تأملات في آيات من القرآن الكريم .. سورة آل عمران
مدة
قراءة المادة :
29 دقائق
.
تأملات في آيات من القرآن الكريمسورة آل عمران
1- ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 3، 4].
وقد ورد في هذه الآيةِ الكريمة فعلانِ، هما: ﴿ نَزَّلَ ﴾ و ﴿ أَنْزَلَ ﴾، واقترنت الصيغةُ الأولى "نَزَّلَ" بالقرآنِ الكريم، وتعني التنزيل مرة بعد مرة، وهذا هو المناسب للقرآنِ الذي نزَل منجَّمًا، وعلى فترات شتى، وأما التوراةُ والإنجيل، فقد نزلا دفعة واحدة، فصار "أنزل" متوافقًا معهما؛ (تفسير القرطبي 4/ 9، الكشاف 1/ 331).
وأما الفرقان الذي هو من أسماء القرآن - كما هو معلوم - فقد ورد "َأَنْزَلَ" المناسبُ لِما نزل دفعةً واحدة، وسبب ذلك أن المرادَ بالفرقان هو دلالتُهُ الوصفية المفرِّقة بين الحقِّ والباطل، وقد فُصِل بينهما بمجردِ نزول القرآن الكريم، لا باكتمالِ نزوله، ولم يكن ذلك التفريقُ متدرجًا أو منجَّمًا، وكذلك الحال فإن الآياتِ المحكَماتِ والمتشابهات تقترنُ هي الأخرى بـ: "أَنْزَلَ"؛ إذ لا تدرُّجَ فيها.
وقال ابنُ منظورٍ: "وتنزَّله وأنزله ونزَّله بمعنًى، قال سيبويه: وكان أبو عمرٍو يفرِّقُ بين "نزّلت، وأنزلت" ولم يذكُرْ وجهَ الفَرْق، قال أبو الحسنِ: لا فرق عندي بين "نزّلت، وأنزلت" إلا بصيغةِ التكثيرِ في "نزّلت"، في قراءة ابن مسعود: وأنزل الملائكةَ تنزيلاً، أنزل: كنزَّل"؛ (لسان العرب، مادة: نزل).
ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء: 106]، وأما قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، فهو للإشارة إلى إنزال القرآنِ جملةً واحدة إلى السماءِ الدنيا، ومن ثم نزوله بعد ذلك منجَّمًا، وبحسَب المناسبات، ولربما حُمل "أَنْزَلْنَاهُ" على هذا أينما ورد في القرآنِ الكريم، أو على التأويل الذي كان لـ: ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 4].
2- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 10].
فالآيةُ بصدد أن الكافرَ لا ينفعُه مالٌ ولا بنون، وعلى افتراض أنه يرغبُ في الافتداءِ من العذاب، فإنه يتدرَّج في بذل النفيس تبعًا لحساباته هو، فيعرِض أولاً ما يمكنُه التضحية به، فإن لم ينفعْ، قدَّم الأغلى الذي يزداد حرصُه عليه، والمرء يفتدي أولاده بماله؛ لأن الأولادَ أهمُّ في نظره؛ ولهذا فإن الآيةَ الكريمة تبيِّن حالةَ الكافر يوم القيامة، فهو يدَّخرُ ولدَه، ويبذُلُ مالَه أولاً ليفتديَ به من العذاب، وإذ يراه غيرَ مُغْنٍ، فإنه يدفَعُ ولَدَه الذي هو أعزُّ من المال؛ ولهذا ورَدَ الترتيبُ على هذا النحو "أَمْوَالُهُمْ" أولاً، ثم "أَوْلَادُهُمْ": ﴿ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ﴾.
وينسجم هذا العرضُ وبطريقة عكسيةٍ مع الترتيب الذي ذكره القرآنُ الكريم لشهوات الإنسان، مبتدئًا بالأقوى، وتدرَّج نزولاً، فقال - سبحانه -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، ويعكس هذا الترتيبُ وجهةَ نظر الإنسان إذا جاز التعبير؛ فهذه المحبوباتُ مرتَّبة بحسَب أولويتها لديه، وليس الترتيبُ على هذا النحوِ عند الله تعالى، فهو - سبحانه - بدأ بالأدنى، وتدرَّج صعودًا في وعدِه للصالحين من عباده؛ فقد وعَدَهم الجنةَ، التي هي أصلُ النعيم الحسي كله، بتفاصيلَ مجهولةٍ، مع ما فيها من ذكرٍ لـ: ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [آل عمران: 195] و ﴿ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾؛ لكي يتخيلَ المستمعُ كلَّ ما يمكن أن يخطرَ بباله بشأنها، ونيلُ الجنة لا يكونُ بغير رضا اللهِ تعالى، ومن ثم فإن ترتيبَه - سبحانه - يبدأ بالرضا الذي لم يُصرحْ به، وإنما ذُكرتْ آثارُه مجمَلاً، وبعد ذلك ذكر الرضوان صراحةً ليكونَ النعيمُ بين رِضوانين؛ فتزدادَ بهجتُه، ويزدادَ السرورُ به؛ فقال - سبحانه -: ﴿ قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]؛ فالجنةُ هي الأُولى في الترتيب، ونعيمُها هو الثاني، وهما مِن ثمارِ الرِّضا، ثم الرِّضوان الذي هو الثالث في الترتيب، وهو الأعلى والأهمُّ.
3- ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13].
أ- لم يقل: كانت لكم آية، لأن "آَيَة" مؤنَّثٌ مجازيٌّ، فيجوزُ في فعله التذكيرُ والتأنيثُ، وقال الفراء: إن تذكيرَ الفعل مردودٌ إلى أن "كَانَ" واسمَها الذي هو "آَيَةٌ" لم يَرِدا متعاقبينِ، بل حصل بينهما فصلٌ بالصفةِ التي هي "لَكُمْ"؛ (تفسير القرطبي 4/ 28 - 29).
ب- يمكنُ أن يعودَ الضميرُ "هم" في "يَرَوْنَهُمْ" إلى الكافرين، وفي "مِثْلَيْهِمْ" إلى المسلمين؛ ليكون المعنى أن المسلمين رأَوْا أنَّ عددَ الكافرين هو ضِعفُ عددِهم هم؛ أي: إن المسلمين الذين كان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً، رأَوا أنَّ عدد الكافرين هو في حدود ستمائة وثلاثين، وقد يكون العكس، فيكون المعنى أن الكافرين رأوا المسلمين ضِعْفَ عددهم الحقيقي؛ أي: ستمائة وثلاثين مقاتلاً تقريبًا، أو أنهم وقد كان عددهم قرابةَ ألفٍ رأوا المسلمين ضِعْفَ عددهم هم؛ أي: إنهم رأوا المسلمين ألفين، وهذا المعنى هو المنسجم مع المدد الإلهي ومع: ﴿ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾، فهذا النصرُ كان بإلقاء الخوف في قلوب الكافرين؛ بشعورهم بعدم توازن العدد في مقاتليهم لمقاتلي المسلمين، وقد ذكَر القرآنُ الكريم الواقعة مرة أخرى في سورة الأنفال فقال - سبحانه -: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ [الأنفال: 44]، ويتلاءم تقليلُ الكافرين في أعين المسلمين مع التأويل الأول للآية؛ أي: واحد إلى اثنين، وليس واحد إلى ثلاثة، وأما ﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾، فقد وفَّق الزمخشريُّ بينه وبين تأويل التكثيرِ بقوله: "فإن قلتَ: فهذا مناقض...
قلتُ: قُلِّلوا أولاً في أعينِهم حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقَوْهم كثُروا في أعينِهم حتى غُلبوا، فكان التقليلُ والتكثيرُ في حالَيْنِ مختلفينِ"؛ (تفسير الكشاف 1/ 336).
ج- ﴿ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، وقرأ الجمهور "فِئَةٌ" بالرفع؛ أي: إحداهما فئةٌ، فتكون خبرًا، أو تكون مبتدأً محذوفَ الخبر، على تقدير: منهما فئةٌ، وقرأ الحسنُ ومجاهد "فئةٍ، وأخرى كافرةٍ" بالخفضِ على البدلِ؛ (تفسير القرطبي 4/ 29).
وأما الطبريُّ، فإنه أقرَّ بجواز القراءة على الخفض، وكذلك على النَّصب على أنها حالٌ، إلا أنه لم يستجِزِ القراءةَ بغير الرفع؛ لأن الحجةَ من القراء اختاروا الرفع؛ (تفسير الطبري 3/ 264).
4- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 21، 22].
قوله - سبحانه -: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾؛ أي: كانوا يقتلونهم، وكانوا يقتُلون الآمِرِين بالمعروف، الناهين عن المنكر، "فإن قال قائلٌ: الذين وُعِظوا بهذا لم يقتلوا نبيًّا، فالجواب أنهم رضُوا فعلَ مَن قتل، فكانوا بمنزلته، وأيضًا فإنهم قاتلوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابَه، وهمُّوا بقتلِهم"؛ (تفسير القرطبي 4/ 50).
ومع أن هذه الآيةَ مخصوصةٌ بحالة متعلقة ببني إسرائيل، إلا أنَّ مِن شأنها أن تصبحَ ذاتَ دلالةٍ عامة؛ فالذين قتَلوا الأنبياء اقترفوا فعلاتهم لعلهم يُسكِتون صوت الحق، وإن مَن يحارب مناهجَ الأنبياء بملاحقة الآمِرِين بالقسط، إنما يسعَوْن إلى قتلِ أرواح الأنبياء، ولا يختلفون عن السابقين الذين قتلوا "أشخاص" الأنبياء.
والآمِرُون بالقسطِ موجودون في كل زمان ومكان، وما يتعرَّضون إليه من أذى لا ينقطع باختلاف الأزمنة؛ ولهذا فقد كان من المناسبِ الإتيانُ بالفعل المضارع "يكفرون، ويقتلون، ويأمرون" الدالِّ على التجدُّد والحدوث، ولم يقترنْ أيٌّ من هذه الأفعال في هذه الآية بأيةِ قرينةٍ صارفةٍ للمعنى إلى الزَّمن الماضي؛ لكيلا يُظنَّ أن تلك الحالةَ انقضت ولم يعُدْ لها وجود، ولكن جزاء المحاربين لدينِ اللهِ هو أنْ ﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾، وهذا الجزاء سيكونُ في المستقبل بطبيعةِ الحال، ولكن "حَبِطَتْ" وردَتْ بصيغةِ الماضي؛ للإشارة إلى أن هذا الخسرانَ يقينٌ تامٌّ كالماضي الذي ليس للمرءِ شكٌّ فيما شهِدَ فيه.
5- ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43].
أ- كرَّر "اصطفاك" لاصطفائِهِ إياها لعبادتِهِ، ولاصطفائه إياها بأنْ وهَبَها عيسى - عليه السلام - مِن غير أبٍ، وهو ما لم يكُنْ لأحدٍ من النساء؛ (تفسير الطبري 3/ 357، تفسير القرطبي 4/ 88، الكشاف 1/ 355)، وتكرَّر ذكرُ مريمَ؛ ليتناسبَ مع تكرار اصطفاك، أو أن هذا الاصطفاء يتطلبُ مزيدًا من الطاعة؛ فخُصَّت بالخطاب.
ب- في قوله -تعالى-: ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ تقدم السجودُ على الركوعِ، وهذا قد يكونُ بسبب:
1- أن الواوَ لا توجب الترتيبَ، وعلى هذا فإن المعنى هو "وَارْكَعِي وَاسْجُدِي"؛ (تفسير القرطبي 4/ 91).
2- أن يكونَ السجودُ في شرعِهم قبل الركوعِ (نفسه).
3- أن يكونَ هذا أمرًا بالصلاةِ مع الجماعةِ، أو بمعنى أن تنتظمَ نفسَها في جملةِ المصلِّين، لا أن تكونَ من غيرِهم؛ (الكشاف 1/ 355).
4- أن يكونَ الناسُ في زمنِها على قسمين: مَن يقوم ويسجدُ في صلاته من غير ركوعٍ، ومَن يقومُ ويركع ويسجد، فأُمِرَتْ أن تكونَ مع الراكعين منهم (نفسه).
5- أن يكونَ الناسُ في زمنها يقومون ويركعون وحسب، فطلَبَ اللهُ -تعالى- منها أن تزيدَ عليهم بالسجودِ، وقد تكونُ هذه الزيادةُ أنسبَ لمقامِ تمييزِها بالاصطفاء.
6- ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].
وقوله - سبحانه -: ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾؛ أي: فكان، والمستقبل "يكون" في موضع الماضي إذا عرف المعنى؛ (تفسير القرطبي 4/ 110)، كما أن "فَيَكُونُ" حكايةُ حالٍ ماضية؛ (الكشاف 1/ 361).
وورَدَ هذا التركيبُ مراتٍ عدة في القرآن الكريم؛ للإشارة إلى الإنشاءِ والإيجاد في التوِّ واللحظة، ومعناه هنا - والله أعلم - أن الحملَ والولادة لم يستغرقا زمنًا طويلاً كما هو المعتاد في النساءِ، بل تم الأمرُ كلُّه في لحظة واحدة.
7- ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آل عمران: 106، 107].
فقدَّم تبييضَ الوجوه على تسويدها يوم القيامةِ؛ لأن في هذا وصفًا عامًّا لِما تكونُ عليه الخلائقُ يومئذٍ، فهم إما بِيضُ الوجوه أو سُودُها من جهة، ولأن أصحابَ الوجوه البيضِ أعلى مقامًا، ومِن حقِّهم التقديم في الذكر من جهة أخرى، وعندما جاءت الآيةُ إلى التفصيل ذُكر المسْودَّةُ وجوهُهم أولاً.
وقد يُحمل هذا على المقابلةِ المعكوسة بلاغيًّا، ولربما كان "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ" مقدَّمًا؛ لأن الآياتِ السابقة تدورُ على المؤمنين وتقواهم اللهَ حقَّ تقاتِه، المعتصمين بحبلِه، الدَّاعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 102 - 104]؛ ولهذا فإن تقديمَ تبييض الوجوه كان لمناسبةِ تلك الصورة مع المؤمنين الذين دارت الآياتُ الشريفاتُ عليهم، وقد يُستنبطُ من هذا التقديم أن المؤمنين هم أوَّلُ مَن يُفصَل بينهم يوم القيامة، وأن تأخيرَ الكافرين يكونُ لزيادة العذابِ، فضلاً عن تأخير المرتبةِ.
وقد جاء بعد هذه الآيات الكريمات وقبل الآيات "106 - 107" التي نحن بصددها الآية "105"، وهي قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، والتفصيل البادئ بالوجوه المسودَّة آتٍ بعد هذه الآية "105"، المحذِّرة من التشبُّه بأهل الكفر والنفاق؛ لكيلا ينقلبَ الإيمانُ إلى كفرٍ، ويُحبَط العمل، ولأن بؤرة هذه الآية على أهل الخسرانِ مِن ملةِ الكفر والنفاق، فقد كان الأنسبُ والحالُ هذه أن يتقدَّمَ ذكرُ التسويد، كما يمكنُ أن يُنظر إلى ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ على أن المسودَّةَ وجوهُهم كانوا مؤمنين أولاً، ثم انقلبوا كافرين، ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾، فكان إيمانُهم أولاً فقال: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾، ثم أصبحوا كافرين، فحَالَ البياضُ إلى سوادٍ ﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾.
8- ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 129].
فقال: ﴿ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ من باب تغليبِ غير العاقل؛ لأنه أكثر عددًا، أو من باب التنكير؛ إشارةً إلى عِظَم ما فيهما مما يخفى على الناسِ.
وذكر - سبحانه - المغفرةَ أولاً، ثم العذابَ لمن يشاء، ثم خَتَم الآيةَ بقوله: ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾؛ لتلتقي هذه المغفرةُ مع المغفرةِ التي سبقتها، ويبدو أن هذا كان هكذا - والله تعالى أعلم - لأن مغفرةَ الله -تعالى- تسبقُ غضبَه، وأن رحمتَه تسبق عقوبتَه، فقدم المغفرة حتى إذا ذكر ﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ عاد إلى الصفة الأولى: الغفور الرحيم.
9- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130].
ولا تعني هذه الآيةُ أن النهيَ هو عن الرِّبا عندما يكون أضعافًا مضاعفة، وأنه يكون مقبولاً إن لم يكن كذلك؛ ذلك أن الرِّبا محرَّمٌ بكل أشكاله وصفاته، وقوله - سبحانه -: ﴿ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ﴾؛ لأن المضاعفةَ كان مما يُتَّفق عليه، ولأن المقرِض كان يضاعِف العائدَ إذا حلَّ وقتُ السداد وعجز المقترضُ عن الإيفاء، فيجعل المائةَ مائتين، ولئن عجَز عن السدادِ في الوقتِ الجديد جعَله أربعمائة، وهكذا، وكذلك الحال إن كان القرضُ في غير الذَّهب والفضَّةِ؛ (تفسير الطبري 4/ 119 - 120)، فالرِّبا هو في حدِّ ذاته فعلٌ شنيعٌ، ويزداد قُبحًا وشناعةً بمضاعفته؛ (تفسير القرطبي 4/ 213-214)، وقد وكَل اللهُ -تعالى- الناسَ إلى إيمانهم الذي تصدَّر الآيةَ الكريمة، وجعل مجانبة الرِّبا علامةً على التقوى ووسيلةً للفلاح، ومن ثم فإن المستجيبَ هو المؤمن حقًّا، وأما مَن لم يكن الإيمانُ في قلبِهِ، فله مع الآية الكريمةِ شأنٌ آخَرُ.
10- ﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آل عمران:157، 158].
وقد قدم القتل؛ لأنها جاءت تعقيبًا على الجهادِ وما يقوله الكافرون بحق المجاهدين بقوله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آل عمران: 156].
وفي سياق الجهادِ فإن السببَ الأدعى إلى الموت هو القتلُ؛ ولهذا قدَّمه، وأما الآية الثانية، فهي تقريرٌ لمآلِ الإنسان إلى الله تعالى، وهو تقريرٌ عام عن نهاية كل إنسان بالموت، وفي هذه الحالة فإن الموتَ الطبيعيَّ هو السائدُ، والقتل استثناءٌ، ومن ثم تمَّ تقديمُ الموتِ الطبيعي في الذِّكر.
11- ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].
وأولو الألباب هؤلاء هم المستدلُّون على الإيمان بآياتِ الله -تعالى- وقد وصَفَهم الباري - عز وجل - بأنهم: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191]، و"هَذَا" في قوله: ﴿ مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً ﴾ يشير إلى الخَلق، لا إلى السموات والأرض، ولئن كانت الإشارة إليهما لقال: "هذه"؛ فهما مؤنثتان، والآيات الوارد ذكرها في الآية "190" مؤنثة هي الأخرى، وفي صرف الإشارةِ من "هذه" الدالِّ على الآياتِ والسمواتِ والأرض إلى "هَذَا" توجيهٌ لعقل السامع للتفكُّر في الخَلْقِ كله، وإن هذه المذكوراتِ مفاتيحُ لِما عداها، ولا تحقِّقُ صيغة "هذه" تلك السعةَ في الفهمِ، بل تجعل التفكيرَ في السموات والأرض على ما يرى الناظر فيهما، ولا يعمل ذهنه فيما لا يدركُهُ حسُّه.
وبمجرد أنْ أدرك أولو الألباب أن الخلقَ لم يكن بَاطِلاً، ركنوا إليه - سبحانه - وسألوه أن يقيَهم عذابَ النار، وبادروا - دونما تردد - إلى الإيمانِ بمجرد أن دعاهم إليه الرسولُ - صلى الله عليه وآله وسلم.
وتُجلي الفاءُ التي تفيد الترتيبَ وعدمَ التراخي هذا الإسراعَ في: "فَآمَنَّا" في قوله - سبحانه -: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193]، ثم ما أنْ أدرك أولو الألباب الغايةَ من الخَلق حتى صارت الآخرةُ شُغلَهم الشاغل، واتبعوا المناديَ للإيمان - صلى الله عليه وآله وسلم - ليكونوا في آخرتِهم في أمانٍ، ونسوا الدنيا بما فيها، والآيات الشريفات التالية تعكس هذا الانشغال بضراعةٍ وابتهال يتجلَّيان بتكريرِ قولِ المؤمنين: "رَبَّنَا" خمس مرات في أربعِ آيات: ﴿ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 191 - 194].
واستجاب اللهُ - سبحانه وتعالى - لهم فورًا، ولإظهار العناية بهم تحوَّل الخطابُ الخاص بالاستجابة من الإخبار عن المؤمنين بضمير الغائب إلى مخاطبتِهم مباشرة "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ...
مِنْكُمْ".
والوجه الثاني للعناية كان في تفصيلِ المؤمنين إلى ذكر وأنثى؛ لكيلا يظنَّ ظانٌّ أن ضميرَ الجمع المخاطب "كُم" هو للذُّكور دون الإناث، على اعتبارِ أن "كنَّ" مستعمَلٌ في القرآن الكريم وفي غيرِه في خطابِ الجمع المؤنَّث كالقول: "ذكْركنَّ، وعملكنَّ، ومنكُنَّ، وهكذا".
والوجهُ الثالث في العنايةِ هو أن المؤمنين والمؤمنات متساوون؛ فإن بعضَهم من بعض، وكما أنهم تساوَوا في التكليفِ والإيمان، فقد تساوَوا في استجابةِ الدعاء: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [آل عمران: 195].
12- ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193]، ولعل مرادهم بـ: "ذُنُوبَنَا" هو الكبائرُ، وبـ: "سَيِّئَاتِنَا" هو الصغائر.
ومن سياقِ الآيات يتبين أن اللهَ -تعالى- غفَر الكبائرَ بالإيمان، وكفَّر الصغائرَ بالعمل، وقد أبان اللهُ -تعالى- لعبادِه أنواعَ العمل عندما قال: إنه استجاب لهم؛ ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران: 195].
إن المؤمنين طلبوا المغفرةَ بعد أن أعلنوا إيمانَهم، وأشار القرآنُ الكريم إلى أن اللهَ -تعالى- لا يضيعُ: "عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ"، وفي قوله - سبحانه -: ﴿ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ معنى الهجرة الاختيارية التي يقوم بها المرءُ من مكانٍ لا يجد فيه حرية العبادة إلى مكانٍ آخر يحقق له تلك الحرية، وفضلاً عن ذلك فإن "هَاجَرُوا" تنطوي على هَجْرِ ما نهى اللهُ عنه، ومن ثم فإن الكلمةَ تلخِّص عملاً بدنيًّا، هو الهجرةُ من مكان إلى آخر، وعملاً قلبيًّا، هو حفظُ النفس مما لا يرضي اللهَ سبحانه.
وأما ﴿ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ﴾، ففيها الأذى النفسي والأذى البدني، ويتمثل الأذى النفسيُّ في إكراهِ المسلم على ترك ديارِه بسبب دينه، فهو يفارق المكانَ الذي ألِفه وأحبَّه، ويجد لذلك الفِراقِ الألَمَ في نفسه، ولكنه يتحمَّلُه من أجل ربِّه، و"أُوذُوا فِي سَبِيلِي" فيه الأذى النفسي بالكلام والتحقير وما أشبه، وفيه الأذى البدني بالتعذيب والضرب وغيرهما، والقتل والقتال يشتملان على هذينِ النوعين من الأذى على حدٍّ سواء، واحتسابُ المسلم كلَّ ما يلقى في سبيل اللهِ هو الذي يهوِّنُ عليه، وهو العمل الذي علَّق الباري - عز وجل - به تكفيرَ السيئات، وأن مَن دخل في صفوف المسلمين واحتسب يُجْزَ الجنةَ ﴿ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾.
13- ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196، 197].
و"لَا يَغُرَّنَّكَ" خطابٌ للأمة من خلال مخاطبة النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لكيلا يؤثِّر فيهم ما يرونه في أهل الكفر من نعيمٍ وجاهٍ وسلطان، وقد ذكر - سبحانه - حالَ مَن رأى قارون ممن تأثَّر بمظهره: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79]، ومثله ما رُويَ عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - في حديث ضعيف أنه دخَل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرآه نائمًا على حصيرٍ أثَّر بجنبِه فبكى، فقال له: ((ما يبكيك يا عبدالله؟))، قلت: يا رسولَ الله، كسرى وقيصر يطوون على الخز والديباج والحرير، وأنت نائمٌ على هذا الحصير قد أثَّر بجنبِك؟! فقال: ((لا تَبْكِ يا عبدَالله؛ فإن لهم الدنيا ولنا الآخرة، وما أنا والدنيا إلا كمَثلِ راكبٍ نزل تحت شجرةٍ ثم سار وتركها))؛ (مجمع الزوائد للهيثمي 10/ 329، ضعيف الترغيب للألباني، حديث رقم 1912).
وفي هذه الآيةِ تسليةٌ للمسلمين عما يمكنُ لهم أن يجدوا في نفوسهم مِن أَسى المقارنة مع الكافرين، وهي - أي: الآية - في الوقت عينِهِ لقطة سريعةٌ عن الكافرين، مقارنة بما قبلها وما بعدها من آيات بحقِّ المؤمنين، والاكتفاءُ بهذه اللقطة السريعة في هذا الموضع مردودٌ - والله أعلم - إلى تطييبِ نفوس المؤمنين إذا ألقى الشيطانُ في نفوسهم أذًى من هذا الباب، ولأن الكافرين لا قيمة لهم، فما ذُكِروا إلا بمصيرهم المشؤوم.
14- ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 198].
إن اللهَ -تعالى- ضمِن الجنةَ لعباده المؤمنين العاملين عملاً صالحًا؛ ولهذا فإنه قال - جل شأنه - في الآية 195: ﴿وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 195]، وهذا الثوابُ هو لعمومِ المؤمنين، وأما الآية 198 فهي - والله أعلم - عن المتقينَ من بين المؤمنين، الذين تتفاوتُ درجاتُهم بحسَب تقاهم، ومن ثم فإن الوعدَ وقد تكرر هنا فإنه اقترن ببيان المنزلة ﴿ نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾.
15- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
جاءت هذه الآيةُ في ختامِ السورة، وفي ختام الآيات المباركات عن المؤمنين، وهي تدعوهم إلى أربعة أشياء؛ هي: الصبر والمصابرة؛ أي التنافس فيما بينهم في الصبر، أو في أن يصبِّرَ بعضُهم بعضًا، والثبات والتقوى.
والصفات الثلاث الأولى مطلوبةٌ للحفاظ على الإيمانِ، وقد تعددت لأن الفتنَ التي من شأنها أن تُفلتَه أو التي تؤثر فيه متنوعةٌ وعديدة، والمسلم يحتاجُ تلك العدةَ لاجتياز الفتن، ويحتاج إلى صحْبِهِ في إعانتِهِ وتصبيرِهِ، وأما توصيتُهُ - سبحانه - لعبادِه بالتقوى؛ فلكي يتبوَّؤوا بها نُزُلَهم العاليةَ في دار القرار.