أرشيف المقالات

الإيمان باليوم الآخر وأثره في السلوك في ظلال سورة الحج

مدة قراءة المادة : 27 دقائق .
الإيمان باليوم الآخر وأثره في السلوك
في ظلال سورة الحج

تجيب "سورة الحج" عن هذه الأسئلة:
• كيف النجاةُ في يوم الطامَّة؟
• كيف الفوز في يوم التغابُن؟
• ما السبيل للأمن في يوم الفزَع الأكبر؟
• ما الذي ينفع (يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون)؟
• كيف يَرضى عنا ربُّنا في يومٍ غَضِبَ فيه غضبًا لم يغضب قبله ولا بعده مِثلَه؟
 
تقول لنا سورة الحج: إن المكرَم من أكرَمَه الله في هذا اليوم، وإن المُهان من أُهينَ في هذا اليوم، والآمِن من خاف الله في الدنيا وعمل بطاعته، والذي ينفع من أتى اللهَ بقلب سليم تقيٍّ، والسعيد حقيقةً من يفرح برضوان الله ويستظل بعرشه، والشقي حقيقة هو المحروم في هذا اليوم.
 
كيف النجاة من النار والفوز بالجنة؟
1- الإيمان والعمل الصالح، وذلك بسلامة القلب:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [الحج: 14].
 
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [الحج: 23].
 
الفائزون هم:
• المؤمنون بأن البعث حقٌّ، وأن الله حق، وأن النبيِّين حق، وأن محمدًا حق.
 
• المؤمنون بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم المتَّبِعون له ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحج: 49، 50].
 
• وعلامة ذلك الإيمانِ: حسنُ القول، واستقامة الجوارح على دين الله ﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ [الحج: 24].
 
وعلامة ذلك الإيمان: إخباتُ القلب واستسلامُه لأمر الله ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54].
 
أما الخاسرون:
• فكلُّ من كفر وصدَّ الناسَ عن دين الله؛ ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ [الحج: 19 - 21].
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25].
 
• ومن كذَّب بالبعث وجادَلَ بغير علم، سيعلم عند لقاء الله عاقبةَ ما قدَّمت يداه ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [الحج: 8 - 10].
 
عن ابن جُرَيج: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾؛ قال: النضر بن الحارث.
 
ويعني بقوله: ﴿ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ مَن يُخاصِم في الله، فيزعُمُ أن الله غير قادر على إحياء من قد بَلِيَ وصار ترابًا، بغير علمٍ يعلمه، بل بجهلٍ منه بما يقول، ﴿ وَيَتَّبِعُ ﴾ في قيلِه ذلك وجدالِه في الله بغير علم ﴿ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ﴾ [تفسير الإمام الطبري].
 
فالبعث حقٌّ واليوم الآخِر آتٍ لا محالة مهما أنكَرَه واستهزأ به الغافلون ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47].
 
• وقد أقامت السورة الأدلةَ الواضحة على أن البعث حق ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج: 5 - 7].
 
• ومن كفر بالقرآن وشكَّك في الشريعة، فالموعدُ القيامة ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ [الحج: 55].
 
والحَكَم في ذلك اليوم: هو أحكم الحاكمين سبحانه؛ ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [الحج: 56، 57].
 
• ومن كذَّب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فالموعد الساعة، والحوض والشفاعة ﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [الحج: 42 - 44].






أحزانُ قلبي لا تزول
حتى أُبَشَّرَ بالقَبول


وأرى كتابي باليمين
وتَقَرَّ عيني بالرسول


نيرانُ قلبي في اشتعال
مِن خوفِ ربي ذي الجلال


فارحَمْ وسامِحْ يا كريم
واغفِرْ ذنوبًا كالجبال






 
2- بالتوحيد والإخلاص لرب العالمين:
﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج: 26].
 
﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ *حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31].
 
• توحيد الله بالعبادة؛ فلا نعبُدُ سواه "لبيك اللهم لبيك".
 
• وتوحيد الله بالدعاء؛ فلا تتعلق القلوب إلا به ﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾ [الحج: 15].
 
• وتوحيده بأسمائه وصفاته وأفعاله التي لا تنبغي لأحد سواه، وتأمَّل هذا النداء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ [الحج: 73].
 
• أما من أشرَكَ فإنه يعيش في الدنيا حائرًا تَتخطَّفُه الشهوات، وتهوي به في المهالك الشبهاتُ ﴿ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [الحج: 31].
 
• ومن عبَدَ غير الله، فالموعد القيامة والموقف بين يدي الله ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [الحج: 62].
 
• من عبَدَ غير الله فقد كذب على الله ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [الحج: 71].
 
• ومن تَعلَّقَ قلبُه بغير الله، يرجو نفعه، ويخشى ضُرَّه، فبئس الداعي والمدعوُّ ﴿ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾ [الحج: 12، 13].
 
3- بتحقيق تقوى الله في السر والعلن، والاستعداد للقاء الله:
فالملوك في هذا اليوم هم الأتقياء، وقد افتُتحت السورة بالحثِّ على التقوى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1].
 
وبيَّنَتِ السورة أن التقوى هي مَقصَدُ العبادات ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].
 
• أما من اتبَع هواه، ولم يتقِ الله، فقد خسر الدنيا والآخرة ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
 
أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان، لم يدخُل الإيمانُ قلبَه، ولم تخالطه بشاشتُه، بل دخل فيه، إما خوفًا، وإما عادة على وجه لا يثبُتُ عند المِحَنِ؛ ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ﴾؛ أي: إن استمَرَّ رزقُه رغدًا، ولم يحصل له من المكاره شيءٌ، اطمأنَّ بذلك الخير، لا بإيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه، ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه، ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﴾ من حصول مكروه، أو زوال محبوب، ﴿ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ﴾؛ أي: ارتد عن دينه، ﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ﴾ أما في الدنيا، فإنه لا يحصل له بالردة ما أمَّلَه الذي جعل الردة رأسًا لماله، وعوضًا عما يظن إدراكه، فخاب سعيُه، ولم يحصل له إلا ما قُسِم له، وأما الآخرة، فظاهر؛ حُرِم الجنةَ التي عرضُها السمواتُ والأرض، واستحَقَّ النار، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾؛ أي: الواضح البيِّنُ.
(تفسير الشيخ السعدي).
 
• ومن أطاع الشيطان، وعصى الرحمن، وكذَّب بيوم الفرقان، فهو في ضلال ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الحج: 3، 4].
 
4- كثرة ذكر الله، وتعظيم آياته، والإحسان إلى عباده:
هل تعلم أن الذِّكر هو العبادة الخالدة بخلود أهل الجنة؟ ((يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يَتمخَّطُون، ولا يتغوَّطون، ولا يبُولُون، طعامُهم ذلك جُشَاءٌ كرِيحِ المِسْكِ، يُلهَمون التسبيح والتكبير كما تُلهَمون النفَسَ))؛ رواه مسلم.
 
تريد أن تكون من السابقين في الأولى والآخرة؟ ((سبَقَ المفرِّدون))، قالوا: وما المفرِّدون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات))؛ رواه أحمد.
 
"سَبَقَ المفرِّدون"؛ أي: المُفَرِّدونَ أَنفُسَهم عن أَقرانِهم، المُميِّزونَ أَحوالَهم عن إخوانِهم، بنَيلِ الزُّلفَى، والعُروجِ إِلى الدَّرجاتِ العُلا؛ لأنَّهم أُفرِدُوا بذِكرِ اللهِ عمَّن لم يَذكُرِ اللهَ، أو جَعَلوا رَبَّهم فَردًا بالذِّكرِ، وتَرَكوا ذِكرَ ما سِواه.
 
ولهذا كان الذِّكر غاية الغايات ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 34، 35].
 
من خاف الله في الدنيا كان من الآمنين يوم القيامة؛ كيف ذلك؟ لأن من خاف أدْلَجَ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعني أسرَعَ إلى الطاعات، واجتنَبَ المحرَّمات؛ ولهذا اقترَنَ بالإخبات والخوف جملةٌ من العبادات ﴿ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 35].
 
وأعظم مُعينٍ على ذلك كثرةُ ذِكر الله؛ فذِكرُ الله مفتاحُ معرفتِه سبحانه، ولأجل الذِّكر سخَّر الله لعباده كل شيء ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الحج: 37].






فَيا عَجَبًا كَيفَ يُعصى الإِلَهُ
أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ


وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ
تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ


وَلِلهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ
وَتَسكينَةٍ أَبَدًا شاهِدُ






 
قال الشيخ السعدي في قوله تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ [الحج: 34].
 
"أي: ولكل أمَّةٍ من الأمم السالفة جعلنا منسكًا؛ أي: فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيُّكم أحسنُ عملًا، والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكًا: إقامة ذِكره، والالتفات لشكره؛ ولهذا قال: ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾، وإن اختلفت أجناس الشرائع، فكلُّها متفقة على هذا الأصل، وهو ألوهية الله، وإفرادُه بالعبودية، وتركُ الشِّرك به؛ ولهذا قال: ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾؛ أي: انقادوا واستسلِموا له لا لغيره؛ فإن الإسلام له طريق إلى الوصول إلى دار السلام، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ بخيرِ الدنيا والآخرة، والمُخبِتُ: الخاضعُ لربِّه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده".
 
• أما الغافل عن ذِكر مولاه، المُعرِض عن آياته؛ فلا يلومَنَّ إلا نفسَه، حين يستحوذ عليه الشيطان، فيكذِّب آيات الرحمن، أولئك مرضى القلوب ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [الحج: 53].
 
وفي تفسير الجلالين: "«والذين سَعَوْا في آياتِنا» القرآن بإبطالها «مُعجِّزينَ» مَن اتبَعَ النبيَّ؛ أي: ينسُبونهم إلى العجز، ويثبِّطونهم عن الإيمان، أو مقدِّرينَ عجْزَنا عنهم، وفي قراءة "معاجزين": مسابقين لنا؛ أي يظُنون أن يفُوتونا بإنكارهم البعثَ والعقاب «أولئك أصحابُ الجحيمِ» النار".
 
• أما من كذَّب بالآيات، فالموعد النار ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحج: 72].
 
5- تعظيم حرمات الله باجتنابها ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30].
"يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك، وما لفاعلها من الثواب الجزيل.
 
﴿ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ﴾؛ أي: ومن يجتنب معاصيَه ومحارمه، ويكون ارتكابها عظيمًا في نفسه، ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾؛ أي: فله على ذلك خيرٌ كثير، وثواب جزيل، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير، وكذلك على ترك المحرَّمات و[اجتناب] المحظورات.
 
قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ﴾ قال: الحرمة: مكة والحج والعمرة، وما نَهى الله عنه من معاصيه كلها".
(تفسير الإمام بن كثير).
 
• ومن المحرَّمات الجدالُ بغير علم؛ بتحريم ما أحَلَّ الله، وتحليل ما حرَّم، وتشكيكِ الناس في الثوابت، وما أكثرهم في هذا الزمان، خاصة مع توافر وسائل التواصل ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الحج: 3، 4].
 
• فمن انتهَكَ الحرُماتِ، فقد ظلَمَ نفسه وأَورَدَها المهالك ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ﴾ [الحج: 45].

وقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [الحج: 48].
"﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ﴾؛ أي: أمهلتها مدة طويلة، ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾؛ أي: مع ظلمهم، فلم يكن مبادرتُهم بالظلم، موجبًا لمبادرتنا بالعقوبة، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهَا ﴾ بالعذاب ﴿ وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾؛ أي: مع عذابها في الدنيا، سترجع إلى الله، فيعذِّبها بذنوبها، فلْيَحذَرْ هؤلاء الظالمون من حُلولِ عقاب الله، ولا يغترُّوا بالإمهال".
(تفسير الشيخ السعدي).
 
6- تعظيم شعائر الله بالمسارعة إليها والدعوة إليها ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
والمراد بها هنا الهَدْيُ، والأضحية، والبيت الحرام، والمناسك.
 
والشعائر يدخل فيها كلُّ الأوامر الشرعية؛ كما قال الإمام القرطبي: "الشعائر جمع شعيرة، وهو كل شيء لله تعالى فيه أمرٌ أشعَرَ به وأعلَمَ".
 
كالصبر والشكر والإحسان، والتكبير، والصلاة، والإنفاق، وحسن الأخلاق ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41].
 
والدعوة إلى كل ذلك كما فعَلَ الأنبياء ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج: 27].
 
وقد ورَدَ في السورة سجدتانِ كلاهما تؤكِّدان أن الفلاح كلَّ الفلاح والإكرام كلَّ الإكرام في السجود لذي الجلال ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18].
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].
أما من استهان بالشعائر، وجادَلَ فيها بالباطل، فالموعد القيامة ﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحج: 68].

والحَكَمُ في ذلك هو الله ﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 69].
 
نتعلم من سورة الحج إصلاح القلب لطاعة الرب سبحانه، وصلاح القلوب خير مُعِين على الفوز يوم القيامة، وقد رسمت السورة طريق ذلك بالآتي:
أولًا: التفكر في عظمة الله ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ [الحج: 63 - 66].
 
سبحانك ربَّنا ما أعظَمَك!
تأمَّلْ هذا النداء؛ بل هذا التحدي ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الحج: 73 - 76].
 
"قال ابن زيد في قوله: ﴿ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا ﴾...
إلى آخر الآية، قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله لآلهتهم، وقرأ: ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ حين يعبُدون مع الله ما لا ينتصف من الذُّباب ولا يمتنع منه.
 
وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ يقول: إن الله لقويٌّ على خلق ما يشاء مِن صغير ما يشاء من خلقِه وكبيرِه، ﴿ عَزِيزٌ ﴾ يقول: منيع في مُلكِه، لا يَقدِرُ شيءٌ دونه أن يسلُبَه من مُلكه شيئًا، وليس كآلهتكم أيها المشركون الذين تدْعون من دونه، الذين لا يَقدِرون على خلق ذباب، ولا على الامتناع من الذباب، إذا استلبها شيئًا ضعفًا ومهانة".
(تفسير الإمام الطبري).
 
ثانيًا: تزكية القلب وتطهيره من وساوس الشيطان:
ولأهمية القلب فقد جاء في السورة بيان لأنواع القلوب وأحوالها:
1- القلب المُخْبِتُ:
الخاضع المطمئنُّ الساكن ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54].
 
2- القلب الوَجِلُ: ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الحج: 34، 35].
 
3- القلب التقيُّ: وهو الذي يعظِّم شعائر الله ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
 
4- القلب الأعمى: وهو الذي لا يُبصِر ولا يُدرِك الحقَّ ولا يعتبر ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
 
5- القلب المريض والقلب القاسي ﴿ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [الحج: 53].
 
وصدق النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ))؛ متفق عليه.
 
فمن ندم قلبُه اليوم على ذنب اقترَفَه؛ فاستقام في الدنيا، نفَعَه ندمُه هذا وحياؤه من الله يوم القيامة.
 
• فكما تكرَّر ذِكر القلب في السورة، كذلك تكرر ذِكر التقوى؛ لأن التقوى محلُّها القلوب، كما قال حبيب القلوب صلى الله عليه وسلم: ((لا تَحاسَدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغَضوا، ولا تدابَروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم، لا يَظلِمُه ولا يخذُلُه، ولا يَحقِرُه، التقوى هاهنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات))، وينعكس ذلك على الجوارح فتستقيم، كما هو واضح في أول الحديث، فالمتقون المؤمنون بالآخرة هم أحسنُ الناس أخلاقًا.
 
ثالثًا: معرفة حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها، وحقيقة الآخرة وأنها دار القرار:
من عجائب هذه السورة أن المؤمنين بالآخرة يفوزون في الدنيا والآخرة، والكافرين بالآخرة قد يخسرونهما معًا.
 
• فالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة مصيرُ المجادِلين بالباطل، الصادِّينَ عن سبيل الله، الذين جعلوا الدنيا أكبرَ همِّهم، ونسُوا الآخرة ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الحج: 8، 9].
 
• فمن شكَّ في الآخرة واطمأنَّ للدنيا، فماذا ربح؟! ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
 
• أما المؤمنون بالآخرة، فينصُرُهم الله في الدنيا، ويفُوزونَ برضاه في الآخرة، قال تعالى مبشِّرًا المؤمنين الذين يتعرَّضون للأذى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40].
 
• يربح المؤمنون الدنيا والآخرة ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [الحج: 23].
 
• يظنُّ البعض أن قتل المؤمن هزيمة، كلَّا! بل هو فوز ونصرٌ مُبين؛ فالمؤمنون يربحون الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ [الحج: 58 - 60].
 
وبهذا المعنى خُتِمَتِ السورة.
 
فمَوْلانا ربُّ العالمين، وهو نِعْمَ المَوْلى ونعم النصير ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78].

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١