أرشيف المقالات

تفسير القرآن الحكيم .. سورة الحجر ( الآية 99 ) (1)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
تفسير القرآن الحكيم
سورة الحجر ( الآية 99 ) (1)
 
قول الله تعالى ذكره وجل ثناؤه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].

﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾، قال في "اللِّسان": العبادة في اللُّغة: الطاعة مع الخضوع، ومنه طريق معبَّد، إذا كان مذلَّلاً لكثرة وطْء الأقدام له، وكلُّ من دان لِمَلك: فهو عابدٌ له، وفلان عابد، وهو الخاضع لربِّه المستسلم المنقاد لأمره، والمعبَّد: المكرَّم المعظَّم، كأنه يُعبد، قال حاتم الطائي:

تَقُولُ أَلاَ تُمْسِكْ عَلَيْكَ فَإِنَّنِي
أَرَى الْمَالَ عِنْدَ البَاخِلِينَ مُعَبَّدَا

 
وبعير مُعبَّد: وهو الذي ذللَّه الحرْبُ، أو الذي هُنِئَ بالقطران؛ لأنَّه يتذلَّل لشهوته القطرانَ وغيره، فلا يمتنع؛ اهـ.
 
وقال في "المصباح المنير": العبادة: الانقياد والخضوع، والفاعل: عابد، والجمع: عُبَّاد وعَبَدة، مثل: كافر وكفَّار وكفَرَة، ثم استُعْمِل فيمن اتَّخَذ إلَهًا غير الله وتقرَّب إليه، فقيل: عابِدُ الوثن والشمس وغير ذلك؛ اهـ.
 
وفي "الصِّحاح": تقول: عَبْد بيِّنُ العبودة والعبوديَّة، وأصل العبوديَّة: الخضوع والذُّل، والتعبيد: التذليل، يُقال: طريق معبَّد، والبعير المعبد: الْمَهْنوء بالقَطِران المذلَّل، والعبادة: الطاعة، والتعبُّد: التنسُّك؛ اهـ.
 
وقال الرَّاغب: العبوديَّة: إظهار التذلُّل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنَّها غاية التذلُّل، ولا يستحقُّها إلا مَن له غاية الإفضال، وهو الله تعالى؛ ولهذا قال على لسان رسله: ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [يوسف: 40]، ويُقال: طريق معبَّد؛ أيْ: مذلَّل بالوَطْء، وبعير معبَّد: مذلَّل بالقطران، وعَبَّدْت فلانًا: إذا أذلَلْته: وإذا اتَّخذْته عبدًا؛ اهـ.
 
وفي "فروق العسكري": الفرق بين العبادة والطَّاعة: أن العبادة غاية الخضوع، ولا تُسْتَحَقُّ إلا بغاية الإنعام؛ ولِهذا لا يجوز أن يعبد غيْرُ الله تعالى، ولا تكون العبادة إلاَّ مع المعرفة للمعبود، والطَّاعة: الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متَى كان المريد أعلى رتبة مِمَّن يفعل ذلك، والطاعة: تكون للخالق، والعبادة لا تكون إلا للخالق؛ اهـ.
 
وقال ابنُ فارس: العين والباء والدَّال أصْلان صحيحان، أحدهما: اللِّين والذُّل؛ اهـ.
 
ويؤخذ من كلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذِه الإمام ابن القيِّم: أنَّ العبادة حالٌ يجمع غاية الذُّل مع غاية الحب، وقال السيد رشيد رضا: تدلُّ الأساليب الصحيحة والاستعمالُ العرَبِيُّ الصُّراح: على أنَّ العبادة ضرْبٌ من الخضوع بالِغٌ حدَّ النهاية، ناشئٌ عن استشعار القلب عظَمَةً للمعبود لا يعرف مَنْشَأها، واعتقاده بِسُلطة له لا يدرك كُنْهَها وماهيتها، وقصارى ما يعرف عنها: أنَّها مُحيطة به، ولكنَّها فوق إدراكه؛ اهـ.
 
فبالتأمُّل فيما ذكره هؤلاء العلماء نَتبيَّن أنَّ "العبادة" على أيِّ حال، وبأي استعمال تصرَّفَت، فإنَّها تُعطي معنى الذُّل والاستسلام، وسهولة الانقياد، والموافقة لِما يرضاه المعَبِّد من عابده، فالعَبْد المملوك: ذليلٌ بالرِّق مستسلِمٌ لِمالكه، سهل الانقياد والموافقة له في مراضيه وأصْل رقِّه، جاء من استسلامه له حين غُلب في ميدان القتال على الدِّين الصحيح والعقيدة الحقَّة، والدِّين الفاسد والعقيدة الزَّائغة، فكان إصراره على الدِّين الباطل وقتاله عنه، وحرْبُه للدِّين الحق مستوجبًا لإذلاله، واقتضى أَسْرُه على ذلك استسلامَه وانقياده لآسرِه الذي مَلَك رقبتَه بذلك الأَسْر على الحقِّ، وأخرجه من بيئة الكفر الظَّالِمة الفاسدة، وضمَّه إلى بيئة الإسلام الرحيمة العادلة، الصالحة الْمُصلحة، فهي نِعْمة عليه لآسرِه ومنقذه، تقتضي تلك العبوديَّةَ، وهذا الاستسلامَ، وكذلك البعير المعبَّد: سهل الانقياد لمن يأخذ زمامه، والطريق المعبَّد: وطِئَته الأقدام والأرجل التي ضرَبْت فيه حتى أصبح سهلاً مذلَّلاً للسائرين، وتفسيرهم "العبادة" بالانقياد والخضوع: تفسير باللاَّزم؛ لأنَّهما لازمان للذُّل والسهولة؛ ولذلك جمع صاحب "المصباح" في تعريفها: الانقياد والخضوع على وجه التقرُّب.
 
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في رسالة "العبوديَّة": "الدِّين يتضمَّن معنَى الخضوع والذُّل، يُقال: دِنْتُه فدانَ؛ أيْ: ذلَّلْتُه فذلَّ، ويُقال: يَدِين اللهَ، ويَدِين لله؛ أيْ: يعبد اللهَ ويُطيعه ويَخْضع له، فدِين الله: عبادتُه وطاعته والخضوع له، والعبادة: أصل، معناها: الذُّل أيضًا، يُقال: طريق معبَّد، إذا كان مذلَّلاً قد وطِئَتْه الأقدام، لكن العبادة المأمور بِها: تتضمَّن معنى الذُّل ومعنى الحب، فهي تتضمَّن غاية الذل لله بغاية المحبة له.
 
فإنَّ آخِر مراتب الحُبِّ: هو التَّتيُّم، وأوَّله العلاقة؛ لتعلُّق القلب بالمحبوب، ثم الصَّبابة؛ لانْصِباب القلب إليه، ثم الغرام، وهو الحبُّ الْمُلازم للقَلْب، ثم العشق، وآخرها: التتَيُّم، يُقال: تَيْم الله؛ أيْ: عبد الله، فالْمُتيم: المعبَّد لِمُحبوبه، ومن خضع لإنسانٍ مع بُغْضِه له لا يكون عابدًا له، ومَن أحبَّ شيئًا ولم يَخْضع له لم يكن عابدًا له، كما قد يحبُّ الرجل ولدَه وصديقه وزوجه؛ ولِهذا لا يكفي أحَدُهُما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون اللهُ أحبَّ إلى العبد من كلِّ شيء، وأن يكون الله أعظمَ عنده من كلِّ أحد؛ فإنه لا يستحقُّ الحبَّ التامَّ والذُّلَّ التامَّ إلا الله".
 
إلى أن قال: "فجنس المَحبَّة: تكون الله ولرسوله، كالطاعة، فإنَّ الطاعة لله ولرسوله: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ [آل عمران: 32] والإرضاء لله ولرسوله: ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾ [التوبة: 62]، والإيتاء لله ولرسوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 59]، وأمَّا العبادة وما يناسبها، من التوكُّل والخوف والرجاء، والرَّغبة والرهبة، ونحو ذلك فلا تكون إلا لله وحده".
 
إلى أن قال: "وتحرير ذلك: أن "العبد" يُراد به المعبَّد الذي عَبَّده الله، فذلَّلَه ودبَّره وصَرَّفه، وبِهذا الاعتبار: فالْمَخلوقون كلُّهم عِبَاد الله؛ الأبرار منهم والفُجَّار، والمؤمنون والكُفَّار، وأهل الجنة وأهل النار؛ إذْ هو رَبُّهم كُلِّهِم ومليكُهُم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامَّات التي لا يُجاوِزُهن بَرٌّ ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا، وما شاؤوا إن لم يشَأْ لَم يكن، قال الله: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83].
 
فهو سبحانه ربُّ العالمين وخالِقُهم ورازقهم، ومُحييهم ومُميتهم، ومقلِّب قلوبِهم، ومُصَرِّف أمورهم، لا ربَّ لَهم غيره، ولا مالِكَ لهم سواه، ولا خالق لهم إلاَّ هو، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكنَّ أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك وآمنوا به، وشكروه بعبودية الإلَهيَّة؛ رغَبًا ورهبًا، بِخِلاف مَن كان جاهلاً بذلك أو جاحدًا له، مستكْبِرًا على ربِّه، لا يذِلُّ ولا يخضع له، مع علمه بأنَّ الله ربُّه وخالقه؛ فالمعرفة بالحقِّ إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كانت عذابًا على صاحبِها، كما قال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14] وقال: ﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
 
فإنِ اعترف العبدُ أنَّ الله ربُّه وخالقه ورازقه، وأنه - أيْ: العبد - مفتَقِرٌ مُحتاج إليه: عرَفَ العبوديَّة المتعلِّقة بالرُّبوبية، وهذا العبد يسأل ربَّه ويتضرَّع إليه، لكن قد يُطيع أمْرَه وقد يعصيه، وقد يعبد معه الشيطانَ والأوثان، ومثل هذه العبوديَّة لا تفرِّق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها صاحبها مؤمنًا، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]".
 
إلى أن قال: "حتَّى يَدْخل في المعنى الثاني من معنى "العَبْد" وهو العبد بِمَعنى "العابد"، فيكون عابدًا لله وحده، ولا يعبد إلاَّ إياه، فيطيع أمره وأمْرَ رسله، ويُوالي أولياءه المؤمنين المتَّقين، ويعادي أعداءه الكافرين والفاسقين، وهذه العبادة متعلِّقة بألوهيَّته؛ ولِهذا كان عنوان التَّوحيد "لا إله إلا الله"، فالإله: هو الذي يأْلَهُه القلب بكمال الحُبِّ والتعظيم والإجلال، والخوف والرجاء، وهذه العبادة: هي التي يحبُّها الله ويرضاها، وبِها وَصَف المصطفَيْن من عباده، وبِها بَعَث رسُلَه وأنزل كتبه"؛ اهـ.
 
ومن هذا يتبيَّن لك أنَّ هناك عبوديَّتَيْن: عبوديَّةً كونيَّة، وعبودية شرعيَّة إلهيَّة.
 
فالعبودية الكونيَّة: هي في جميع الخلق؛ لأنَّ الله هو الذي يربِّيهم وحده بجميع نِعَمِه، ويدبِّرهم وحده بحكمته ورحمته ومشيئته، وهذه العبودية لازمة لَهم لا يمكنهم الانْفِكاك عنها بحالٍ من الأحوال، وهي التي أشهدَهم على أنفسهم بِها في قوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ﴾ [الأعراف: 172]؛ أيْ: قالوا بلسان حال هذه العبوديَّة التي يَخْضعون بها وينقادون مُسْلِمين - رغم أنوفِهم - لِسُنن الله الكونيَّة في أصل الخِلْقة من تُراب ثم من نطفة، ثم أجنَّة في أرحام أمَّهاتِهم، ثم أطفالاً، ثم غلمانًا، وهلمَّ جرًّا، وما في كلِّ تلك الأدوار وما يلزم فيها ولَها من التقلُّبات في الليل والنهار، والصحَّة والمرض، والجوع والظَّمَأ، واليقظة والنَّوم، وما إلى ذلك؛ فإنَّ ما فيهم وعليهم من آثار الرُّبوبية يَقْهرهم أن يكونوا عبادًا خاضعين لله وحده.
 
وهذه العبودية الكونيَّة اللازمة للإنسان كلِّه، والمتساوية في الإنسان كله؛ مَن عرَفَها حقَّ المعرفة، وتأمَّلَها حقَّ التأمُّل، وقدَّرَها حقَّ التقدير، وشكَرَها بعبوديَّة الإلَهيَّة، وإخلاص الحُبِّ والذُّل، والطاعة والرجاء والخوف، والتوكُّل والدُّعاء، وما يلزم كلَّ ذلك من المسارعة إلى اتِّباع كلِّ ما بعث الله به رسُلَه، وأنزل كتُبَه لتحقيق تلك العبادة التي عليها تَدُور سعادةُ الدُّنيا والآخرة، وعِزُّهُما وفلاحهما.
 
و"اليقين" ضد الشَّك، وهو حال يثمرها العلم الصَّحيح من التفكُّر في آيات الله الكونية - الذي هو التسبيح بِحَمد الله - ومن التدبُّر لآيات الله القرآنية، فهو شاطئُ السَّلامة، والغاية الحميدة التي يسعى إليها المؤمنون الصادقون، ويعبِّرون عن هذا اليقين بأنَّه استقرارُ العلم الذي لا ينقلب ولا يتحوَّل ولا يتغيَّر، وقد فسَّره جُمهور المفسِّرين هنا بأنه الموت؛ وهذا لأنَّه آخِرُ يقين هذه الدنيا، وأوِّلُ يقين الآخرة، وإن كان الواقع أنِّ المؤمن لا بدَّ أن يعتمد في عقيدته على يقين، وفي صحَّة عمله على يقين، ولولا هذا اليقين ما استقرَّ له حال، وإنَّما اضْطَرب حالُ النَّاس في عقائدهم وأعمالِهم؛ لأنَّهم ليسوا على يقينٍ منها؛ إذْ لم يسلكوا إليها سبيل العلم الصحيح من التفكُّر في سنن الله وآياته الكونية، وتدبُّر وفِقْه آياته القرآنيَّة، ومعرفة هَدْي وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإنما عقائدهم المزعومة وأعمالهم تقاليدُ وراثيَّة تقوم على ظنون وتخرُّصات لا تُغْنِي من الحقِّ شيئًا.
يتبع،،،

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١