الجمال الباطن
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
مكانة الجمال الباطنعقل متحرر يفكر بعيداً عن الخرافة والأسطورة والوهم، في مجالات إمكاناته وفي حدود قدراته.
وعلم يستقر في الفكر، ليكون معرفة تقود إلى العمل.
وفطرة تنمو في ظلال المنهج الإلهي.
فإذا الأخلاق الفاضلة دستور ونظام تتعامل الحياة من خلالها.
تلك هي جمالية الباطن، التي تجسدها الأخلاق الفاضلة.
وقد تحدثنا في القسم الأول من هذا الباب عن الوسائل التجميلية لظاهر هذا الإنسان، وكانت نهاية المطاف حديثاً عن جماليات القول أوصلنا من حيث لا نشعر إلى بحث أخلاقي، وهو توافق القول والعمل.
وهكذا كانت الأخلاق نهاية المطاف في جماليات الظاهر، وكانت كذلك في جماليات الباطن.
مما يؤكد وحدة هذا الإنسان، وتكامل هذا المنهج وتناسقه مع طبيعة هذا الإنسان.
وسنتحدث عن مكانة هذه الجماليات، وأثرها في غيرها.
ثم تناسقها مع غيرها..
تقديم جمال الباطن:
إن جمال الباطن مقدم على جمال الظاهر، وإليه ترجع الكلمة الأخيرة في تحديد جمالية الإنسان.
ذلك ما ذهب إليه الباحثون المسلمون:
فالغزالي، يقسم المدركات إلى قسمين: مدركات بالحواس ومدركات بالقلب، والقلب أشد إدراكاً من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار[1].
وجمال الخُلُق عند ابن تيمية هو جمال الباطن، وهو يرى: أن الجمال الذي للخُلُق، من العلم والإيمان والتقوى أعظم من الجمال الذي للخَلْق، وهو الصورة الظاهرة[2].
ويقول ابن القيم: اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر وباطن، فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، كما في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"[3]..
ومما يدل على أن الجمال الباطن أحسن من الظاهر أن القلوب لا تنفك عن تعظيم صاحبه ومحبته والميل إليه[4].
وهكذا التقت الآراء على أمر مشاهد، ولم تكن تلك الآراء إلا تقريراً للواقع، فلا مشاحة في تقديم جمال الباطن على جمال الظاهر، وتلك حكمة الله تعالى أن كان الأمر كذلك.
فجمال الباطن حصيلة لإعمال العقل وإرادة العلم والتخلق بالفضائل..
وكلها قضايا للكسب أثره الكبير في إيجادها أو صبر النفس عليها.
أما جمال الظاهر فهو أمر لا دخل للكسب فيه وهو زينة خص الله بها بعض عباده.
إن هذا الأمر المقرر الواضح - وهو تقديم الجمال الباطن - لم يكن كذلك في العالم الغربي الحديث.
حيث اعتبر الظاهر كل شيء..
وقامت مسابقات الجمال..
وانتخبت الملكات..
وأخضع هذا الاختبار لمقاييس مثالية من قياس الطول والصدر..
وقد هال الأمر العقلاء في تلك المجتمعات، فقاموا يتحسرون على ما وصل إليه فكرهم من إسفاف مادي.
ومن هؤلاء "الكسيس كاريل" الذي قال:
"لقد طبقنا على الإنسان آراء تتصل بالعالم الآلي، فأهملنا التفكير والعفو الأدبي والتضحية والسلام، وعاملنا الفرد كما نعامل المادة الكيمائية والآلة...
لقد قضينا على وظائفه الأدبية والجمالية والدينية"[5].
ويتحدث عن الجمال الباطن وعن ندرة وجوده فيقول:
"إننا قلما نشاهد أفراداً يتبعون مثلاً أخلاقياً أعلى في تصرفاتهم في المدينة العصرية، ومع ذلك فأمثال هؤلاء الأفراد موجودون فعلاً...
إننا لا نملك إلا أن نلاحظ تصرفاتهم عندما نلتقي بهم..
أما الجمال الأخلاقي فاستثنائي، وهو ظاهرة ملحوظة جداً..
والشخص الذي يفكر فيه ولو مرة واحدة لا ينساه أبداً..
وهذا الشكل من أشكال الجمال أكثر تأثيراً بكثير من جمال الطبيعة والعلم..
إنه يمنح أولئك الذين يملكونه هبات جليلة الشأن، قوة عجيبة لا يمكن إيضاحها..
إنه يزيد قوة العقل، ويوطد السلام بين الناس..
والجمال الأدبي يفوق العلم والفن من حيث إنه أساس الحضارة"[6].
[1] إحياء علوم الدين 4 /297.
[2] الاستقامة، لابن تيمية 1 /441.
[3] رواه أبو هريرة، انظر "صحيح سنن ابن ماجه" 3342، "مختصر صحيح مسلم" 1776، "صحيح الجامع الصغير" 1862، "غاية المرام" 415.
طبع المكتب الإسلامي.
[4] روضة المحبين ص 231 ط1 دار الكتاب العربي، بيروت.
[5] الإنسان ذلك المجهول ص 308.
[6] المصدر السابق ص 153.