رسالة في الطريق إلى ثقافتنا للأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى - محمد براء ياسين
مدة
قراءة المادة :
63 دقائق
.
1- غاية الكتاب وظروف تأليفه:(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) هي مقدّمة قدّم بها الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى للطبعة الثالثة من كتابه (المُتنبِّي) التي نشرها سنة 1987م، وكتاب (المتنبِّي) كان قد كتبه في شبابه سنة 1936م، وذلك بطلب من فؤاد صرّوف، إذ كان يريد إحياء الذكرى الألفية لوفاة أبي الطيب المتنبّي في مجلته الأدبيّة (المقتطف)، فكتَبَ شاكر كتابه هذا، ونُشِر في عدد خاصّ من المجلة في يناير 1936م.
كما أنه نشر الطبعة الثانية من الكتاب سنة 1977م وقدّم لها بمقدّمة بعنوان (لمحة عن فساد حياتنا الأدبية).
والغاية التي من أجلها كتب المؤلف هذه الرسالة هي تقديم تفسيرٍ للموقف الذي اتّخذه من الحياة الأدبية الفاسدة التي اتّصَل بها في شبابه، وهو موقف الرفض الصريح الواضح القاطع غير المتلجلج - بحسب تعبيره أيضًا – يقول في الفقرة العاشرة من كتابه: (وإذن، فكيف نشأ الخلاف، ولم نشأ الخلاف، بيني وبين هذه المناهج الأدبيَّة السائدة، كانت ولا تزال، في حياتِنَا الأدبية، حتى رفضتُها رفضًا صريحًا واضِحًا قاطعًا غيرَ مُتلجلِج، منذُ بدأتُ قديمًا أُحِسُّ إحساسًا مُبهمًا أنَّ حياتَنَا الأدبيَّة حياةٌ فاسدةٌ من كُلِّ وجهٍ كما حدَّثتك آنفًا؟).
(ص23).
ويقول في ختام رسالته (وقد قصصتُ عليك هنا قصَّةَ هذا الفساد العريق من حيث بَدَأ الى حيث انتهى، فهذا كُلُّه جوابُ السؤال الذي بدأت به الفقرة العاشرة).
(ص149).
وهذه الحياة الأدبية الفاسدة التي وقف منها المؤلف هذا الموقف: (ألقَت بكُلِّ فسادِهَا في حياتنا اللُّغوية والثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية بل في صميم حياتنا الدينية أيضًا حتى أوشك أن يضيع كُلُّ شيء كان غير قابل للضياع) (ص79-80).
ولتصوّر الخلاف الواقع بين المؤلف وبين الحياة الأدبية الفاسدة التي اتصل بها يحسن تصوّر الظروف التعليمية التي نشأ فيها المؤلف، والتي سبقت موقفه هذا.
ولد المؤلف سنة 1909م، ونشأ في حقبة الاحتلال الإنجليزي لمصر، الذي تدَخَّلَ في جميع الشؤون السياسية والثقافية والأدبية والتعليمية.
وفي وصف الظروف التعليمية في تلك الحقبة؛ ننقل كلامًا لشقيق المؤلف الشيخ أحمد شاكر في تقريره عن شؤون التعليم والقضاء الذي قدّمه للملك عبد العزيز سنة 1949م، ثم نُتبِعُه بكلام للمؤلف من مقدمته للطبعة الثانية لكتاب المتنبّي التي سماها (لمحة عن حياتنا الأدبية) والتي كتبها سنة 1977م.
يقول الشيخ أحمد شاكر: (وضع الإنجليزُ يدَهم في مصر على التعليم كلِّه سنين طوال، إلا الأزهر فانهم تركوا التعرُّض له تعرُّضًا ظاهرًا، ثم تركوه يضمُر ويضمَحِلّ، ثقة منهم بأن ما كان فيه من جمود لا يُسايرُ عصرَه سيقضي عليه وحده، دون تدخل عامل خارجي.
وكان الذي وكل إليه من الإنجليز توجيه شؤون التعليم رجلًا مُبشِّرًا قديمًا، واستعماريًّا عتيقًا (دنلوب)، فوضع الخطط الشيطانية التي توصل إلى ما يرمي إليه قومه وإلى ما يرمي إليه المبشرون المتعصبون، فأخرج لنا في بلادنا جيلين أو ثلاثة، كل جيل يُعلِّمُ من بعدَه ويصبغه بصبغته.
وأنشؤوا المدارس المدنية وجعلوها درجات: الصفوف الابتدائية والثانوية تهيء الطالب للمدارس العالية، ومن قصر به الطريق لجأ إلى المناصب في الدولة، كالكتابة ونحوها، ومن علت همته وساعد حظُّه من مال أو نفوذ ذهب إلى الأقسام العالية.
وجعلوا التعليم العالي المدني أنواعًا..
فأنشؤوا في أوائل ما أنشؤوا كلية الحقوق، لتخرج لها رجالًا يحكمون بالقوانين التي اصطنعوها عن أروبة الوثنية الملحدة، وأنشؤوا كليّة الآداب في الجامعة المصرية القديمة، ثم توسعوا فيها في الجامعتين الحديثتين بالقاهرة والاسكندرية، وظنوا أنهم بهذا يخرجون رجالًا أعلم بالعربية وفقهها وبالأدب والشعر ونحوهما ممن أفنوا العمر في ذلك من رجال الأزهر ودار العلوم..)[2].
ويرى أحمد شاكر بأن قيام الإنجليز بتقسيم التعليم إلى قسمين: التعليم الأزهري الديني والتعليم المدني، أنتج فريقين (يصطرعان في سبيل العيش والنفوذ والسلطان، ومن صوّرهم بغير هذه الصورة فما أظن إلا أنه قد أخطأ)[3].
أما الأستاذ محمود شاكر فيقول في وصف نظام التعليم الذي وضعه «دنلوب» وانتعاش الحركة الأدبية والثقافية - التي اتصل بها ثم تبين له فسادها - في ظله: (لما جاء عهد «دنلوب» كان الرأي أن تنشأ أجيال متعاقبة من «تلاميذ المدارس» في البلاد، يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بهذا التحول، عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملا من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون = ولكنها فنونهم هم وآدابهم هم وتاريخهم هم ولغاتهم هم أعني الغزاة.
وقد تولى نظام «دنلوب» تأسيس ذلك في المدارس المصرية، مع مئات من مدارس الجاليات التي يتكاثر على الأيام عدد من تضم من أبناء المصريين وبناتهم.
وقد كان ما أراد الغزاة، ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمراً على ما أرادوا!
في ظل هذا التفريغ المتواصل، وهذا التمزيق للعلائق، وهذه الكثرة التي تخرجُ مفرغةً أو شبه مفرغة إلى البعثات، وهذا التحوّل الاجتماعي والثقافي والسياسي المضطرب، وهذا التغليب المتعمَّد للثقافة الغازية واللغات الغازية بلا مقابل فى النفوس من ثقافةٍ ماضيةٍ حيَّةٍ حياةً ما، وباقية على تماسكها وتكاملها= فى ظل هذا كله ، انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشًا غير واضح المعالم، ولكنه يقوم على أصل واحدٍ فى جوهره، هو ملء الفراغ بما يناسب آدابًا وفنونًا غازية كانت قد ملأت بعض هذا الفراغ، فهى تحدثُ فى النفوس تطلعاً إلى زادٍ جديدٍ منها .
وأقول: «انتعاشًا غير واضح المعالم» لأن الأساتذة الكبار الذين انتعشت على أيديهم هذه الحركة، كانت علائقهم بثقافة أمتهم غير ممزقةٍ كُلَّ التمزيق= أما نحن، جيل المدارس المفرغ، فقد تمزقت علائقها بها كل التمزيق.
وفي خلال التحول الاجتماعي الثقافي المتصاعد المتكاثر، كان هناك جانبٌ راكدٌ مختنقٌ، لم يفرغ هذا التفريغ، ولكن ضُرِب عليه حصار مُفزغ وبيل مهينٌ.
هذا الجانب كان هو الوارث للماضي المتكامل المتماسك، ولكنه كان يزدادُ على مر الأيام تخلخلاً وتفككًا وانطواءً.
يمثل هذا الجانب جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم وأشباهما.
كان أكبرُ همِّ هذا الجانب، فى اليمّ المتلاطم من حوله المحافظة على الماضي محافظةً ما ولكن قبضته كانت تسترخى شيئاً فشيئاً تحت الحصار، وتحت القذائف المُدمِّرة التى يرمى بها، والتي تزلزل نفوس أبنائه من قواعدها، وكان مطلوبًا طلبًا حثيثًا أن تفتح أبواب هذا الحصن العتيق المنيع، لتدخل عليه نفس العوامل التى أدت إلى تفريغ «تلاميذ المدارس» من ماضيها، وإلى تهتُّك علائق ثقافته وعلومه، وإلى ربطه بالحركة الأدبية الغازية المتصاعد تحت ألوية «الجديد» و«التجديد» و«ثقافة العصر» وسائر الألفاظ المبهمة المغرية !!)[4].
ففي ظل هذه الظروف كانت تجربة المؤلف التعليمية.
وبالرغم من أنّ والد الأستاذ محمود شاكر «الشيخ محمد» وشقيقَه «الشيخ أحمد» -الذي يكبره بعشرين سنة - ينتميان إلى معسكر الأزهر، لا المعسكر المدني – بحسب تقسيم الشيخ أحمد شاكر آنف الذكر - فإنّ الأستاذ محمودًا لم يكن كذلك، فحياته التعليمية كما يصفها بنفسه (مختلفة عن والده وأخيه كل الاختلاف)[5] ، فهو ينتمي إلى (جيل المدارس المُفرَّغ من كل أصول ثقافة أمته) [6].
ويصف عميق أثر نظام «دنلوب» التعليمي في نفسه فيقول: (أنا قضيت حياتي أعالج نفسي، أعالج أثر «دنلوب» فيّ، أعالج أثر الاستعمار في قلبي، في ضميري، في عقلي، في نفسي، في نظري، في رؤيتي)[7].
والمباينة بين النشأة العلمية للمؤلف والنشأة العلمية لوالده وأخيه مما يجدر التنبيه لها، إذ لا يحصل الفهم الصحيح لغاية هذا الكتاب، ولا لسيرة المؤلف ومواقفه بتفسير نشأته في بيت أزهري علمي، مع إغفال ظروف الاستعمار بما تشكل فيها من مناهج تعليم نشأ عليها المؤلف.
مع دخول محمود شاكر في نظام التعليم الذي وضعه «دنلوب» فإنه لم يَعبُر مراحله بالطريقة الاعتيادية، إذْ مرَّ منذ أن دخل فيه لما كان طفلًا حتى تركه شابًّا بإرادته بثلاثة تحوّلات:
فكان أوّل أثرٍ شهده لنظام التعليم الذي وضعه «دنلوب» وهو في المرحلة الابتدائية أن كَرِه اللغة العربية كراهية شديدة، وبعد أن اتصل ببعض الفتيان المُحبِّين للشِّعر وحصلَ على ديوان المُتنبِّي من أحدهم= أحبَّ اللغة العربية.
ويذكرُ محمود شاكر أن هذا التحوّل لم يكن لأسرته تأثير فيه[8].
فهذا هو التحوّل الأول، وكان حينئذ في الرابع الابتدائي.
والتحوّل الثاني: هو تحوّله من المسار العلمي إلى الأدبي في دراسته الأكاديمية، فقد دخل القسم العلمي في المرحلة الثانوية لحُبِّه الشديد للرياضيات، ثمّ لما حصل على شهادة الثانوية العامّة دخل كلية الآداب لحبّه الشديد للأدب الذي غلب حبَّه للرياضيات، يقول: (فكان هذا التحوّل هو بدء تحوّل حياتي تحوّلًا تامًّا)[9].
وكان دخوله لكلية أدبية مع حمله لشهادة علمية بشفاعة من طه حسين الذي كان يعرفه قبل ذلك[10].
والتحوّل الثالث: هو تركُه للدِّرَاسة الجامعية برُمَّتِها قبل إتمامه لها، ودخوله في عزلةٍ علميّة، وكان ذلك على إثر خلاف حصل بينه وبين أستاذه في الجامعة طه حسين، بسبب اعتماد طه حسين في محاضراته على فكرة للمستشرق مرجليوث متعلقة بالشعر الجاهلي، مع عدم نسبتها له، ورفضه للإقرار بغلطه[11].
وخلال هذه العزلة العلمية التي استمرت حتى سنة 1936م والتي مارس فيها منهج التذوق على كل ما وقع تحت يده من الكتب التراثية= بدأ محمود شاكر بالإحساس المتصاعد بفساد الحياة الأدبية التي كان قد انغمس فيها.
كما يقول في مقدمة هذه الرسالة (ص6).
ويقول في مقدمة الطبعة الثانية من كتاب المتنبّي: (أحسست أنا والجيل الذي أنا منه، وهو جيل المدارس المصرية، قد تمّ تفريغنا تفريغًا يكاد يكون كاملًا من ماضينا كلّه، من علومه وآدابه وفنونه)[12].
وفي تلك السنة 1936م كتب المؤلف كتاب المتنبّي، وطبّق فيه منهج تذوّق الكلام الذي اهتدى إليه في تلك العزلة، والذي يمتاز عن المناهج الأدبية الفاسدة السائدة في مصر إذ ذاك، وجرّ له هذا الكتاب شهرة في شبابه لم يكن قد حصل عليها قبل نشره.
إذًا؛ سلك محمود شاكر مسلك التعليم المدني مُخالِفًا المسلك الذي سلكه والده وأخوه، ليتاح له التأثُّر والانفعال بظروف التعليم التي صنعها الاحتلال الانجليزي في مصر، إلى أن أحسّ بفساد الحياة الأدبية التي كان قد انغمس فيها، ليتخذ منها موقف الرفض القاطع.
وكانت هذه الرسالة (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) بعد تصرم نصف قرن على تكوّن تلك القناعة لدى المؤلِّف بفساد الحياة الأدبية في مصر، ليُقدِّم المؤلف لأجيال جديدة تفسيرًا مفصَّلًا لتلك القناعة، وذلك بمناسبة إعادة طباعته لكتابه المتنبي للمرة الثالثة، وهو الكتاب الذي طبق فيه منهج التذوق الذي يخالف المناهج الأدبية الفاسدة.
أي أن كتاب المتنبّي الذي صدر سنة 1936م يُعدُّ - بما تضمنه من تطبيق لمنهج التذوّق- بمثابة الإعلان عن مخالفة المناهج الأدبية السائدة في مصر، و(رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) التي قدم بها للطبعة الثالثة من الكتاب سنة 1987م تُقدِّم تفسيرًا لذلك الإعلان، نصيحةً وتحذيرًا لأجيالٍ تالية، من واقع تجربةٍ خاصّة.
2- موضوع ا لكتاب:
في سبيل تحقيق تلك الغاية التي قصدها المؤلف وهي الجواب عن سؤال: (كيف نشأ الخلاف بينه وبين المناهج الأدبية الفاسدة في مصر؟)، قصّ المؤلف قصةً مُوجزَةً تتضمَّنُ تاريخ العلاقة الثقافية بين الأمة الإسلامية والغرب منذ أن هزم المسلمون الرومَ وحتى فترة الاستعمار، وضمَّن تلك القصة نظرات تحليلية في ما يتعلق بالدوافع، أو ما يتعلق بكيفية سير الأحداث وترتُّبِ النتائج على الأسباب.
ويرى المؤلف أن غموض تاريخ هذه العلاقة، أو معرفتها لا على الوجه الصحيح من أهم أسباب فساد الحياة الأدبية حتى وقت تأليفه الرسالة.
(ص34، 37).
يقول المؤلف: (ولا يأتيك الجوابُ صريحًا بيِّنًا أمينًا، إلاّ بَعْدَ أن أقُص عليك قِصَّةَ تاريخ طويلٍ سوف أختصره لك اختصارًا مُوجَزًا أشدَّ الِإيجاز ما استطعتُ، وذلكَ لأن هذا الفَسادَ لم يدخل على ثقافتنا دخولاً يوشِك أنْ يَطْمِسَ مَعَالمها ويطفيء أنوارهَا، إلاّ بعد التصادمِ الصامتِ المخيفِ الذى حَدَث بيننا وبين الثقافة الأوربيّة الحاضرةِ، وإذا نحن أغفلنا هذا التاريخ ولم نتبينه تبيُّنًا واضحًا، فكأننا أغفلنا القضية كلَّهَا، وأسقطناهَا إسقَاطًا من عقولنا).
(ص34).
ويحرصُ المُؤلِّف على إبراز دور الاستشراق في الهزيمة أمام الغرب، لأن ذلك الدور يمثل الجذور التاريخية للفساد الذي عايشه في فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر، الفساد الذي شمل الحياة الأدبية التي قرر المؤلف أن يرفضها رفضًا صريحًا قاطعًا.
وقد استغرق إبراز دور الاستشراق أكثر الرسالة.
يقول المؤلف: (هَمّي هنا مصروف إلى (الاستشراق) لعلاقته الحميمة بفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية).
(ص49).
3- طريقة المؤلف في الكتاب وموارده:
مع إقرار المؤلف بطول حديثه التاريخي فإنه يصفه بأنه وصف مختصر (ص149)، وأنه وصف سريع خاطف (ص50)، وأنه لا يستطيع أن يورد القصة التاريخية كاملةً بتفاصيلها، لذا يطلب من القارىء أن يقنع منه بالاختصار المفهم، واللمحة الدالّة، والإيماء الخاطف (ص79).
وهذا الكتاب كتابٌ نقديّ، إذ هو كما تقدّم يعنى بانتقاد الحياة الأدبية الفاسدة في مصر، ليفسر سبب حصول الخلاف بينه وبينها، ويسلك المؤلف أحيانا أسلوب النقد المباشر، ولعل ذلك يظهر في أمرين:
الأول: نقده اعتماد الأساتذة الذين شكلوا الحياة الأدبية في مصر على دراسات المستشرقين (ص62-78)، ولعله يعني بذلك أول ما يعني أستاذَه طه حسين الذي كان اعتماده على مقالة مرجليوث في الشعر الجاهلي نقطة فاصلة في العلاقة بينهما.
الثاني: انتقادات على بعض المشتغلين بالأدب والتاريخ من المصريين الذين كتبوا في التأريخ لنفس الوقائع التي يذكرها، وقد كان لكتاب (تاريخ الحركة القومية) لعبد الرحمن الرافعي النصيب الوافر من تلك الانتقادات، إذ وصفه بأنه يكتب التاريخ بعين أروبية تخالطها نخوة وطنية (ص93)، ويصفُه بالمؤرخ المُدَجَّن (ص139، 143)، ويحّذر من كتابه المذكور أشدَّ الحذر (ص124)، وينتقد تعليقَه على زواج مينو خليفة «نابليون» الثاني في مصر من ابنة أحد المصريين (ص95)، وينتقد ترجمته لإحدى رسائل «نابليون» (ص109-111)، وينتقد نقله عن أحمد حافظ عوض دون أن يعزو له (ص109)، وينتقد تأييده للبعثات العلمية لأوروبا في عهد محمد علي (ص139)، ووصفه لمدرسة الألسن التي أنشأها الاستشراق في مصر (ص145).
ومن هذا الباب أيضًا: انتقاد المؤلف إيرادَ زكي نجيب محمود لقصة يزعم أنها حصلت بين شيوخ من الأزهر و«نابليون» بعد احتلاله لمصر (ص91-92، 119)، وينتقد كلامًا لطه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي (ص29-30).
ويحذّر المؤلف من الاغترار بسطوة بعض الألفاظ الشائعة في الحياة الأدبية الفاسدة مثل: (الجديد والقديم، والأصالة والمعاصرة، والتجديد والتقدم، والثقافة العالمية، والحضارة العالمية، والتخلُّف والتحضُّر).
(ص75،80، 87، 118)
وفي الكتاب عناية بشرح بعض المفاهيم المستعملة في المجال الأدبي مثل مفهوم (المنهج) و(ما قبل المنهج) (ص21-33)، ومفهوم الثقافة (ص71-72).
وفيه إشارات فقهية قليلة، لا يوردها المؤلف لذاتها وإنما يوردها لتفسير حدثٍ تاريخي، فمن ذلك أن المؤلف علّق على توصية «فانتور» المستشرق بتدجين المشايخ الكبار في القاهرة خلال حملة «نابليون» على مصر، مفسِّرًا مخالفة الجماهير لهؤلاء المشايخ، فقال: (ومسكين هذا الجزار، فإن تَدجين المشايخ الكبار في الديوان لم يمنع الثورة أن تقوم، وذلك لأن المشايخ الكبار لهم عند عامة المسلمين هيبةُ العلم ، وطاعتُهم واجبةٌ علينا فيما هو طاعةٌ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن هيبة العلم ليست بمانعة جماهيرَ الأُمَّة من عصيانهم وترك طاعتهم إذا هم خالفوا صريحَ أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الغزاه لدار الاسلام، فإن قتال الغزاة عند المسلمين واجبٌ وفرضُ عينٍ على كل قادرٍ على القتال، إلا في حالةٍ واحدة: إلا أن يخافوا أن يصطلمهم العدو لقلَّة عددهم وكثرة عدد العدو (اصطلمهم العدو: استأصل شأفتهم وأبادهم)، فجائزٌ عندئذٍ أن يلقوا إليهم السلم (ألقى إليه السلم: استسلم له وصالحه)، بيد أن في قتالهم الشهادة ، وهي إحدى الحُسنين (الحسنيان النصر أو الشهادة)).
(ص105-106).
وهذا التقرير الفقهي الذي ذكره المؤلف هو تقرير الإمام الشافعي رضي الله عنه في «كتاب الأم»، حيث قال: (ولا خيرَ في أن يُعطِيهم المُسلمون شيئًا بحالٍ على أن يكفُّوا عنهم؛ لأنَّ القتل للمسلمين شهادة، وأن الإسلام أعز من أن يُعطَى مُشركٌ على أنْ يكفَّ عن أهله؛ لأنَّ أهلَه قاتِلَين ومقتُولين ظاهرون على الحق، إلا في حال واحدة، وأخرى أكثر منها، وذلك أن يلتحم قومٌ من المسلمين فيخافون أن يصطلموا لكثرة العدو وقلَّتهم، أو خَلَّةٍ فيهم، فلا بأس أن يعطوا في تلك الحال شيئًا من أموالهم على أن يتخلصوا من المشركين؛ لأنَّه من معاني الضرورات، والضرورات يجوزُ فيها ما لا يجوز في غيرها، أو يؤسر مسلم فلا يُخلَّى إلا بفدية، فلا بأس أن يُفدى..) [13].
وهذا التقرير يتضمن تفسير الثورة على الفرنسيين لدى احتلالهم مصر تفسيرًا دينيًّا، أي أنهم تحركوا بباعث ديني، يعتمد على التأصيل الشرعي في تلك الحالة، وهو بذلك يقرر اتصال الأمة إذ ذاك بثقافتها.
وليس في كون هؤلاء المشايخ المُدجَّنِين من الأزهر ما يدل على أن الأزهر إذ ذاك تخلى عن كونه مركزًا للثقافة الإسلامية المتكاملة، كما يصفه المؤلف، إذ لم يوافقهم على موقفهم هذا عامة طلبة الأزهر، كما يقرر المؤلف.
ويذكر المؤلف أيضًا تفسيرًا فقهيًّا لموقف المشايخ الذين سالموا الاحتلال الفرنسي، ودخلوا في الديوان، فيقول: (والذي دعا هؤلاء للاستجابة خوفهم على مصيرِ القاهرة التي تُرِكَت بلا حامٍ يحميها بعد أن خذلَها حُماتُها من صناديد الحرب والقتال، وهم المماليك المصرية، فلم يَرَ المشايخُ سبيلًا إلى حقنِ دماء العامَّة رجالًا ونساء إلا المُهادَنة، وإلا الصبر والسكينة، حتى يكشف الله هذه الغُمَّة بما شاء سبحانه).
(ص134).
أما الكتاب التاريخي الذي يستشهد به المؤلف وينقل منه ما يفيد في رسم الصورة التاريخية التي قصدَ إيصالها للقارىء: فهو «تاريخ الجبرتي» إذ ذكره في مواطن متعددة (ص83، 90، 98، 124- 128، 131).
وينقل في موطن واحد (ص132-133) من كتاب «المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم» للمستشرق «وليم إدوارد لين».
ويثني على كتاب «ودخلت الخيل الأزهر» لمحمد جلال كشك.
وقد رجع المؤلف إلى كتاب عبد القاهر الجرجاني «الرسالة الشافية» وأورد منه نصًّا يدلُّ على تأصيله مبدأ التذوّق في النثر والشعر.
4- عرض مضامين الكتاب:
القسم الأول من الرسالة يتحدّث فيه المؤلف عن منهج التذوّق الذي اهتدى إليه في فترة العزلة العلمية التي سبقت الإشارة إليها، فيتحدّث عن تطبيقه هذا المنهج بعد أن أحس بفساد المناهج الأدبية في مصر، وأنه طبقه على كل ما وجده من كلام في كتب التراث، وأن هذه التجربة أمدّته بخبرات جمة متباينة متشعبة، وفرغ منها سنة 1935م، وأن في كلام بعض العلماء السابقين ما يدلّ على هذا المنهج، ونقل كلامًا للجرجاني فيه إجراء منهج التذوّق على كل كلام، وليس الشعر فقط.
وفي شرح منهجه في تذوّق الكلام يقول المؤلف: (ففي نظم كلِّ كلام وفي ألفاظه، ولا بُدَّ، أثرٌ ظاهرٌ أو وَسْمٌ خفيٌّ من نفس قائله وما تنْطوى عليه من دَفين العواطفِ والنوازعِ والأهواء من خيرٍ وشرٍّ أو صدق وكذب = ومن عقْل قائله، وما يكمُن فيه من جَنينِ الفِكْر، (أي مستوره) ، من نظرٍ دقيقٍ، ومعانٍ جليَّةٍ أو خفيَّةٍ، وبراعة صادقةٍ ، ومهارةٍ مُمَوَّهةٍ، ومقاصدَ مَرْضيّةٍ أو مُسْتكرهةٍ.
فمنهجي في «تذوُّق الكلام»، معنِيٌّ كل العناية باستنباط هذه الدفائن، وباستدراجها من مكامنها، ومعالجةِ نظْم الكلامِ ولفظه معالجةً تُتيح لي أن أنْفُضَ الظَّلامَ عن مصُونها، وأُمِيط اللثامَ عن أخفَى أَسْرارِها وأغْمَضِ سرائرها.
وهذا أمرٌ لا يستطاع ولا تكون له ثَمَرةٌ، إلاّ بالأناةِ والصَّبْرِ، وإلاّ باستقصاء الجُهْد في التثبُّت من معاني ألفاظ اللغة، ومن مَجَاري دلالاتها الظاهرةِ والخفيّة، بلا استكراهٍ ولا عجلةٍ، وبلا ذهابٍ مع الخاطر الأوّل، وبلا توَهُّمٍ مُسْتَبِدٍّ تُخضِعُ له نَظْمَ الكلام ولَفْظَه).
(ص15-16).
ويتحدّث عن تطبيقه هذا المنهج أول مرة في «كتاب المتنبي»، وأن جمهرة الأدباء والقارئين يومئذ لمسوا تميز منهجه عن المناهج الأدبية السائدة في مصر إذ ذاك، لكنهم لم يبحثوا في هذا المنهج، فطمس منهجه وبقي مغمُورًا، لكنه هو لم يفارق هذا المنهج، بل سار عليه في كل ما كتبه خلال السنوات الخمسين التي تلت نشر «كتاب المتنبي» للمرة الأولى.
والقسم الثاني من الرسالة وهو الذي يتضمن موضوعها الرئيس، يقرر المؤلِّف أولًا أن دافع اليقظة التي حصلت في أوروبا وخروجها من حقبة القرون الوسطى إنما هو البغضاء المشتعلة في غور العظام الأوروبية للعالم الإسلامي، سيما بعد فتح القسطنطينية (ص41-42)، إذ حركت هذه البغضاء الهمم نحو التسلّح بسلاح العلم الذي هيأ للمسلمين ما هيّأ من أسباب الظفر والغلبة.
ولبيان كيف تكوّنت هذه البغضاء في القلوب الأوروبية تجاه العالم الإسلامي، وكيف استفاد الأروبيون من تجاربهم السابقة في الصراع مع العالم الإسلامي = يعرض المؤلف أربعَ مراحل من الصراع بين الإسلام وبين «المسيحية الشمالية»، فيقول: (المرحلةُ الأولى: صراعُ الغَضَب لهزيمة المسيحية في أرض الشام ودخولِ أهلها في الإسلام، فبالغضب أمَّلت اختراق دارِ الإسلامِ لتَسْترِدَّ ما ضاع، تدفَعُها بغضاءُ حَيَّة متسامحة، لم تمنع ملكاً ولا أميرًا ولا راهباً أن يمدَّ المسلمين بما يطلبونَة من كتب علوم الأوائل (الإغريق)، التي كانت تحت يد المسيحية يعلوها التراب.
وظلَّ الصراع قائماً لم يفتر، أكثر من أربعة قرونٍ.
المرحلة الثانية: صراع الغضب المتفجِّر المتدفّق من قلب أوربة، مشحوناً ببغضاء جاهلةٍ عاتية عنيفةٍ مكتسحةٍ مدمِّرةٍ سفَّاحةٍ للدماء، سَفَحت أوّل مَا سفَحَت دماءَ أهل دينها من رعايا البيزنطية، جاءت تريدُ هى الأخْرَى، اختراقَ دار الإسلام، وذلك عهد الحروب الصليبية الذي بَقى في الشام قَرنين، ثم ارتدَّ خائبًا إلى مواطنه في قلب أوربَّة.
المرحلة الثالثة: صِراع الغضب المكظُوم الذي أورثه اندحارُ الكتائب الصليبيَّة، من تحتِه بغضاء متوهِّجة عنيفة، ولكنَّها متردِّدَة يكبحها اليأس من اختراق دار الإسلام مرة ثالثة بالسلاح وبالحرب، فارتدعَتْ لكي تبدأ في إصلاح خَلَل الحياة المسيحية، بالاتَكاءِ الشديد الكامل على علوم دار الإسلام، ولكي تستعدَّ لإخراج المسيحيّة من مأزِقٍ ضنْكٍ مُوئس، وظلت على ذلك قرناً ونصف قرنٍ.
وهذه المراحل الثلاث، كانت ترسف في أغلالِ القرون الوسطى، أغلالِ الجَهْلِ والضيَّاع.
ولم تصنع هذه المراحل شيئاً ذا بالٍ.
المرحلة الرابعة: صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينية يزيده اشتعالًا وتوهُّجا وقود من لَهيب البغضَاء ِوالحِقْد الغائر في العِظام على " التّرك "، (أى المسلمين)، وهُم شبح مُخِيف مندفع في قَلْبِ أوربّة، يُلْقِي ظِلَّه على كُلِّ شيء، ويفزِّع كلَّ كائن حيّ أو غيرَ حَيّ بالليل وبالنَّهارِ.
وإذا كانت المراحلُ الثلاثُ الأولَى لم تصنع للمسيحيّة شيئاً ذا بالٍ، فصراع الغضب المشتعل بلهيبِ البغضاء والحقد هو وحدَهُ الذي صنع لأوربة كل شيء إلى يومنا هذا.
صَنع كُلَّ شىءٍ، لأنه هو الذى أدَّى إلى يَقَظةٍ شاملة قامت على الإصرارِ، وعلى المجاهدة المثَابِرَةِ على تحصيل العلم وعلى إصلاح خلَل الحياة المسيحية).
(ص44-45).
وعند أول بدء اليقظة؛ يقرر المؤلف أن أهداف الأوروبيين قد تحددت، وأنهم علموا أنهم مقبلون على حرب صليبية رابعة (ص46)، وأكبر تلك الأهداف شأنًا (اختراقُ دار الِإسلام، ثم تمزيقُها من قلبِها، ثم الظفر بالكنوز الغالية التي كانت، ولم تَزَلْ، تراوِدُ كلَّ قلبٍ ينبض في أوربة بأحلامٍ شَرِهةٍ مسعورةٍ إلى الغنى والثروةِ والمتاعِ، غَرَستْ بذورَها في أعماق النفوس أحاديثُ العائدين من حملات الحروب الصليبية القديمة).
(ص51).
أمّا الوسائل لتحقيق تلك الأهداف: فيقرر المؤلف استفادتهم من تجاربهم السابقة في الصراع مع دار الإسلام في تنحية وسيلة السلاح للظفر في ذلك الصراع.
يقول: (أمّا (الوسائل)، فقد وُضِعتْ لها قواعد راسخة تجنبُهم أخطاءَ المراحلِ الثلاثِ السابقة التي منِيَت بالِإخفاق.
كان على رأس هذه القواعد: تنحيَة السلاحِ جانباً، بعد أن ثبت لهم إخفاقه في اختراق دار الإسلام، لأنّه يستثير ما لا يعلمونَ مغبَّته من سوءِ العواقب، وكفى بالتجارب الثلاث الغابرة وَاعظاً.
فمى يومئذِ صارتِ القاعدة الراسخة في سياسة أوربّة هى اجتنابَ استثَارةِ هذا العالم الضَّخْم المُبْهَم الذى كان (الترك) هم طلائعَه المظفَّرةَ الناشبةَ أظافيرُها في صميم المسيحية الشمالية في قلب أوربة = ثم العملَ الدائبَ البصيرَ الصامتَ الذى يُتيح لهم يوماً مَّا تَقْليمَ هذه الأظافِر وخَلعَها من جذورها = ثم استنفَادَ قوَّته بالمناوشةِ والمطاولة والمثابرة، بالدهاء والمكر والسياسة والصبر المتمادي، حتى يأتي عليه يوم لا يملك فيه إلا أن يستكينَ ويستسلمَ، وليكُنْ كل ذلك من وراءِ الغَفْلة، وبالدهاء والرفْقِ تارةً، وبالتنمُّر والتكشير عن الأنيابِ تارة أخرى، وكذلك كان ما كانَ، وما هو كائن إلى هذه الساعة، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ).
(ص51).
ونحوه (ص46).
أما مدد اليقظة التي حصلت في أوروبا فيقرر المؤلف أنه كله كان مستجلبًا من علوم دار الإسلام.
وليتمكن الأوروبيون من تحصيل هذه العلوم تكوّنت لديهم «طبقة المستشرقين»، وهنا يبدأ المؤلف بالحديث عن الاستشراق والمستشرقين، الذي هو أهمّ مقاصد هذه الرسالة.
يعرّف المؤلف بدور المستشرقين فيقول: (فكانَ من الأهداف والوسائل، كما ذكرت قبلُ، بعْثَةُ أعدادٍ كبيرة ممَّنْ تعلَّموا العربيةَ وأجادوها إجادةً مَّا، تخرج لتسيح في أرض الِإسلام، وتجمع الكُتب شراءً أو سَرِقةً، وتلاَقي الخاصَّةَ من العلماءِ، وتُخَالطُ العامة من المثقَّفين والدَّهماء، وتُدَوّنُ في العقول وفي القراطيسِ ما عَسَى أن ينفعهم في فهم هذا العالم الذي استعصى على المسيحية واستعْلَى قرونًا طوالاً.
يخرجون أفواجاً تتكاثر على الأيَّام، ويجوبون أرجاء هذا العالم، ويعودون لإتْمام عملين عظيمين:
إمدادِ علماءِ اليقظة بهذه الكنوز النفيسة من الكتب الَّتي حازوهَا أو سطَوْا عليهِا، وإطلاعِهم على ما وقفوا عليه فيها، باذلين كلّ جُهْدٍ ومَعونةٍ في ترجمتها لهم، وفي تفسير رُموزها بقدر ما استفادوا من العلم بها.
وأيضًا: إطلاعِ رُهْبان الكنيسة وملوكها على كُلِّ ما علموا من أحْوال دار الإسلام، وما رأوه عياناً فيها، وما لاحظوهُ استبصارًا).
(ص45-46).
ثم يُعظِّم المؤلف من دورهم فيقول: (أهمُّ وأعظَمُ طبقةٍ تمخَّضتَ عنْها اليَقَظةُ الأوربية، لأنهم جُنْدُ المسيحية الشمالية، الذين وَهَبُوا أنفُسهم للجهادِ الأكبر، ورضُوا لأنفُسهم أن يظّلوا مَغْمورين في حياةٍ بدأت تَموج بالحركة والغِنَى والصيتِ الذائع، وحَبسُوا أنفسهم بين الجدْران المختفية وراءَ أكدْاس من الكتُب، مكتوبةٍ بلسانٍ غيرِ لسان أمَمهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كُلّ اللَّهيب المُمِضّ الذى في قلب أوربَّة، والذى أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام، ولكن لا همَّ لهمْ ليلاً ولا نهارًا إلاّ حيازةُ كنوزِ علم دار الإسلام بكُلِّ سبيلٍ، تتوهَّجُ أفئدتهم ناراً أعتَى من كُلّ ما في قُلوب رُهبان الكنيسة، ولكنهم كانوا يملكونَ من القدرة الخارقة أن يخالطوا أهل الإسلام في ديارهم، وعلى وجوههم سِيمياءِ البراءة واللين والتواضع وسلامة الطوية والبِشْر).
(ص48).
ويصف المؤلف فضلهم على رجال الاستعمار والتبشير فيقول: (وبفَضل هؤلاءِ المتبتِّلين المنقطعين عن زُخْرف الحياة الجديدة، وبفضلهم وحدهُم، وبفَضْل ملاحظاتهم التي جمعوهَا من السياحة في دار الإسلام ومن الكتب، وبذَلوها لملُوك المسيحية الشمالية، نشأت طبقَةُ السَّاسة الذين يُعِدُّون ما استطاعوا من عُدَة لردّ غائلة الِإسلام ثُمَّ قَهْرِه في عُقر دياره، ولتحقيق الأحلام والأشواق التي كانت تُخامرُ قلبَ كُلِّ أوربي، أن يظفَر بكنوز الدُّنيا المدفونة في دار الإسلام وما وراء دار الإسلام وهم الذين عرف فيما بعد باسم رجال (الاستعمار).
وبفضلِهِم وحدِهم أيضًا، وبفضْل ملاحظاتهم التي زوَّدوا بها رُهْبان الكنيسة، ثارت حميَّة الرهبانِ، ونشأت الطائفة التي نَذَرت نَفْسها للجهادِ في سبيل المسيحيّة، وللدُّخول في قلب العالم الإسلامىّ لكى تحَوِّلَ مَنْ تستطيع تحويله عن دينه إلى الملّة المسيحية، وان ينتهي الأمرُ إلى قهْر الِإسلام في عُقْر داره، = هكذا ظنّوا يومئذٍ = وهذه الطائفة هي التي عُرِفت فيما بعدُ باسمِ رجال (التبشير) ).
(ص48-49).
ويختار المؤلف في أكثر من موطن في الرسالة تلقيب المستشرقين بـ(حملة هموم المسيحية الشمالية) (ص86، 112، 114، 117، 118، 124).
ويصف الاستشراق بأنه (عين الاستعمار) (ص87، 117).
ويقرر المؤلف أنَّ من شرط المستشرق أن يتصف بصفتين إضافة إلى معرفته باللسان العربي، يضمن بهما رسوخ باعث الصراع مع العالم الإسلامي في قلبه: (فكلُّ دارس منهم مأمون عند كل أوربي، مأمون على ما يقوله، مُصدَّق فيما يقوله، في أمور لا سبيل لأحد منهم إلى معرفتها، لأنها تتعلق بأقوام لسانهم غير لسانهم، ولا يقوم بها إلا دارس صابر ذو معرفة بهذا اللسان الغريب، متصف بصفتين لابد منهما حتى يكون مصدقًا:
الصفة الأولى: أن في قلبه كل الحمية التى أثارها الصراع ين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام الممتنعة على الاختراق على مدى عشرة قرون على الأقل.
الصفة الثانية: أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة الأوربين وعامتهم، وملوكهم وسوقتهم، من الأحلام البهيجة والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار الإسلام من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة).
(ص57-58).
ثم يتحدّث المؤلف عن غاية الدراسات الاستشراقية، وهي غاية دعت إليها الخشية من انبهار الأوروبيين بالحضارة الإسلامية، كما انبهر بعض أسلافهم.
(ص57، 58، 60)، يقول: (كتبوا وألَّفوا وصنَّفوا، لكن الهدف واحد لا غير: هو تصوير الثقافة العربية الإسلامية وحضارة العرب والمسلمين، بصورة مقنعة للقارئ الأوربيّ، وبأسلوب يدلُّه على أن كاتبها قد خبر ودرس وعرف وبذل كل جهد في الاستقصاء، وعلى منهج علمي مألوف لكل مُثقَّف أوربي، وأنه وصل إلى هذه النتيجة التي وضعها بين يديه، بعد خبرة طويلة وعرق وجهد وإخلاص، حتى لا يشك قارئ في صدق ما يقرؤه، وأنه هو اللباب المصفَّى من كل كدر، والمبرَّأ من كل زيف، وأنه الحق المبين والصراط المستقيم).
(ص59).
ويقول: (وبيَّن لك الآن بلا خفاء أنَّ كتب «الاستشراق» ومقالاته ودراساته كلها، مكتوبة أصلاً للمثقف الأوربي وحده - وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفَّقُ إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التي يستقبلها زحف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب - وأن تكون له نظرة ثابتة هو مقتنع كل الاقتناع بصحتها، ينظر بها إلى صورة واضحة المعالم لهذا العالم العربي الإسلامي وثقافته وحضارتها وأهله - وأن يكون قادراً أيضاً على خوض ما يخوض فيه من الحديث مع من سوف يلاقيهم أو يعاشرهم من المسلمين، وفي عقله وفي قلبه وفي لسانة وفي يقينه وعلى مد يده، معلومات وافرة يثق بها ويطمئن إليها ويجادل عليها، دون أن تضعف له حمية، أو تلين له قناة، أو يتردَّد في المنافحة عنها أو يتلجلج، أيًا كان الموضوع الذي تدفعه المفاوضة إلى الخوض فيه).
(ص61).
ثم يذكر المؤلف كلامًا طويلًا (ص62-78) يقرر فيه عدم استحقاق الدراسات الاستشراقية للاحترام، وأن توصف بأنها دراسات علميّة، وهو في ذلك يسير إلى الغاية التي من أجلها كتب كتابه، وهو انتقاد الحياة الأدبية في مصر، وبيان فسادها، تلك الحياة التي يسود فيها اعتبار الدراسات الاستشراقية (عملًا عمليًّا أو بحثًا منهجيًّا نسترشد به نحن في شؤون لغُتِنا وثقافَتِنا وتاريخِنَا وديننا) (ص70).
ولا يخفى أن هذا النقد يتوجّه في أول ما يتوجّه له لطه حسين الذي اعتمد على مقالة مرجليوث في الشعر الجاهلي، وجرى بينه وبين المؤلف على إثر ذلك ما جرى مما تقدمت الإشارة إليه.
وحاصل هذا التقرير أن الدراسات الاستشراقية تفتقد لشروط ثلاثة يسميها المؤلف شروطًا (للنزول في ميدان المنهج وما قبل المنهج)، يقول: (وجِماعُ الشروط كلها في هذا الشأن منُوطٌ بثلاثة أمور: لغته التي نشأ فيها صغيراً، وثقافة أمَّته التي ينتمي إليها وارتضع لِبَانها يافعاً، وأهوائه التي يملك ضبطها أو لا يملكه بعد أن استوى رجلاً مُبِيناً عن نفسه).
(ص65).
ويفصل افتقاد المستشرق لهذه الشروط فيقول: (المستشرق دخل في لغة هو فيها هجين كل الهجنة، وفي ثقافة هو غريب عنها كل الغربة ودخوله هذا عمل مستشنع في ذاته لأنه اجتراء على دخول هذا الميدان بغير حقه، ولا يسمح بمثله في ثقافة أمته هو نفسه لأنه لا يملك شيئًا ذا بال من مسوغاته، ولا تسمح به طبيعة ما يمكن أن يُسمَّى بحثًا او دراسةً كما بينت ذلك آنفًا، أما اللغة فغير ممكن أن يكون فيها إلا طالبًا شاديًا يعرفهما معرفة ما لا تسمح بدخوله تحت شرطها كما بينت آنفًا وأما الثقافة وشرطها أشد وأقسى فيحول بينه وبينها أهوال لا يجتازها الا من عرف اللغة معرفة أستاذ متمكن ناشيء في هذه الثقافة وفي لغتها).
(ص76).
(والاستشراق من فرع رأسِه إلى أخمص قدميه غارقٌ في الأهواء، والثقافة الأوروبية والحضارة الأوروبية تستقبلُ الأهواء بلا نكير ولا أنفه، بل هي تسوِّغ استعمال رذيلة الأهواء في الدنيا وفي الناس بلا حرج لأنها حضارة قائمة على المنفعة والسلب ونهب الأمم وإخضاعها بكل وسيلة لسلطانها المتحضِّر، والدلائل على ذلك لا تخفآ على بصير ذي عينين تبصران).
(ص78).
ينتقل المؤلف للحديث عن حال المسلمين في وقت بدء النهضة الأوروبية؛ فيتحدّث عن دخول المسلمين في سِنَةٍ لذيذة أورثتها نشوة النصر؛ أي فتح القسطنطينية، بينما دخلت أوروبا كلها في عزيمة حاسمة لتردّ عن عرضها العار، فكانت يقظَةً محسوسة في جانبٍ، وغفوةً لا تُحَسُّ في جانبٍ (ص81)، (ص111).
ثم يتحدّث عن هبوب أشتاتٍ من رجالٍ من جوف هذه الغفوة الغامرة، محاولين إيقاظ الجماهير المستغرقة في غفوتها، وأن يُدخِلُوا الأُمَّة في عصر النهضة؛ نهضة دار الإسلام من الوسن والنوم والجهالة والغفلة عن إرث أسلافهم العظام، وذكر منهم خمسة أعلام، والمجال الذي اشتغل فيه كل منهم.
يقول: (هب البغدادي (عبد القادر بن عمر، صاحب خزانة الأدب) في منتصف القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي فألَّف ما ألف ليرُدَّ على الأمة قدرتها على التذوق تذوق اللغة والشعر والادب وعلوم العربية، وهب ابن عبد الوهاب يكافح البدع والعقائد التي تخالفُما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد وهي ركن الإسلام الأكبر ولم يقنع بتأليف الكتب، بل نزل إلى عامة الناس في بلاد جزيرة العرب وأحدث رجَّةً هائلة في قلب دار الاسلام وهبَّ المرتضى الزبيدي يبعث التراث اللغوي والديني وعلوم العربية وعلوم الإسلام ويُحيي ما كان يخفَى على الناس بمؤلفاته ومجالسه، وهب الشوكاني الزيدي الشيعي محييًا عقيدة السلف وحرَّم التقليد في الدين وحطَّم الفرقة والتنابذ الذي أدَّى إليه اختلاف الفرق بالعصبية، أما خامسهم وهو الجبرتي الكبير فكان فقيهًا كبيرًا نابهًا عالمًا باللغة وعلم الكلام وتصدَّر إمامًا مُفتيًا وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولكنَّه في سنة 1144 هـ (1731 م) ولَّى وجهَه شطرَ العلوم التي كانت تراثًا مُستغلقًا على أهل زمانه فجمع كتُبَها من كُلِّ مكان وحرَص على لقاء من يعلم سر ألفاظها ورموزها، وقضى في ذلك عشر سنوات (1144 - 1154 هـ) حتى ملك ناصيةَ الرموز كلها في الهندسة والكيمياء والفلك والصنائع الحضارية كلها، حتى النجارة والخراطة والحدادة والسمكرة والتجليد والنقش والموازين وصار بيته زاخرًا بكل أداة في صناعة وكل آلة، وصار إمامًا عالمًا أيضًا في أكثر الصناعات ولجأ إليه مهرة الصناع في كل صناعة يستفيدون من علمه ومارس كل ذلك بنفسه وعلَّمَ وأفاد حتى عَلَّم خدَمَه في بيته).
(ص83).
ثم يقارن المؤلّف بين النهضة التي أحدثها هؤلاء الرجال وبين النهضة الأوروبية فيقول: (ونصيحةٌ وتنبيه: لا تنظر إلى الفرق الهائل الكائن اليوم بين الشمال المسيحي والجنوب الإسلامي، فإنك إن فعلتَ ضللتَ عن الحقيقة، والحقيقةُ يومئذٍ أنَّ الفرق بيننا وبينهم كان خطوة واحدة تُستَدْرَك بالهمَّة والصبر والدأب والتصميم لا أكثر، بل أكبر من ذلك فإنَّ اليقظة الأوروبية كانت بعدُ في أول الطريق، وتتكىء اتِّكاءً شديدًا على ما كان عندنا من العلم المسطور في كتبنا برموزه التي تحتاج الى استبانةٍ وفهمٍ، وعلى العلم الحيِّ الذي عند أهل دار الاسلام).
(ص84-85).
يعود المؤلف ليُبرز دورَ الاستشراق في الصراع بين الإسلام والمسيحية الشمالية، فيقصّ حكاية وأد اليقظة الوليدة في ديار الإسلام؛ وهو في ذلك يسير إلى الغاية التي من أجلها كتب كتابه، وهو انتقاد الحياة الأدبية في مصر، التي عميت عن هذه الحكاية، التي تمثل جذور قضيتنا؛ كما يقول المؤلف.
(ص118-120)، كما أن هذه الحياة الأدبية جعلت حملة «نابليون» على مصر التي كان قصدها وأد هذه اليقظة= بدايةَ عصر النهضة الحديثة في مصر(ص91،94، 96)، وفي الحياة الأدبية الفاسدة تُعدّ الحكومةَ التي أنشأها «نابليون» وسماها الديوان، نظامًا حديثًا جاء ليصلح فساد نظام المماليك المصرية.
(ص93).
يتحدّث المؤلف – أوَّلًا- عن (نذير الاستشراق) للمسيحية الشمالية، ذلك أن المستشرقين الذين كانوا يجوبون دار الإسلام، حتى إنهم استطاعوا أن يكونوا فيها جاليات صغيرة عمادها رجال يحترفون التجارة، ويعرفون العربية وغيرها من لغات دار الإسلام، ويقيمون هناك مددًا طويلة = هبُّوا هبَّة الفزع الأكبر من هذه اليقظة، فتسارعوا ينقلون كل صغيرة وكبيرة مما هو جار تحت أعينهم في دار الإسلام، بينًا جليًّا مشفوعًا بمخاوفهم وملاحظاتهم ونصحهم وإرشادهم تحت أبصار ملوك المسيحية الشمالية وأمرائها ورؤسائها وقادتها وساستها ورهبانها، وبصَّرُوهم بالعواقب الوخيمة المخوفة من هذه اليقظة الوليدة التي بدأت تنساح في أرجاء دار الاسلام.
(ص86، 122).
يقول المؤلف: (ولو تأمَّلتَ قليلا تواريخَ تقديمِ هذه التقارير والمُذَّكرات منذ عهد «ليبنتز» سنة 1672م ثم جاء بعد مئة عام من طمع الدوق «دي شوازل» في مفاوضة تركية في امر التنازل عن مصر لفرنسا في سنة 1769م وبعده الكونت «سان بريست» والكونت «دي توت» وتقاريرهم منذ سنة 1786م الى سنة 1783م وبعدهما المسيو «مجالون» من سنة 1793 - 1797 قبل حملة «نابليون» بعام واحد، بل قبل ذلك أيضًا حضور طلاب الإفرنج وهم المستشرقون الى مصر وقراءتهم علم الهندسة على الشيخ الجبرتي الكبير في سنة 1159 هـ/ 1746م = لو تأمَّلت هذه التواريخ لرأيتها جميعًا واقعة وقوعًا تامًّا في عصر يقظة دار الاسلام ونهضتها الصحيحة التي تولى أمرها الخمسة الكبار من رجالنا).
(ص116-117).
ويتحدّث المؤلف - ثانيًا - عن الطريق الذي سلكته المسيحية الشمالية استجابةً لنذير الاستشراق فيقول: (وببديهة العقل لم يكن للمسيحية الشمالية يومئذٍ خيار، طريقٌ واحد لا غير، هو العمل السريع المُحكَم واهتبالُ الغفلة ِ المُحيطة بهذه اليقظة الوليدة، ومعاجلتُها في مهدها قبل أن يتم تمامها، ويستفحل أمرها، وتصبح قوَّةً قادرة على الصراع والحركة والانتشار).
(ص86).
وهنا يتحدّث المؤلف عن تحرُّكين عسكريَّين قامت بهما المسيحية الشمالية استجابةً لنذير الاستشراق، لوأد اليقظة في دار الإسلام.
أمَّا الأوَّل: فقامت به انجلترا، وهو احتلال سواحل الجزيرة العربية.
وأمَّا الثاني: فقامت به فرنسا، وهو حملة «نابليون» على مصر.
يقول: (أمَّا إنجلترا فأسرع مُستشرقوها إسراعًا حثيثًا الى سواحل جزيرة العرب الشرقية، حيث قام محمد بن عبد الوهاب، وبالدهاء والمكر والدسائس جاءت في زي الناصر والمعين لتتدسس الى يقظة ابن عبد الوهاب، لتتخذ عندها يدًا وبها تسيطر عليها وتحتويها، ومن وراء ستار كانت تؤلِّب تركيَّة وتؤلِّب جاراتِها وتخوِّفُهم لتطوق اليقظة تطويقًا يحول بينها وبين الانتشار، أما فرنسا التي طردتها إنجلترا من الهند كلها سنة 1761م/ 1175 هـ فآبت الى ديارها تلعقُ جراحها، وجعلت تعد العدة وتُفكِّر في اختراق دار الاسلام في مصر لوأد اليقظة المخوفة العواقب التي بعثها البغدادي والزبيدي والجبرتي الكبير في مصر، فهي يقظة يخشى أن تؤدِّي إلى يقظة دار الاسلام كلها بما فيها اليقظة المتفجرة المتحركة الجديدة في جزيرة العرب، فإذا تم اندماج اليقظتين فلا يعلم الا الله كيف يكون المصير).
(ص118).
ويقول: (والذي لا شكَّ فيه أنَّ جُذور قضيتنا كامنة في نذير الاستشراق للمسيحية الشمالية والذي أدَّى إلى انقضاض الفتى الصليبي المُحترق المبير «نابليون» بغتةً على دار الاسلام في مصر لوأد اليقظة والنهضة ومعاجلتها في مهدها قبل أن يشتدَّ عودُها وتستفحل، فيسفح الدماءَ سفحًا لم يفعل مثله جنكيز خان).
(ص119).
ويذكر المؤلف الأحداث العامة لحملة «نابليون» على مصر، التي بدأت سنة 1798م، فيذكر إنشاء «نابليون» الديوان، وبقاءَه في القاهرة سبعة أشهر، ثم خروجه منها إلى الشام سنة 1799م، وقتاله فيها ثلاثة أشهر، وحصاره عكا التي عصيت عليه، ثم رجوعه إلى فرنسا في نفس السنة، وجعله كليبر خليفة له بمصر، ثم الثورة التي قام بها المصريون ضد الفرنسيين شهرًا كاملًا في سنة 1800م، ثم مقتل كليبر على يد سليمان الحلبي في السنة نفسها، وخلافة مينو له، وادعائه الإسلام، ثم الجلاء الأخير للفرنسيين سنة 1801م.
(ص90-96).
ويرى المؤلف أن هذه الحملة أدت غايتها في وأد اليقظة - أو كادت- وذلك من خلال أمرين:
سرقة كل نفيس من الكتب، فكان همهم الأكبر السطو على كتب علوم الحضارة، ثم على كتب التاريخ، ثم على كتب الآداب، وبذلك حققوا الغاية، وهي تجريد دار الإسلام من أسباب اليقظة.
(ص97، 99).
يقول المؤلف: (ودليل السرقة قائمٌ في جميع مكتبات أوربة صغيرها وكبيرها في فرنسا وإنجلترا وهولندة وروسيا وغيرها من البلدان، وفي الأديرة والكنائس وفي جميع أرجاء العالم المتحضر).
(ص97).
والأمر الثاني: تشتيت شمل تلامذة الجبرتي والبغدادي والزبيدي، يقول المؤلف: (وبلا شك كانت سنوات الحملة الثلاث، وما أصاب القاهرة فيها من التَّدمير الشنيع، وسفح الدماء، وما عمَّ أحياءها من الثوارت والفِتَن الكبار والصغار، ثم قمعها بفُجُور وشراسَةٍ وتحضُّر أيضًا، كان ذلك كله حدثًا مُتمادِيًا كافيًا أدَّى إلى تشتيت شمل تلامذة الجبرتي والبغدادي والزبيدي، وتفرُّقهم في الأرض، وضياعهم في الهرج والمرج، بل أنا لا أستبعد عن هؤلاء السفاحين العتاة أن يكون دهاة الاستشراق على علم بأعيانهم وأسمائهم منذ كان المستشرقون يترددون على البيت العام بالصنادقية (حارة قرب الجامع الازهر) ليقرأوا على صاحبه الجبرتي الكبير، لا أستبعد أن يكون وكر الاستشراق قد أغرى سفهاء السفاحين بتعمُّد قتل بعضهم غيلةً أو جهرةً، لا أستبعد، والله أعلم أي ذلك كان).
(ص99).
وأمرٌ ثالثٌ قام به «نابليون» ليضمن تمزيق الثقافة المتكاملة الإسلامية، وذلك أن أوعز إلى خليفته كليبر أن يقوم بجمع 500 أو 600 شخص من المماليك، ويسفرهم إلى فرنسا، ليشاهدوا عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادوا على التقاليد واللغة الفرنسية، ثم إذا رجعوا إلى مصر تشكل منهم حزب لفرنسا يضم غيرهم.
(ص108، 119).
ثم يُبرِزُ المُؤلِّف العلاقة بين هذه الحملة وبين الاستشراق الذي استجابت لنذيره، فيُقرِّر أنَّ (الاستشراق كان مُستكنًا في أحشائها وأحشاء قائدها العظيم «نابليون» يرشده الاستشراق ويهديه).
(ص102).
ويتحدّث المؤلف عن الوجود الاستشراقي في مصر قبل حملة «نابليون»، إذ تكاثر المستشرقون في مصر وتوافدوا في كل زيّ، زي طلبة العلم وزي السائح المتجوّل، ويذكر مثالا على ذلك «فانتور» الذي أقام في مصر أربعين سنة (ص124).
ويذكرُ دورَ الاستشراق في عدة قضايا قبل الحملة وخلالها: منها تحديد أسماء المشايخ الذين يتكوَّنُ منهم الديوان الذي أنشأه «نابليون»، ونجاحهم في تدجين بعض المشايخ (ص134)، ودور الاستشراق في البيانات التي نشرها «نابليون»، ودوره في تقتيل خمسة أو ستة من المصريين كل يوم، إذ يذهب المؤلف أن هؤلاء كانوا من طلاب الأزهر، وكان الاستشراق من يقدم أسماءهم، كما يذكر أن «فانتور» المستشرق الذي قُتِل في هذه الحملة في الشام كان خليلا لـ«نابليون» لا يفارقه في حل ولا ترحال، ويذكر المؤلف نصَّ رسالة لـ«فانتور» كتب بها إلى «كليبر» ويعقب عليها.
(ص102-107)، ويذكر قيام المستشرقين بالطواف على المشايخ في مصر لإقناعهم بهدف الحملة قبل وصولها، وأنها (رفع الظلم الواقع على تُجَّارِهم وتخليصُ حقِّ الأمة الإسلامية من يدِ الظالمين، والقضاء على دولة المماليك الفاسدة الظالمة، ووضع أمور البلاد في يد العلماء والفضلاء من أهالي مصر).
(ص131).
(وكان آخرون من المستشرقين لهم مودة بالمماليك يفاوضونهم ويهوِّنون عليهم شأن الفرنسيس ويمنونهم بالظفر عليهم إذا هم أقدموا على دخول القاهرة، ويزيدونهم إصرارًا على الغرور بقوَّتِهم، وأنهم إذا جاءت الإفرنج فهم قادرون على أن يدوسوهم بخيولهم، أما الذين كانوا منهم يطوفون بالمشايخ فكانوا يخوِّفُونهم من تهوُّر المماليك، وأنهم لا علم لهم بقوة الفرنسيس، وما في حوزتهم من المدافع والأسلحة مما لا يملك مثله المماليك، وأنه إذا وقعت الواقعة لم تُغنِ عن المماليك مدافعهم وأسلحتهم، وأنهم سرعان ما يفرون من وجه الفرنسيس، ثم يتفرَّقُون شذر مذر، ويتركون القاهرة مكشوفةً بلا حام يحميها، أو يدافع عنها، وكان آخرون من المستشرقين يتأهبون لإحداث فتنه كبيره إذا ما دخلت جيوش الفرنسيس القاهرة فطافوا بالكنيسة القبطية المصرية وحاولوا أن يستثيروا حميتها وأن يغروها بأن استجابتهم للفرنسيس إنما هو نصرة لدين المسيح على دين الاسلام).
(ص132-133).
ويعتني المؤلف في تضاعيف كلامه بنقد ما كتبه عبد الرحمن الرافعي وزكي نجيب محمود في التأريخ لبعض الأحداث خلال هذه الحملة، وذلك سيرًا إلى الغاية التي كتب من أجلها كتابه، وهي انتقاد الحياة الأدبية الفاسدة في مصر.
ثم يتحدّث المؤلف عن دور الاستشراق في عهد محمد علي باشا، إذ يقرر أن المستشرقين أتمّوا ما بدؤوا به من وأد اليقظة في مصر على يد محمد علي (ص137)، وذلك بأن أحاطت قناصل المسيحية الشمالية به إحاطة كاملة - والقناصل هم الاستشراق نفسُه في صورته السياسية- وصاروا عقلَه الذي يُفكِّر به، وصار هو دميةً في أيديهم يحرِّكُونها إلى غاياتهم ومقاصدهم).
(ص136، 140).
أراد الاستشراق أن يجعل محمد علي (قوَّةً في قلب دار الإسلام تنازع دار الخلافة في تركية سلطانها، وتنشقُّ عنها انشقاقًا يزيد في تفكك دار الإسلام، ويسرع في انهيار دار الخلافة وفي تمزيقها وضعفها وارتخاء قبضتها على أطراف دار الاسلام، ويمهِّد للمسيحية الشمالية السبيل إلى تخطُّف أقاليم دار الاسلام بعد أن تصير أشلاء ممزقة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، على أن تكون هذه القوة الجديدة، قوة محمد علي، في قبضة المسيحية الشمالية تصرفها كيف تشاء وتقضي عليها قضاء مدمِّرًا يوم تحتاج إلى هذا التدمير).
(ص137).
ويبرز دور الاستشراق في عهد محمد علي، الذي تمثَّلَ بعدة أمور:
الأول: تأليبه على المشايخ والقادة الذين نصّبوه واليًا على مصر حتى غدر بالسيد عمر مكرم الذي نصّبه واليًا ونزع عنه نقابة الأشراف ثم نفاه إلى دمياط.
(ص136-137).
(وكذلك ظَفِر الاستشراق بالمشايخ الكبار، ومهَّدَ لعزل الأزهر ومشايخِه عن قيادةِ الأمَّة، وأوغَر صدرَ هذا الجبَّار، ومكَّن في قرارة قلبه بُغضَ الأزهر وشيوخِه وطلبةِ العلم المجاورين فيه، وانفرد هو بأُذُنِ هذا الجاهل الجريء المستبدّ، يوحون إليه بما يريدون وما يبيتون).
(ص137).
الثاني: تأليب الاستشراق تركية على حرب اليقظة الوهابية في جزيرة العرب، حتى جردت حملات متتابعة لقمعها، ثم دعوتهم لمحمد علي لقمعها فلم يستجب لنداء تركية، ولكن الاستشراق بقناصله زين له الاستجابة، ليحقق مآربه في وأد اليقظة التي كادت تعمّ جزيرة العرب، وأمدّوه بالسلاح، وتم النصر لمحمد علي بعد أن ارتكب من الفظائع ما لا يستحلّه مسلم، واستباح الديار والأموال والنساء وهدم المدن.
(ص138).
الثالث: البعثات العلمية الصغيرة منذ سنة 1813م التي كانت تتعلق بالصنائع التي تتعلق ببناء الجيش المصري، ثم تطورت إلى بعثات كبيرة سنة 1826م بإشارة من «جومار» ، الذي كان يشرف على تلك البعثات.
ويتحدّث عن البعثة الأولى التي أرسلها محمد علي والتي ضمّت 44 تلميذًا، وخرج معها شابٌّ أزهري إمامًا لها هو رفاعة الطهطاوي.
ويتحّدث عن تأثير «جومار» والاستشراق الكبير عليه، وأنه عاد إلى مصر وأنشأ مدرسة الألسن، ولم تكن من أفكاره وإنما هي ثمرة من ثمرات الاستشراق.
وبإنشائه هذه المدرسة (وضعَ رفاعة الطهطاوي أساسًا لمدرسةٍ مُلفَّقة، مبتورة الصِّلَة كُلَّ البتر من مركز الثقافة المتكاملة التي كان الازهر مهدَها على قرون متطاولة، وكان هو وحده على طول هذه القرون مركزَ ثقافة دار الاسلام في مصر، وكذلك أحدثَ رفاعة الطهطاوي صدعًا مبينًا في ثقافة الأمة، وقسَّمَها إلى شطرين متباينين: الأزهر في ناحية، ومدرسة الألسن في ناحية، وكذلك حقق رفاعة لدهاة الاستشراق أهمَّ ما يتُوقُون إليه من وأد اليقظة الواحدة المتماسكة التي كان الازهر مركِزَها منذ عهد البغدادي والزبيدي والجبرتي الكبير).
(ص145-146).
وبهذا ينتهي المؤلف إلى أن الاستشراق بعد أن نجح في وأد اليقظة بنى على قبرها بناء راسخ الأساس ظل يرعاه ويحوطه.
(ص146).
وفي عهد أبناء محمد علي؛ يتحدّث المؤلف عن تعاظم البليّة التي أحدثها رفاعة الطهطاوي، بانشطار تعليم الأمة إلى شطرين، التعليم الأزهري والمدارس التي نمت وتكاثرت، وجعلت الهوّة بينها وبين الأزهر تتسع، وأصبحت المناهج تتباين تبايُنًا شديدًا.
(ص147).
وينتهي المؤلف في رسالته إلى ذكر الاحتلال الإنجليزي الذي قام أوَّلًا بتدمير ما أنشأه الاستشراق الفرنسي، وجاء الاستشراق ليُحدِث في ثقافة الأمَّةِ المصريَّة صدعًا مُتفاقِمًا أخبَث وأعتَى من الصدع الذي أحدثه الاستشراق الفرنسي.
(ص148).
ويتحدّث المؤلف عن إسناد التعليم لمبشرٍ عاتٍ خبيثٍ هو «دنلوب»، الذي نشأ المؤلف على نظام تعليمه.
ويختم رسالته هنا.
وقد سبق وصف هذا النظام عند الحديث عن الظروف التعليمية التي نشأ فيها المؤلف بنقل كلامه في ذلك وكلام أخيه الشيخ أحمد شاكر.
5- تأثير الكتاب:
كتب الدكتور سعد المصلوح الأستاذ بكلية الآداب بجامعة الكويت في مجلة العربي سنة 1988م مقالًا بعنوان «قراءة نقدية في كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» يتحدّث في أوّله عن عدم تلقي هذه الرسالة ما تستحقه من ردّة فعل لدى المهتمين بالثقافة العربية: (إن تعجب فعجبٌ أن يحول الحول أو يزيد على هذه الرسالة الجليلة الخطر منذ ظهورها لأوَّل مرّة دون أن تلقى ما هي حقيقة به من العناية الواجبة على كلّ مهتمّ بأمر الثقافة العربية، مع توافر الدواعي للحوار حولها، ذلك أنها رسالة تستمدّ أهميتها وخطر من جهات عدّة، من مؤلفها، ومن موضوعها، ومن غايتها) [14].
وفي هذه القراءة النقديّة القصيرة وجّه صاحبها ملاحظات نقديّة للرسالة في إذ يصف المؤلف بأن لديه نظرة أحادية في تفسير الأحداث التاريخية، أي أنه يرجع تفسيرها إلى سببٍ واحد، هو عنده الدين، إذ يصفه بأنه ردّ اليقظة الأوروبية إلى سبب الدين، وينتقد ذلك، ويصفه بأنّه فسر الحملة الفرنسية تفسيرًا دينيًّا.
وفي الواقع يعدّ هذا النَّقد في نظري مبنيًّا على نظرة عجلى في الرسالة، إذ المتأمّل للرسالة كما أنه يلمس إبرازًا ظاهرًا للعامل الديني في الأحداث التاريخية التي تعرّض لها، إلا أنَّ لا يجد فيها البتّة نظرةً أحادية في تفسير تلك الأحداث، إذ تحدّث الأستاذ شاكر عن (الأحلامِ الشَرِهةِ المسعورةِ إلى الغنى والثروةِ والمتاعِ) (ص51) في دوافع الاستعمار الأوروبي، وعن (الأحلام البهيجة والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار الإسلام من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة) (ص58) التي كانت ترواد خيال كل مستشرق، وقل مثل ذلك – أعني التحليل غير الأحادي للدوافع - في تحليله لشخصية محمد علي باشا.
كما انتقد الدكتور سعد المصلوح في نقده المذكور مصطلح الثقافة المتكاملة، وطالب ثقافتنا بتشكيل دورٍ في الحضارة المعاصرة، وقد تعقبه في ذلك عمر القيّام في رسالته (محمود شاكر الرجل والمنهج)[15].
ورسالة (محمود شاكر: الرجل والمنهج) وهي رسالة علميّة من جامعة اليرموك الأردنية سنة 1996م، وقد عرض فيها صاحبها كتابنا هذا لدى حديثه عن النتاج العلمي للأستاذ شاكر، ولخص بعض مضامينه.
ومن الكتابات التي كتبت حول هذا الكتاب، كتابة بعنوان (غضب مرتقب) لمجدي وهبة، أستاذ الأدب الانجليزي بجامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وقد عرضها مجدي شلبي في مقاله في صحيفة الوفد (الحوار المستحيل) ، فكان مما قاله في وصفها: (كان الشيخ محمود محمد شاكر قد أصدر طبعة جديدة من كتابه (رسالة في الطريق إلي ثقافتنا)، الذي كان في الأصل مقدمة لكتابه العتيد عن المتنبي، فاتخذه الدكتور مجدي كأكمل تشخيص لوجهة نظر السلفية الإسلامية في مواجهة النظرة الاستشراقية وأسلوب تعاملنا معه.
وقام بعقد هذه المواجهة الثقافية في مقال طويل كتبه باللغة الإنجليزية في عام 1987 بعنوان (غضب مرتقب)، ونشره في مجلة (يوميات الأدب العربي) التي تصدر في بريطانيا، في المجلد العشرين.
وهي مجلة علمية متخصصة في دراسات الأدب العربي.
كتبه بعد أشهر قليلة من صدور الطبعة الثالثة من كتاب (المتنبي) الذي ألفه صديقه وزميله في المجمع اللغوي الشيخ محمود محمد شاكر.
فلم يكد عدد المجلة يصدر حتي بادر الدكتور مجدي وهبة بإرسال صورة منه إلي الشيخ شاكر، فقام الكاتب الشاب زهير شاكر ابن شقيق الشيخ شاكر بترجمة المقال إلي العربية ونشرته دار المدني بجدة في كتيب صغير أنيق في طبعة محدودة نفدت بعد ساعات قليلة)[16].
ثم نقل من تلك الرسالة قول مجدي وهبة: (هذا هو الاتجاه العام الذي يدافع عنه محمود شاكر - وهو اتجاهٌ لا يقبل أيَّ تنازلات، متشكك إلى أقصي الحدود في التفسيرات الأجنبية، رافض في الواقع لأي احتمال للفهم الحقيقي خارج النطاق المحدد للعالم الإسلامي نفسه، وهذا صوت أصيل معبر عن الغضب والاستياء بعد اثني عشر قرناً من المواجهة مع الغرب، وهناك كثير من المؤرخين الغربيين ليسوا بغافلين عن هذا الغضب، حتى وهم يجهزون لعملية الحوار، ولكن قسمًا كبيرًا من المسئولية عن هذا الغضب يقع علي عاتق المؤمنين بالاستعمار الغربي، الذين وصلوا إلى اقتناع نهائي، لا بأن ثقافتهم ثقافة متفوقة فحسب، بل بأن من الضروري أن يقوموا بنقلها إلى أبناء المستعمرات..).
فهو ينظر في ما يسميه صوت الغضب الذي يصدر من رسالة شاكر= للتعامل معه وأخذه بعين الاعتبار في عمليّة الحوار الإسلامي الغربي.
ونظر خيري شلبي إلى هذه الرسالة على أنها (تحدد الاتهامات التي يوجهها الإسلام السلفي المحافظ ضد المسيرة الكاملة لعملية المواجهة والاستطلاع التي تميز تاريخ الاستشراق الأوروبي وفروعه الأمريكية).
ومما يشار إليه –أخيرًا- أن هذه الرسالة أُعيد طبعها منفردةً عن «كتاب المتنبي»، فطبعتها مجلة الهلال في كتاب الهلال سنة 1991م، وطبعته الهيئة العامة المصرية للكتاب سنة 2009م.
[1] الطبعة المعتمدة في العزو هي طبعة دار المدني بجدّة ومطبعة المدني بمصر، 1407هـ =1987م.
([2] «تقرير عن شؤون التعليم والقضاء» للشيخ أحمد شاكر (ص28-34).
[3] «تقرير عن شؤون التعليم والقضاء» للشيخ أحمد شاكر (ص31).
[4] «كتاب المتنبّي» (ص21-27) -بتصرُّف-.
[5] من لقائه مع إذاعة الكويت المثبت في «ظل النديم: أوراق وأسمار محمود شاكر التي لم تنشر من قبل» (ص98).
[6] «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» (الذيل، ص151).
[7] من لقائه مع إذاعة الكويت المثبت في «ظل النديم: أوراق وأسمار محمود شاكر التي لم تنشر من قبل » (ص107).
[8] من لقائه مع إذاعة الكويت المثبت في «ظل النديم: أوراق وأسمار محمود شاكر التي لم تنشر من قبل» (ص99-100).
[9] «المتنبي» (ص8).
[10] من لقائه مع إذاعة الكويت المثبت في «ظل النديم: أوراق وأسمار محمود شاكر التي لم تنشر من قبل» (ص100).
[11] قصّ خبر خلافه مع طه حسين في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «المتنبّي» (ص9-17).
[12] «كتاب المتنبي» (ص20).
[13] «كتاب الأم»، طبعة دار الوفاء بتحقيق رفعت فوزي عبد المطلب (5/451).
[14] «مجلة العربي» العدد (353)، ابريل 1988م، (ص42).
[15] «محمود شاكر: الرجل والمنهج» (ص85).
[16] «محمود شاكر: الرجل والمنهج» (ص85).