكتاب كلِّه مع أنَّه لم يكن وقت الإشارة قد نزَل جميعُه؛ إشارةً إلى أنَّ الله لا بُدَّ متمٌّ ذلك الكتابَ إنجازًا لوعده وتصديقًا لقوله.
 
﴿ لاَ رَيْبَ فِيه ﴾ [البقرة: 2]، الرَّيب مصدرٌ من قولك رابني الشيء يريبني ريبًا وريبة، والريبة الشكُّ والظنَّة بمعنى التُّهمة.
 
والمعنى: أنَّ ذلك الكتاب بَرِيءٌ من العُيوب والنَّقص؛ فلا شكَّ فيه، ولا ريبة تعتريه، لا من حيث كونُه تنزيلَ العزيز الحميد على نبيِّه الكريم، ولا من حيثُ إنَّه هادٍ إلى الصراط القويم الكافل لسَعادة الدُّنيا والآخِرة، وأنَّ مجيئَه على ذلك الأُسلوب البليغ على لِسان ذلك النبيِّ الأميِّ الذي لم يسبقْ منه قبلَ النبوَّة مُعاناة تلك الفُنون من ضُروب القول فضلاً عن هذه الدرجة التي تَقاصَرتْ دُونَها فُحولُ الكلام، ذلك الكتاب الذي جاء على هذه الصفة مَن نظَر إليه بعين الإنصاف، أو ترفع عن عمى الظُّلم والاعتِساف لا يسَعُه إلا أنْ يقول: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].
 
ومن القُرَّاء مَن يقف على ﴿ لا ريب ﴾، والمعنى على ذلك: ذلك الكتاب الحقيق بالإجلال والإكبار والإعظام؛ لما جمَع من صِفات الصِّدق والحقِّ والهدى بما لم يحظَ شيءٌ من الكتب بعُشر مِعشاره، وذلك مثلُ قولك: هذا الرجل، لِمَن تريدُ تَعظِيمَه وإجلاله.
 
ويُرجِّح قراءة الجمهور أوَّل سورة السجدة: ﴿ الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [السجدة: 1-2]، وأنَّه على قِراءة الجمهور يكونُ هُدًى، وذلك أبلَغُ من وصفه بأنَّ فيه هدًى.
 
﴿ هدًى للمتقين ﴾ الهدى هنا مصدرٌ من قولك: هديت فلانًا الطريق، إذا أرشَدتَه إليه ودللته عليه وبيَّنته له، أهديه هُدًى وهِداية.
 
وكلمة ﴿ المتقين ﴾ من الاتقاء، والاسم التقوى وأصل مادَّتها وقى يَقِي، والوقاية معروفةُ المعنى، ومعنى التقوى: منْع وُقوع عَذاب الله - تعالى - ودفعه، وعذاب الله - تعالى - يكونُ في الدنيا كما يكونُ في الآخِرة، وإنِ اختلفت مادَّته في الحالتين؛ ففي القُرآن الكريم كثيرٌ من قصص الأمم التي عذَّبَها الله - تعالى - في الدنيا بالخسف والمسخ والإغراق والإحراق وتسليط الأعداء الذين يَسُومونهم سُوءَ العذاب، وبيَّن الله - جلَّ شأنه - أسبابَ هذا العذاب الذي سلَكُوه حتى أدَّى بهم إلى العَذاب الأليم، وكذلك ذكَر الله - جلَّ شأنُه - في وصْف عذاب الآخِرة - نسأل الله العافية - ما يُذِيب القلوب، ويُفتِّت الأكباد، كما يُبيِّن الطريق المؤدِّي إليه.
 
وينحَصِر سبب العَذابين في مخالفة سُنَنِ الله الكونيَّة أو سنن الله التشريعيَّة.
 
فأمَّةُ بني إسرائيل خالَفتْ سُنَّةَ الله الكونيَّة في أنَّ القُوَى الموزَّعة والقُلوب المتفرِّقة والأيادي الفارغة من السِّلاح لا تردُّ عَدُوًّا ولا تدفَعُ صائلاً مهما كان عدد هذه الأمَّة كثيرًا وسَوادها عظيمًا، فكلُّه غُثاء كغُثاء السيل لا يُغنِي فتيلاً ولا يُفِيد نقيرًا، هذا مع مُخالَفتها لسُنَنِه التشريعيَّة وعُدوانهم على حُدوده وإفسادهم في الأرض بالظُّلم والفُسوق، فعذَّبهم الله - تعالى - بعِبادٍ أولى بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وكان وعدًا مفعولاً.
 
فالتَّقوى هي أنْ يبتَعِد الناس أفرادًا ومجتمعِين عن هذه الأسباب، فيُطِيعوا أمرَه ويجتَنِبوا نهيَه، من قُلوب مُخلِصة بذلك، قد خلصت نيَّتهم وصدَقتْ عزيمتُهم في سِرِّهم والإعلان، وفي الحقيقة فالتقوى أصلها الخوف والخشية لله - سبحانه وتعالى - وحُسن مُراقبته مراقبةً تجعَلُ العبد دائمًا حاضرًا بين يَدَيْ ربِّه في كلِّ حين وعلى كلِّ حال؛ ((فإنَّك إنْ لم تكنْ تَراه فإنَّه يَراك))، وتلك التقوى هي التي تُقوِّم من خُلُقِ المؤمن وتُهذِّبُ من نفسه وتُزكِّيه وتُطهِّره من كلِّ خلُق خبيثٍ وطبْع ذميم.
 
هذه التقوى هي الأتون الذي يُصهَر فيه القلب، ووَقُوده الخوف والخشية، فيخرج وقد تطهَّر من صدَأ القَسْوة وخَبائِث الجفوة، ونَقائص الأطماع، والحظوظ الشهوانيَّة والشهوات الشيطانيَّة التي كلها تتراكَمُ عليه إذا حُرِمَ ذلك الوقود فانطَفَأ ذلك الأتون.
 
يظنُّ بعض الناس أنَّ التقوى هي مجرَّد الحركات الظاهريَّة في الأعمال الشرعيَّة إيجابًا وسلبًا، فيظنُّون أنَّ التقوى في الصلاة هي أنْ يُصلِّي الخمسة الأوقات بوضوئها ورُكوعها وسُجودها مكتفيًا بتلك المظاهر عن البحث عمَّا وَراء ذلك من حَقائق ما في الصَّلاة مع الجماعة مثلاً من أنَّ القصد جمْع كلمةِ المسلمين وربْط قُلوبهم برِباط المودَّة والإخاء، وجعْل ذلك الموقف - موقفَ الخشوع بين يدَيِ الكبيرِ المُتَعالِ - شافعًا فيما عَساه يكونُ في قُلوبهم من أثَر شَحناء أو بَغضاء قَضَتْ سنَّة الحياة وحركتها بأنْ يحدث شيء منها من مُشادَّة في بيع أو شِراء مثلاً، يَزُول ذلك في موقف الجماعة، فيَخرُجون إخوانًا مُتَحابِّين قد صَفَتْ قلوبهم وخَلصتْ ممَّا لو طال بقاؤه لقضَى عليهم وعلى قوَّتهم كما هو مَرئيٌّ ومحسوسٌ الآن بين الجماعات التي لا تَرعَى ولا تُحقِّق حكمةَ صلاةِ الجماعة التي أشارَ إليها الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: ((لتُسَوُّنَّ صُفوفَكم أو لَيُخالفنَّ الله بين قُلوبِكم))[5].
 
ويُقاس على هذا غيره من كلِّ الأعمال الشرعيَّة التي هي في حَقائق أمرها لِمَن يتأمَّلها أنهار عَذبة تردُ على القلوب فتغسلها وتُطهِّرها من الأدران والقاذورات؛ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].
 
قال الأستاذ صاحب "المنار": إنَّ العِقاب الإلهي الذي يجبُ على الناس اتِّقاؤه قسمان: دنيوي، وأخروي، وكلٌّ منهما يُتَّقَى باتِّقاء أسبابه، وهي نوعان: مخالفة دِين الله وشَرعه، ومخالفة سُنَنِه في نظام خَلقه، فأمَّا عِقاب الآخِرة فيُتَّقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما يُنافِي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مُبيَّن في كتاب الله - تعالى - وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وأفضل ما يُستَعان به على فَهْمِهما واتِّباعهما سِيرة السَّلَفِ الصالح - رضي الله عنهم - من الصحابة والتابعين والأئمَّة الأوَّلين من آلِ الرسول وعُلَماء الأمصار.
 
وأمَّا عِقاب الدنيا فيجبُ أنْ يُستَعان على اتِّقائه بالعِلم بسُنَنِ الله - تعالى - في هذا العالم، ولا سيَّما سنن اعتِدال المزاج، وصحَّة الأبدان، وأمثلتها ظاهرةٌ، وسنن الاجتماع البشري.
 
فاتِّقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقَّف على معرفة نِظام الحرب وفُنونها وإتقان آلاتها وأسلحتها التي ارتَقَتْ في هذا العصر ارتقاءً عجيبًا وهو المشار إليه بقوله: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، كما يتوقَّف على أسباب القوَّة المعنويَّة من اجتماع الكلمة واتِّحاد الأمَّة، والصبر والثبات والتوكُّل على الله واحتساب الأجر عنده؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]، ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].



[1] "مجلة الإصلاح"، العدد الخامس - 1 /5/1347.


[2] "الكشاف عن حقائق التنزيل" 1 /129.


[3] "تفسير الرازي" 1 /181.


[4] "تفسير ابن كثير" 1 /39.


[5] أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436) من حديث النعمان بن بشير - رضِي الله عنه - بلفظ: ((وُجوهَكم)) بدل: ((قلوبكم))، وأخرجه أحمد 4 /276، وأبو داود (662) بلفظ: ((لتقيمنَّ صُفوفَكم أو لَيُخالفَنَّ الله بين قُلوبِكم)).

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن