أرشيف المقالات

العامل الاقتصادي في القرآن

مدة قراءة المادة : 26 دقائق .
العامل الاقتصادي في القرآن

أراد بعض الذين لم يقرؤوا القرآن، أو الذين قرؤوه دون أن يتدبروه، أو الذين قرؤوه وتدبروا معانيَه، وأدركوا آياتِه ومراميَه، ولكن لمرضٍ في قلوبهم نسبوا إليه ما ليس فيه؛ أولئك جميعًا أرادوا أن يصوِّروا الدين الإسلامي بأنه ذهول عن حقائق الدنيا التي لا فرار منها، ولا فكاك من أَسْرِها في حياة الآدميين، وأنه [دين رُوحاني فقط]، والرُّوحانية عندهم قرين الغيبوبة، يفر بها الإنسان المغلوب على أمره من متاعب جوعِه وفقره، وآلامِ عجزه وضعفه، إلى عالَمٍ يتخيَّله، هو عالم الآخرة، يعوض فيه عن الجوع بأنهارٍ من عسل مُصفًّى، وأنهارٍ من ماءٍ غير آسن، وأنهار من لبنٍ لم يتغيَّر طعمُه، ويعوض عن حرمانِه وهوانه بوِلدانٍ مخلَّدين، وحورٍ عين، ويعوض عن خوفه وقلقه حياة لا خوف عليهم فيها ولا يحزنون.
 
أما الحقائق المالية للحياة؛ مِن سعي في الدنيا يؤدي إلى جمع المال، وإحسان توزيعه، وسد حاجة المحتاجين بالطعام يأكلونه، وبالكساء يَرتَدُونه، وبالمسكن يأوون إليه، وتطيب نفوسُهم فيه بعد عناء المجاهدة من أجل الرِّزق والعزة - فوَقْفٌ على جماعة من أقوياء المجتمع، تنتهي إليهم السُّلطة، وتسلَّم لهم مقاليد التجارة والصناعة والزراعة، ويجمعون بين جاه الدنيا: مناصب الرياسة والسيادة، وجاه الدِّين: أحبارًا وكهانًا وسَدَنة للمعابد.
 
وليس ثمة شيء أبعد من الحق والحقيقة من هذا الافتراء، العرب أمة لم تكن تنعَمُ في أرضها بمصادر الثروة الميسَّرة ولا السخية؛ فأرضُهم جدب، وماؤهم غور؛ لذلك كانت التجارة أصلَ موردهم الأول، ينتقلون بين الدول الغنية بما تنتجه تلك الدول من نفائسِ الصناعة، وخيرات الزراعة، وتجني من وراء هذه الوساطة ما يوفِّر لها الرِّزق، وما يحقق لكبار التجار العيش الناعم، والفراش الوثير، فيهيئونهم للرياسة والسلطان، لا بما بين أيديهم من مال فحسب، بل لما تتيحه لهم التجارة من الاتصال بالأمم والشعوب، ومعرفة أحوالها، والوقوف على خبايا السياسة، وخفايا الحُكم، والاقتراب من ذوي السلطة من الوزراء وأعوانهم، فيقتبسون من خبرتهم، وينقلون عنهم أساليبَهم في الإدارة، وفنونهم في الاقتصاد، فتأتَّى للعربي في بلاده القاحلة المعزولة عن الناس من المعرفة ما لم يتأتَّ لغيره من الدول التي تتكون مجتمعاتها من المدن، ولا من الواحات التي يتجمع حولها رعاة الأغنام، كما كان الحال في شِبْهِ الجزيرة العربية، ولما كان القرآنُ الكريم قد جاء فيه قول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾ [إبراهيم: 4]، فقد تحتم أن يكون الرسول قادرًا لا على مخاطبة القوم الذين أرسل إليهم بلغتهم فقط، بل أن يكون فوق ذلك مُبِينًا فصيحًا؛ ليفهموا عنه ما يقول، وليتأثروا بما فهموه من قوله؛ بل إن مقتضى هذا الشرط اللازم توفره في الرسول - أي: شرط قيام وسيلة التفاهم المشتركة بين المرسلين والذين أرسل إليهم - أن يكون مدارُ الحديث بين الطرفين أمورًا تشغل بال أهل الرسول وعشيرته؛ لأن اللغة ليست مجرد ألفاظ وأصوات تسمع، بل إن معانيَها هي جوهر هذه اللغة، وهي الغاية منها، ولولا دواعي المصلحة المشتركة بين الأقوام لَمَا نشأت لغةٌ من اللغات، ومن هنا كان حديثُ الرسول محمد بن عبدالله - عليه الصلاة والسلام - إلى أهله وعشيرته الذين يعيشون على ما تدرُّه التجارة من رزق، والذين يتأثرون بدواعي اتساعها، ويُسْر سُبلها، أو ما يعترض طريقها ووسائلها من الصعاب والمتاعب، كان غيرَ قليل من حديثه، وغير قليل من آيات القرآن في شؤون المال والتجارة، وتدبيرهما، وتتبع كل عنصر من عناصرهما؛ جمعًا وإنفاقًا، وشحًّا وسخاءً، وأخذًا وعطاءً، وحلالاً وحرامًا، وبيعًا وإيجارًا، ورهنًا وبدلاً، وتبرُّعًا وعِوضًا، ومن هنا كانت سورة قريش من أوائل السور، وكانت جماعًا لِما تقوم عليه حياة هذه القبيلة، التي أتقنت التجارة، وأصبحت "مكة" عاصمتُها ملتقَى الطرق التجارية العالمية قبل بعثة رسول الله بعهود؛ قال الله - تعالى -: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4].
 
ولم تكن رحلة الشتاء والصيف التي ألِفَتْها قبيلة قريش، والتي يمن الله - تعالى - عليهم بها، إلا قوام حياة العرب التجارية، وركن الزاوية في شؤونهم الاقتصادية؛ فقوافل قريش كانت - كما قلت - تروح وتغدو بين اليَمن في الشتاء، والشام في الشمال في الصيف، تنقل عروض التجارة، والمحاصيل والأقوات من الغرب الأوربي إلى الشرق الآسيوي، فتصل عالمين مختلفين لونًا ولغة، وسحنة وعقلية، وتجني من هذه الوساطة المالَ والخبرة والعلم على ما قدمنا.
 
ويستطيع أن يقف المفسر طويلاً أمام هذه السورة التي تتكوَّنُ عبارتها من عدد جد قليل من الألفاظ؛ ذلك لأن ورودها في مفتتح كتاب سماوي نزل إلى الناس ليدعوَهم إلى الإيمان بإله واحد، لا تراه الأبصارُ ولا تدركه، ولا يتجسد في شيء، ولا في شخص، ولا ينتمي لأمة ولا لبقعة ولا لعهد، ولا لزمن، أن ترِدَ في كتابٍ هذه طبيعتُه، وتلك غايته، هذه السورة التي تتحدث عن رحلةٍ بين الشمال والجنوب؛ أي: بين الشام واليَمن؛ لتنقُل البضائع، ويكسب منها التجار ورجال المال، وتنعقد عليها آمالهم، ويترتب على استقرارِها استقرارُهم، وعلى نجاحها رواجُ أحوالهم، فمعنى ذلك أنه كتاب لا يتعالى عن حقائق حياة البشر اليومية، وحاجياتهم المادية، ولا عن شؤون المال، ولا عن أساليب استنباطه واستكثاره، وتداوله وتوزيعه.
 
وإذا كانت السورة الكريمة قد بدأت بتقديم ﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ﴾، ثم أردفت ﴿ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾؛ فلأنها سورة في كتاب منزَّل من السماء، والله أعلم بعباده من أنفسهم، والثابت أنَّ غريزة حب البقاء هي أقوى غرائز الإنسان، فلا بد له من لقمة عيش تقيم أَوَدَه، وتحميه من خطر الموت، فإذا أمِن ذلك الخطر، هدأتْ نفسُه، وبدأ يُدير عينيه في نفسه هذه وفي الآفاق، ولو توقَّفت السورة عند الطعام وحده، وجعلت منه الغاية التي لا غايةَ وراءها، لَما كان ذلك الكتاب ربانيًّا، ولكان دعوةً إلى اتباع الغرائز الدنيا، والوقوف عندها؛ ولذلك كان قوله - تعالى -: ﴿ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾، وهو المصراع الثاني؛ فالإنسان في ظل القرآن ليس بدنًا فحسب، وليس روحًا محلِّقةً مجردة، وإنما هو جماع تلك القوتين الهائلتين، التي أصبح باجتماعهما جديرًا بخلافة الله - تعالى - في أرضه؛ فالإنسان الذي صنعه الله بيده من طين، وصلصال، أو حمأ مسنون، هو الإنسان الذي قال عنه خالقه الأعظم: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر: 29].
 
ثم قوله - عز وعلا -: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ﴾ [الحجر: 29] بيان لخاصية الإنسان الرُّوحية، وبيان لمصدر هذه الخاصية، وكون هذا المصدر هو خالق الأكوان مباشرة.
 
فتقابُل العنصرين المكونين للإنسان، من مادة حقيرةِ الشأن، قليلةِ القدر، يتحول بعدها إلى ماء مَهين، ثم من عنصر لا يُرَى ولا يُمسَك باليد ولا يوزن، ويعلو فوق كل مادة، ونعني بها نفحة الله العظيم من رُوحه - هو التوازن الذي يجعل العامل المادي في حياة الإنسان عاملاً معتبرًا لا يهمل، ولا يغض النظر عنه، ولا يخرج من حساب الإنسان المسلم، وإلا لَمَا كان ثمة معنى من النص بهذا القدر من القوة والإبانة والوضوح والتأكيد في قصة خَلق الإنسان كما رواها القرآن الكريم، وفي كثير من مواضعه، والشواهد على ذلك النظر في القرآن عديدة، بعضها يؤيد بعضًا، فإذا كان الله - تعالى - قد ذكر قريشًا برحلتها السنوية إلى الشمال والجنوب، أي إلى الشام، وما بعد الشام، حتى بلاد العجم والهنود، وإلى اليمن وما بعد اليمن في الحبشة والصومال والشاطئ الشرقي الإفريقي، وهي رحلة تجارة وكسب وارتزاق وجمع مال، فإن الجزء الأول من القرآن وهو الذي ضم السور الأوائل، فيه من دلائل التفات كتاب الله - تعالى - إلى الجانب المادي من حياة الإنسان، المتصل بإشباع غرائزه، وإرضاء بدَنه: ما لا يخفى على نظر.
 
نسوق منه على سبيل المثال من سورة عبس قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 24 - 32]، والمعنى واضح، ولكن ننقُل عن تفسير الشيخ محمد عبده لجزء "عم" ما يلي:
فإن زعَم الإنسان أنه لم يشهد خَلْق نفسه، ورمى عينيه بالعمى عما في بدنه وعقله، بالغباوة عما في ذاته، وعما كان من أمرِها في بدايتها ونهايتها، وعلَّل هواه في الغَواية بأن شيئًا مما خلقه لا يقوم دليلاً على وحدانية خالقه، وانفراده بالإحسان إليه؛ لأنه لم يشهد تلك النشأة، إنْ خطر ذلك ببال أحد من أفراد الإنسان، ﴿ فَلْيَنْظُرِ ﴾ إلى ما بين يديه من أقرب الأشياء إليه؛ ﴿ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ الذي يقيم بنيته، ويجد لذته، ويحفظ به مُنَّتَه، ماذا حدث حقًّا في أحداثه وتهيئته لأن يكون غذاءً صالحًا ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ ﴾ [عبس: 25] من المُزْن ﴿ صَبًّا ﴾ شديدًا طاهرًا، "ثم بعد أن كانت الأرض رتقًا متماسكةَ الأجزاء، شققناها شقًّا مرئيًّا مشهودًا، كما نراه في الأرض بعد الري...".
 
وهذا قول حسَن، ولكن يكمله أن نقول: إن الله - تعالى - وقد خلق الإنسان من هذين العنصرين المتباينين تمامًا: الطين، "ونفخه فيه" سبحانه عز وعلا، فإن الدروس التي يجب أن تلقى عليه يجب أن تكون شاملة لِما نسميه الآن "الروحي"، ولما نسميه "المادي"، شاملة للغيب؛ أي لِما لا تراه عيوننا، ولا تسمعه آذاننا، ولا تلمسه أيدينا، ومع ذلك نحس ببعضه في أعماق وجداننا، ونؤمن كما نؤمن بالمادي، كالمعاني المجردة؛ من الوفاء، والكمال، والسمو، والوطنية، والإيمان؛ فهذه حقائق في حياتنا، لا تقاس ولا توزن، ولكننا نتأثر بها، ونستجوبها فيما نفعل وفيما ندَعُ، ونختلف عليها، ونحارب من أجلها، ومن هنا كان كتاب الله الذي يعلِّم الناس، ويأخذ بأيديهم، ويُدير عيونهم وأبصارهم إلى ما قد يستصغرون شأنَه، أو يستقلُّون قدره، ومن ذلك هذا الطعامُ الذي إن أعوزهم ولم يحصلوا عليه هلَكوا، فإن شبعوا منه انصرفوا عنه وعزفوا، هذا الطعام يجب أن يتأمَّلَه الإنسان خطوه فخطوة، ويعرف كيف يحصل عليه، كيف يصنع، وممَّ يُصنَع، كما يجب أن يعرف الدلائل التي تنطوي عليها هذه الخطوات على قدرة الله أولاً، وعلى غرائب هذه الصنعة ودقائقها، مما يجب على عقل الإنسان أن يتأملها ويعيها، ويستخلص منها ما يزيده علمًا، فيزيده قوة، فيزيده سعادة، وجماع كل هذا يزيده قربًا من الله، واحترامًا لأوامره، وابتعادًا عن نواهيه مما يُجمِله القرآن الكريم في كلمة واحدة: التقوى.
 
وأود إيراد الشواهد الدالة على استعارة القرآن الكريم مصطلحات التجارة والمال، بيانًا عن شؤون العقيدة والعبادة.
 
ففي سورة الصف: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الصف: 10، 11].
 
وفي سورة فاطر: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].
 
وفي سورة البقرة: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16].
 
وفي سورة التوبة: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
 
وفي سورتي البقرة وإبراهيم، يتحدَّث الله - تعالى - عن اليوم الآخر فيصفه بقوله: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 254]، ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 31].
 
والمعاهدة، وتبادل المواثيق، يعبَّر عنها في القرآن بالمبايعة، وهو لفظ مشتق من البيع، في سورة الفتح لفظ المبايعة يرد مرتين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ [الفتح: 10]، ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [الفتح: 18].
 
واستعمال مصطلحات التجارة في تقريب الأمور الدينية والقواعد التعبدية إلى عقل العربيِّ الذي يعيش حياتَه في التجارة، ويستمدُّ منها رزقه، ويبذُل فيها أقصى الجهد، ليحقِّق أعظم الربح - له دلالات كثيرة، منها ما قدمناه من أن كِتاب المسلمين كِتابٌ أُنزل ليخاطب الناس، ليؤثر فيهم، ويستميلهم إلى مبادئه، وييسِّر عليهم الأخذ بقواعده، لا ليفرض عليهم فرضًا بقوة السلطان أو بسلطة الكهان، ولا ليكون دين السادة دون العامة، أو دين الخاصة من أهل الفِكر دون صغار المسلمين ممن قلَّتْ حظوظهم في المعرفة، وإلى جانب هذا المعنى، فإن احتفال القرآن بما يتعارَفُه العرب من ألفاظ حياتهم اليومية، ويتبادلونه في صفقاتهم ومعاملاتهم - معناه احتفال القرآن بالجانب المادي من حياة المسلم؛ أي: الجانب المتصل برزقه، وشؤون حياته اليومية، لا ليقف عند هذا الجانب ويقنَع به ويرضاه، وإنما ليتخذ هذا الجانب نفسه درجة يستند إليها ويرقى منها إلى الجانب الأعلى والأبقى، ولكي يرتفع بهذا الجانب ذاته، ويضفي عليه من رقة الإنسان وعطفه، وعدله وصِدقه، واستقامته وأمانته، ما يجعل التجارة والأخذ والعطاء، والسعي لكسب المال والاستزادة منه - عبادةً، ينفع بها الناس، وينفع بها نفسه، فلا تقوم الحواجز بينها وبين سائر ما يأمر به الدِّين؛ فالتاجر المسلم لا يخدع، ولا يحتكر، ولا يستحل في أساليب تعامله ما لا يستحله في صلته مع ربه وخالقه.
 
ومع ذلك نجح التجار المسلمون أن يكونوا من أبرع تجار الأمم، وأشدهم حذقًا لفنون إدارة المال وتبادله، وأن يصلوا بسفنهم المحملة بالبضائع النفيسة والسلع الغالية المغادرة إلى أقصى الشرق في الصين، وأقصى الغرب في أوروبا، وأن تكون لهم محطات وقواعد لسفنهم وقوافلهم، لهذا - لا على الرغم من هذا - كان نجاح التاجر المسلم وتفوقه وثرائه العظيم الحلال، فالهمة واليقظة مع الأمانة والاستقامة هي رأس مال التاجر، وليس الغش والكذب والحيلة الوضيعة.
 
ولا يزال القرآن الكريم ينطوي على المزيد من الشواهدِ على احتفاله بالعامل الاقتصادي أو المادي في حياة الناس، من ذلك ما سبق لنا أنْ نبَّهنا إليه، من أن لفظَيِ المال والنَّفْس لا يجتمعان في موضع في القرآن الكريم، إلا وسبق المالُ النفْسَ، باستثناء موضع واحد في سورة التوبة.
 
مثال ذلك: في سورة الأنفال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 72]، ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 20]، ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ [التوبة: 88]، ﴿ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ﴾ [النساء: 95].
 
وليس تقديم المال على النفس في القرآن الكريم فقط في موضوع الحديث عن الجهاد، بل إنه تقديم ثابت في كل المواضع الأخرى، من ذلك قوله - تعالى -: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾ [الشعراء: 88]، ﴿ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ﴾ [الكهف: 39]، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ﴾ [البقرة: 155]!
 
ليس معنى التقديم على هذه الصورة، أن القرآن الكريم يغض من قدر النفس الإنسانية، ويراها في درجة أدنى من درجة المال؛ فالإنسان أكرم عند القرآن من المال، ومن كل متاع آخر في هذه الدنيا، ولكنَّ لهذا التقديم حِكمتَه، ومن عناصر هذه الحكمة - مما يتصل بحديثنا هنا - ما جُبِل عليه الإنسان من حرصٍ شديد على المال، وحب له، ورغبة في الاستكثار منه، والاستزادة من النعيم الذي يوفره لصاحبه، والجاه الذي يضفيه على جامِعه، فضلاً عن أن المرحلة الأولى من جهاد المسلمين قبل أن يؤذَن لهم بالحرب وردِّ العدوان المسلح بالسلاح - كان قوامها وعدتها المال.
 
ولهذا انتقل القرآن الكريم من الآيات التي تتحدث عن جوانب متفرقة من أخلاق الإنسان الاقتصادية، إذا جاز مثل هذا التعبير، مثل قوله - تعالى -: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [الإسراء: 100]، ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]، ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 6 - 8] إلى آية كلية، تُجمِل موقف الإنسان من متع الحياة المادية ومغرياتها جميعًا؛ كقوله - تعالى -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [آل عمران: 14].
 
وقد يقعُ في الوهم أنه ما دامت هذه المتع والرغبات قد وُصِفت بأنها متاع الحياة الدنيا، فهي ملعونة عند الإسلام على الإطلاق؛ إذ حَسْبها أن تكون متاع الحياة، وأن تكون الحياة موصوفة [بالدنيا]، حتى يتضح رأيُ الإسلام فيها، وهذا أبعد شيء عن حقيقة رأي الإسلام في كل ما يتصل بمقومات الحياة؛ من حب النساء والبنين والذهب والفضة، فهي وإن كانت متاعًا - أي وسيلة انتفاع واستمتاع بالحياة - إلا أنها ليست ملعونةً في ذاتها، والمسلم ليس منهيًّا قط عن السعي في اكتسابها، والتمتعِ بها، وطلبِ الراحة واللذة، والسعادة من ورائها، فليس في الإسلام رهبنة، ولم يزهِّد أحدًا من أتباعِه في أن يكون قويًّا، بل إنه نهى عن النقيض، وفي الآية الكريمة: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، الدليل على ما نقول، بل إن القرآن يتساءل عن هؤلاء الذين يريدون أن يحوِّلوا حياة الناس إلى عيش ثقيل لا يطاق وعبء باهظ لا يحتمل، وحرمان قاسٍ، بغير مبرر ولا مقتضٍ: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32]، بل إن اللهَ يعاتبُ الذين يجعلون من أنفسهم أوصياءَ على البشر، فيحرِّمون عليهم ما أحل الله؛ قال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 59].
 
فالإسلام على عكس ما يتوهم الواهمون، أو ما يذهب إليه المتجنُّون، لا يغفُل عن العامل الاقتصادي، ولا يغض من قدره، بل يعتدُّ به، ويحسُب حسابه، ويحتفل بأثره في حياة الناس، وينظمه ويقومه، ويجعله حافزًا لحياة أكرم، ولعدالة أشمل، مما يحتاج إلى تفصيل وبيان، سنتولاه فيما بعد بإذن الله.
 
لذلك فقد جاهد نبيُّ الإسلام محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - مستندًا إلى القرآن، مؤيدًا بأحكامه وآياته؛ ليجعل العامل الاقتصادي سبيلاً إلى قوة الإنسان ورُقيه، وإلى أحكام علائق الأخوَّة بين الناس في المجتمع الصغير، وفي المجتمعات الكبرى، دون أن يصبح العاملُ الاقتصادي هو السيدَ المطاع في صورته الغريزية الأولى، ولا أن ينفي تشابك العوامل المختلفة التي تتكوَّن فيها الحياة الإنسانية، فتخرج نسيجًا مجدولاً مضفورًا، لا يمكن فصل خيط منه من مجموع النسيج، وإلا تهتَّك وانحل، ويصبح مَن تسوِّل له نفسه ذلك كالتي نقضت غزْلَها أنكاثًا.
 
آية ذلك أن القرآن الكريم دعا الناس دعوة متكررة لأن يأكلوا من طيبات ما رزقهم الله، وليس بعد هذا دلالةٌ على حرص كتاب الله، على أن يعطي الجانب الماديَّ المتصل بطعام الإنسان وشرابه ما يستحقه من العناية، فضلاً عن أن يغفله، وقد يزيد هذا المعنى أن نعرف أن الدعوة إلى أكلِ الطيبات والحلال وردتْ في القرآن أكثَرَ مما ورد لفظ "الحج"، وهو عبادة من عبادات المسلمين المفروضة عليهم، وتكاد تبلغ عدد المواضع التي وردت فيها الصلاة ذاتها، ومن أمثلة ما ورد في القرآن الكريم في هذا الصدد - لأننا لا نستطيع أن نورده كله في جانب كبير منه -: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 60]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ [البقرة: 168]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، وعما يصطاده الناس من الطير؛ قال - تعالى -: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 4]، ثم قال - تعالى -: ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]، ﴿ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 54]، وعن البُدْن التي تذبح عند البيت الحرام؛ قال - تعالى -: ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 28]، ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ [الحج: 36]!
 
ولا بد أن يستوقف النظرَ أن الله - تعالى - لا يكتفي بدعوته إلينا إلى أن نأكل، ولا نأكل ونشرب، بل أن يكون أكلنا وشربنا متاعًا لنا وبهجة؛ قال - تبارك وتعالى -: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24]، ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الطور: 19]، ﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾ [النساء: 4]، والحديث هنا عما يأكُلُه الأزواج من مال أزواجهم.
 
ويقدِّم كتاب الله العزيز صورًا لِما يوفِّره الطعام للإنسان من نفع ولذة، فيقول: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5]، وعن صيد البحر يقول القرآن: ﴿ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ [فاطر: 12]، ويضرب للناس أمثلة عن أطعمة خاصة، وعن كيفية تكونها، فيقول عن اللبن: ﴿ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ﴾ [النحل: 66].
 
والحق أن الإنسان يجبُ أن يقف مأخوذًا مشدوهًا من هذا التتبع الدقيق لمصادر الطعام وصوره المختلفة؛ من صيد البرِّ والبحر، ومن اللبن والعسل، ومما يستخرجه الإنسانُ من الشجر من رزق حسنٍ، وليس هذا كله إلا تفصيلاً للآيتين الواردتين في الجزء الأول من كتاب الله، واللتان تبدأان بقوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ [عبس: 24]، فهذا النظر تعليم وتلقين، تزداد به معرفةُ الإنسان لدنياه، والعلم مطلوبٌ عند المسلم، ثم هو تأمُّل في قدرة الله، وهذا التأمُّل تسبيح للخالق - عز وعلا - واقتراب منه، وركون إليه، وهو أمر يسعى إليه المسلمُ، وهو بعد ذلك التفاتٌ إلى جانبٍ من حياة الإنسان، قد يظن أنها لا تستحقُّ منه الرعايةَ ولا العناية، وهو أبعد الأمور عن الإسلام، وعن أساس أحكامه وقواعده، وعن حكمته وفلسفته.
 
ويحتاج هذا الكلام إلى تفصيل، نرجو أن نوفَّق إليه في حديث آخر - بإذن الله.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢