أرشيف المقالات

مذكرات في علوم التفسير (3)

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
مذكرات في علوم التفسير (3)
 
3- ما ورد عن الصحابة والتابعين مِن الآثار التي تدل على أنهم كانوا يتحرَّجون عن القول في القرآن بآرائهم؛ ومِن ذلك ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "أيُّ أرض تُقِلُّني، وأي سماء تُظلني، إذا قلتُ في القرآن برأيي أو بما لا أعلم؟".
 
ورُوي عن سعيد بن المسيَّب أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن قال: "أنا لا أقول في القرآن شيئًا"، وكان إذا سُئل عن الحلال والحرام تكلم.
وروي عن الشَّعبي أنه قال: "ثلاثٌ لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرؤى".
وغير ذلك من الأخبار التي تدل على أن القول في القرآن بالرأي ممنوع.
 
وأجيب عن هذه الآثار: بأن إحجام مَن ذكرنا عن القول في القرآن - كان حذرًا وخوفًا أن يخطئوا أو يُتَّخَذوا أئمةً في هذا الشأن، وليس ذلك لأن تأويل القرآن محجوب عن علماء الأمة.
 
على أنه قد ورد عنهم أيضًا ما يفيد أنهم تكلموا في القرآن باجتهادهم وآرائهم؛ فقد ورد عن أبي بكر أنه سُئل عن "الكلالة" المذكورة في القرآن، فقال: "أقولُ فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان غير صواب فمني ومن الشيطان: الكلالةُ كذا وكذا".
 
وكان جملةٌ من السلف كثيرٌ عددهم يفسِّرون القرآن، وأولُهم الصحابة رضي الله عنهم، فقد فسَّروا القرآن واختلفوا فيه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم: علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس، فدل ذلك على أن مَن كان يتورع منهم كانوا يخشون الخطأ، وكان بعضهم يخشى أن يُتَّخَذ إمامًا يُبنى على مذهبه ويُتَّبع طريقُه، فلعل متأخرًا عنه يفسر القرآن ويخطئ ويقول: "إمامي في التفسير بالرأي فلان من السلف"؛ هذا هو السر في إحجامهم عن التفسير.
 

أدلة المجوزين:
استدل القائلون بجواز التفسير بالرأي بما تقدم من تفسير السلف وبما يأتي:
1- الدليل الأول: القرآن؛ وهو قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 27، 28]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83].
 
وجه الدلالة من هذه الآيات: أنه تعالى حث على تدبُّر القرآن وفهمه والاعتبار بآياته والاتعاظ بعظاته، وذلك يدل على أن المكلَّفين ملزمون بتأويل ما لم يستأثر الله بعلمه، وإلَّا لكانوا مُلزَمين بالاعتبار والاتعاظ بما لا يفهمون؛ فالتدبر والاتعاظ متوقِّف على الفهم والفقه.
 
وفي قوله تعالى: ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83] دليل على أن هناك علمًا يستنبطه العلماء؛ أي: يستخرجونه بالفهم ودقة النظر.
 
2- الدليل الثاني: من السنة؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقههُ في الدين، وعلِّمْه التأويل))، فلو كان التأويل قاصرًا على السماع والنقل كالتنزيل، لمَا كان هنا فائدة لتخصيصه؛ فدل على أن التأويل خلاف النقل، وهو التفسير بالاجتهاد وحُسن الاستنباط.
 
3- الدليل الثالث: لو لم يَجُز التفسير بالرأي - أي: الاجتهاد - لتعطل أكثر الأحكام، وذلك باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تفسير كل آية، بل المنقولُ عنه في ذلك قليل جدًّا.
 
4- الدليل الرابع: أنه لو لم يَجُز، لكان النظر في القرآن والتدبر في آياته والاتعاظ بعظاته ممنوعًا؛ لتوقُّف ذلك على الفهم كما سبق، ولو كان كذلك، لمَا كان الاجتهاد جائزًا، وهذا منافٍ لما تقرر مِن أنَّ المجتهد مأجور - أصاب أو أخطأ - ما دام غرضُه الحق ومعرفة الصواب.
 

♦ بيان الصواب في هذه المسألة:
الحق أن الرأي نوعان:
أحدهما: جارٍ على موافَقة كلام العرب وموافَقة الكتاب والسنة؛ وهذا جائز ولا يصح إهماله، وليس مرادًا بالذم والنهي.
 
ثانيهما: غير جارٍ على قوانين العربية، ولا موافق للأدلة الشرعية، كما تقدم في الإجابة عن أدلة المنع؛ وهذا هو مَوْرِد النهي والذم، وفي هذا النوع جاء التشديد في القول بالرأي في القرآن، مثل ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بيِّنٍ فسقُه، ولكن أخاف عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أذلَقَه بلسانه، ثم تأوَّلَه على غير تأويله".
وعلى هذا يُحمَل النهي في الحديثين السابقين.
 

♦ أقسام التفسير بالرأي الجائز وغير الجائز:
نقل السيوطي في الإتقان (ص178 ج2) عن الزركشي ما خلاصته:
"للناظر في القرآن لطلب التفسير مصادر كثيرة، ترجع إلى أربعة:
1- النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع التحرُّز عن الضعيف والموضوع.
 
2- الأخذ بقول الصحابي؛ فقد قيل: إنه في حكم المرفوع، وخَصَّه بعضهم بما فيه سبب النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه.
وفي الرجوع إلى قول التابعين روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل المنع، وحكوه عن شعبة، لكن عمل المفسرين على خلافه؛ فقد حكوا في كتبهم أقوالهم؛ لأن غالبها تلقوه عن الصحابة، وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ، فيظن مَن لا فهم عنده أن ذلك اختلاف حقيقي؛ فيحكيه أقوالًا، مع أنه ليس كذلك، بل كل واحد منهم ذَكر معنى مِن الآية؛ لكونه أظهَرَ عنده أو ألْيَق بحال السائل، وقد يكون بعضهم يُخبِر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخرُ بمقصوده وثمرته، والكل يأوي إلى معنى واحد غالبًا، وإن لم يمكن الجمع، فالمتأخر مِن القولين عن الشخص الواحد مقدَّمٌ إن استويَا في الصحة عنه، وإلا فالصحيح المقدم.
 
3- الأخذ بمطلَق اللغة، مع التحرُّز عن صرْف الآيات إلى احتمالات لا يدل عليها الكثير من الكلام، ولكن يدل عليها القليل، أو لا توجد غالبًا إلا في أشعارهم.
 
4- التفسير بالمفهوم من معنى الكلام والمأخوذ من أدلة الشرع؛ وهذا هو الذي دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: ((اللهم فقههُ في الدين، وعلِّمه التأويل))، والذي عناه علي بقوله: "إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلًا في القرآن".
 
ومن هنا؛ اختلف الصحابة في تفسير بعض الآيات، فأخَذ كلٌّ برأيه على منتهى نظره.
فمَن فسر القرآن برأيه - أي: باجتهاده - بانيًا تفسيره على هذه الأصول، كان ذلك جائزًا وسائغًا، وهذا هو المسمَّى بالرأي المحمود.
 
وأما الذي يفسر القرآن تفسيرًا غير مبني على أصل من هذه الأصول، فهذا تفسيره بالرأي المذموم، وهو داخلٌ في الوعيد الذي ذُكر في الحديثين السابقين، منتهِكٌ لحرمة النهي في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، داخلٌ في زمرة الذين يقولون على الله ما لا يعلمون.
 
♦ والتفسير بالرأي المذموم لا يخرج عن خمسة أنواع:
1- التفسير مِن غير العلوم التي لا بد منها في التفسير، وسيأتي بيانها.
2- تفسير المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
3- التفسير المقرِّر للمذهب الفاسد؛ بأن يجعل المذهب أصلًا والتفسير تبعًا.
4- التفسير مع القطع بأنَّ مراد الله كذا، مِن غير دليل.
5- التفسير بالهوى والاستحسان"[1].
 
هذا، وينبغي أن يُعلم أنَّ علوم القرآن أنواع ثلاثة:
1- النوع الأول: علم لم يُطلِع الله عليه أحدًا من خلقه مما استأثر به وحده؛ كمعرفة كُنْهِ ذاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو.
وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعًا.
 
2- ما أطْلَع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم واختصه به.
وهذا لا يجوز الكلام فيه إلَّا له صلى الله عليه وسلم أو لمن أذن له.
 
3- العلوم التي علمها الله لنبيه وأمره بتبليغها.
وهذا النوع منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بِطَريق السمع؛ كالناسخ والمنسوخ، والقراءات واللغات، وقصص الأمم الماضية، وأسباب النزول، وأخبار الحشر والنشر والمعاد، ونحو ذلك.
ومنه ما يجوز القول فيه بالرأي والنظر والاستنباط؛ كالمواعظ والأمثال والحكم، وفروع الفقه ونحوها، لمن تأهَّل للنظر والاجتهاد.
 

♦ العلوم التي لا بد منها في التفسير:
العلوم التي لا يجوز التفسير إلا معها: هي اللغة والنحو والصرف والاشتقاق، وعلوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، وعلم القراءات، وعلم التوحيد وأصول الفقه، وأسباب النزول والقصص، والناسخ والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبيِّنة لتفسير المجمَل والمبهَم، وعلم الموهبة؛ وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وهذا العلم يُكتسب بفعل الأسباب الموجبة له من العمل والزهد، كيف وقد قيل: إنه لا يَحسُن للناظر فهم معاني الوحي الإلهي ولا تنكشف له أسراره، وفي قلبه بدعة أو كِبر أو هوى أو حُب دنيا، أو وهو مُصِر على ذنب، أو غير مُتحقِّق بالإيمان أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم؟ فهذه كلها حُجُب وموانع من الوصول إلى الحق والوقوف على معاني القرآن، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146].
 
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى فهم أسرار كتابه، وأن يوجهنا إلى العمل بما فيه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
انتهى مقرر السنة الرابعة.



[1] الإتقان، (2/ 183).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير