صفة جمع مصحف عثمان
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
صفة جمع مصحف عثمانالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه جمَعَ الناسَ في عهده على مصحف واحد، فهل أمر برسم كلمات القرآن على ما تيسر من الأحرف السبعة أم اختار حرفًا واحدًا وترك الباقي؟
الظاهر من الأدلة الصحيحة وتنوُّع القراءات الثابتة أنه أمر برسم كلمات القرآن على ما أمكن من الأحرف السبعة المنزلة، فإن لم يمكن رسم الكلمة إلا برسم واحد، اختار أحد الحروف المنزلة، وإن كان أحدها بلغة قريش قدَّمه على غيره، فعثمان اعتمد على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقرأ القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ))، وهو حديث صحيح يدل على أن أي حرف يقتصر عليه المسلمون في قراءة القرآن أو في رسم المصحف، فهو كافٍ شافٍ.
فمثال ما أمكن رسمه على أكثر من حرف:
رسم قوله تعالى: {ملك يوم الدين} هكذا بغير ألف، وتقرأ بالحرفين: {ملك} أو {مالك}، وهما قراءتان متواترتان.
ورسم قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فىــىــىــىـوا} هكذا بلا نقط، فتصح أن تقرأ بالحرفين: {فتبينوا} أو {فتثبتوا}، وهما قراءتان متواترتان.
ورسم قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عىــــد الرحمن إناثًا} هكذا، فتصح أن تقرأ {عباد}أو {عند}، وهما قراءتان متواترتان.
ومثال ما لم يمكن رسمه إلا برسم واحد، فاختار عثمان أحد الحروف المنزلة:
رسم قوله تعالى: {القيوم} هكذا، وقد كانت في حرفٍ {القيام}، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ به في خلافته، فاختار عثمان أحد الحرفين، وهو الأول، ولو اختار الثاني لجاز ذلك، ولكنه ألزم المسلمين أن يقرؤوا بالرسم الذي اختاره لهم من الأحرف السبعة؛ حتى يسد باب الخلاف بينهم.
رسم قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} هكذا، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرؤها {فامضوا إلى ذكر الله}، وهي قراءة سمعها عمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن جرير بسند صحيح عن عبدالله بن عمر قال: لقد توفى الله عمر رضي الله عنه وما يقرأ هذه الآية التي ذكر الله فيها الجمعة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ﴾ [الجمعة: 9] إلا "فامضوا إلى ذكر الله"، فهما قراءتان مسموعتان من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، لكن لم يمكن عثمان أن يرسم إلا إحدى القراءتين؛ إما {فاسعوا}، أو {فامضوا}، فاختار الأولى.
رسم قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ﴾ [الليل: 1 - 3] هكذا، وقد ثبت في الصحيحين أن عبدالله بن مسعود وأبا الدرداء رضي الله عنهما كانا يقرأانها: {والذكر والأنثى}، وهي قراءة سمعاها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يمكن عثمان إلا أن يختار إحدى القراءتين؛ لأنه لا يمكن رسم الحرفين في نفس الوقت، فاختار القراءة الأولى.
ومثال ما كان أحد الأحرف بلغة قريش فقدَّمه على غيره: قوله تعالى: ﴿ التَّابُوتُ ﴾ [البقرة: 248]، فإن لغة أهل المدينة "التابوه" بالهاء، ولغة قريش "التابوت" بالتاء، وفي الحديث الصحيح أن هذا أول حرف اختلف فيه الذين كان يكتبون المصحف بأمر عثمان على رسم واحد، فرفعوا هذا الخلاف إليه، فقال: اكتبوه على لغة قريش: ﴿ التَّابُوتُ ﴾.
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: (1/ 45): "اختلاف الأحرف السبعة إنما هو اختلاف ألفاظ؛ كقولك: هلم وتعالَ، باتفاق المعاني، لا باختلاف معانٍ موجبة اختلاف أحكام، وبمثل الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن جماعة من السلف والخلف".
وقال ابن جرير - أيضًا - في تفسيره (1/ 53): "الأمَّة أُمرت بحفظ القرآن، وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت، كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة أن تكفر بأي الكفارات الثلاث شاءت؛ إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمع جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث، دون حظرها التكفير بأي الثلاث شاء المكفر، كانت مُصيبةً حُكمَ الله، مؤديةً في ذلك الواجبَ عليها من حق الله، فكذلك الأمة أُمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت، فرأت - لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد - قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية، ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه، بما أذن له في قراءته به.
فإن إمام المسلمين وأمير المؤمنين عثمان بن عفان رحمة الله عليه جمع المسلمين؛ نظرًا منه لهم، وإشفاقًا منه عليهم، ورأفة منه بهم؛ حذار الردة من بعضهم بعد الإسلام، والدخول في الكفر بعد الإيمان؛ إذ ظهر من بعضهم بمحضره وفي عصره التكذيب ببعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، مع سماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن التكذيب بشيء منها، وإخباره إياهم أن المِراء فيها كفر، فحملهم رحمة الله عليه إذ رأى ذلك ظاهرًا بينهم في عصره، بما أمن عليهم معه عظيم البلاء في الدين، من تلاوة القرآن على حرف واحد، وجمعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه أن يحرقه، فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة، التي عزم عليها إمامها العادل في تركها، طاعة منها له، ونظرًا منها لأنفسها، ولمن بعدها من سائر أهل ملتها، حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها، وعفو آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتها وصحة شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد، الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية، فإن قال بعض مَن ضعُفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة؛ لأن القراءة بها لو كانت فرضًا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة، ويقطع خبرُه العذرَ، ويُزيل الشكَّ من قَرَأَةِ الأمة، وفي تركهم نقْلَ ذلك كذلك أوضحُ الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخيَّرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة.
فإذا كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا؛ إذ كان الذي فعلوا من ذلك كان هو النظر للإسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم بهم أولى من فعل ما لو فعلوه كانوا إلى الجناية على الإسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة من ذلك" انتهى باختصار.
الفرق بين جمع أبي بكر الصديق وجمع عثمان رضي الله عنهما:
جمع أبي بكر الصديق يختلف عن جمع عثمان في الباعث والكيفية، فالباعث لدى أبي بكر رضي الله عنه لجمع القرآن خشيـة ذَهابه بذهاب حَمَلته، حين استحرَّ القتل بالقـراء في حروب الردة.
والباعث لدى عثمان رضي الله عنه كثرة الاختلاف في وجوه القراءة، حيث كان بعض التابعين الذين لم يشاهدوا التنزيل يخطِّئ بعضهم بعضًا، وربما اقتتل بعضهم مع بعض!
وجمع أبي بكر الصديق للقرآن هو الأصل، وقد كان جمعًا لما كان مفرقًا في الرقاع والأكتاف والعُسُب في مصحف واحد مرتَّب الآيات والسور، مقتصرًا على ما لم تنسخ تلاوته.
وجمع عثمان للقرآن كان نسخًا للمصحف الذي جمعه أبو بكر مع توحيد رسم المصحف، فعثمان لم يسقط آية واحدة، ولم يغير حرفًا واحدًا مما كان في المصحف الذي جمعه أبو بكر، ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه (4530)، عن عبدالله بن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ﴾ [البقرة: 240] قد نسختْها الآيةُ الأخرى، فلمَ تكتُبُها أو تدَعُها؟! قال: "يا بن أخي، لا أغير شيئًا منه من مكانه".
والدليل على أن جمع عثمان مجرد نسخ: ما رواه البخاري في صحيحه (4987)، عن أنس بن مالك، أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشأم في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: "أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك"، فأرسلتْ بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم"، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وبهذا البيان المختصر يُعلم أن صفة جمع مصحف عثمان رضي الله عنه هو رسم كلمات القرآن على ما أمكن من الأحرف السبعة المنزلة، فإن لم يمكن رسم الكلمة إلا برسم واحد، اختار أحد الحروف المنزلة، وإن كان أحدها بلغة قريش قدمه على غيره، ثم نسخ عدة مصاحف بالرسم الذي اعتمده؛ ولذا يسمى الرسم العثماني، وأمر من كان عنده مصحف أن يحرقه، وأرسل عدة مصاحف من تلك النسخة إلى الأمصار، وبهذا العمل العظيم اجتمعت الأمة على رسم عثمان، وسَلِم المسلمون من التفرق والاختلاف في كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.