أرشيف المقالات

وقفة مع اختلاف الناس حول البسملة

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
وقفة مع اختلاف الناس حول البَسْملة

البسملة هي قول: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، ومعناها: أبتدئ قراءةَ القرآن باسم الله، مستعينًا به، ﴿ اللهِ ﴾ عَلَم على الرب - تبارك وتعالى - المعبود بحقٍّ دون سواه، وهو أخص أسماء الله تعالى، ولا يسمى به غيرُه سبحانه، ﴿ الرَّحْمَنِ ﴾: ذي الرحمة العامة، الذي وسِعَت رحمته جميع الخلق، ﴿ الرَّحِيمِ ﴾ بالمؤمنين، وهما اسمان من أسمائه تعالى، يتضمنان إثباتَ صفة الرحمة لله تعالى كما يليق بجلاله[1]؛ قال شيخ المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: "إن الله - تعالى ذكره وتقدست أسماؤه - أدَّب نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليمه تقديمَ ذِكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وأمَره أن يصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل ما أدَّبه به من ذلك وعلَّمه إياه منه لجميع خَلْقه سنَّة يستنون بها، وسبيلًا يتبعونه عليها، في افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم؛ حتى أغنت دلالة ما ظهر من قول القائل: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾ على ما بطَن مِن مراده الذي هو محذوف"[2]؛ اهـ.
 
وكنتُ في مطلع حياتي قد كتبت رسالة صغيرة وسميتها: "الفائدة المرسلة في فضائل وأحكام وأسرار البسملة"، وكان سبب كتابتها - مع قلة بضاعتي في العلم - اختلاف كثير من الناس حول قراءتها في الصلاة جهرًا وسرًّا! وقد عاينتُ من ذلك مشاهد في عدة مساجد، كما عانيتُ مِن شكوى الناس أيضًا، فما أن اشتد أمر خلافهم على نفسي حتى قمت أفتش وأبحث في كتب أهل العلم والفقه عن البسملة وأحكامها، وقد وقفتُ على عدة مسائل مهمة مرَّت بي خلال بحثي، أذكر منها معنى البسملة، وإعرابها، وتفسيرها، وفضلها، وما شُرِعت له، وأسرارها، كذلك هل هي أول ما نزل من القرآن؟ وهل هي آية من الفاتحة أم لا؟ وما حُكم قراءتها أول السور وفي غير أولها؟ وما حكم الجهر أو الإسرار بها في الصلاة؟ وحكم قراءتها للجُنُب والحائض؟ وقد حاولتُ أن ألخص بعض أقوال العلماء فيها، والقول الراجح أو الأقرب للصواب في كل مسألة منها، حتى أستطيع أن أخرج بفَهْم صحيح يصاحبه الدليل والحجة لمناقشة الناس وتعليمهم بالحسنى، إلا أن هذه الرسالة - التي كتبت في جملتها بالقلم الرصاص - لم أحرِّرهْا بعد منذ ذلك الوقت وإلى ساعتي هذه، لكنها وقعت تحت يدي وأنا أقلب أوراقي.
 
وقد وقعت بين يدي نسخة من كتاب "إحكام القنطرة في أحكام البسملة" للفقيه المحدِّث محمد عبدالحي اللكنوي الهندي (ت: 1304هـ)، وقد ذكر أكثر هذه المسائل، وناقشها بأدلتها، ورجَّح ما رجَح لديه، وهو من الكتب الجيدة في بابه، وقد سبَق كتابَ اللكنوي في مسائل البسملة وأحكامها عدةُ مؤلَّفات، منها: "الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف" للحافظ أبي عمر القرطبي، ومنها: "الأسئلة في البسملة" لبرهان الدين القبابي، ومنها: "المسألة في البسملة" لعلي الهروي الحنفي، ومنها: "كتاب البسملة" للخطيب البغدادي، ومنها: "ميزان المعدلة في شأن البسملة" للجلال السيوطي، وغيرها من المؤلفات والرسائل النافعة، إضافة إلى التبويبات في كتب الحديث والفقه على البسملة وأحكامها.
 
والذي يُهمنا التذكير به هنا أن كثرة الاختلافات بين عموم الناس حول البسملة وبعض أحكامها، مما ينبغي أن يسعى أهلُ العلم وطلابه إلى تضييقها، ولا يكون ذلك إلا من خلال بيان فضل البسملة وأحكامها الشرعية بطريقة علمية تعليمية، مبرهنة هادئة، واضحة سهلة الفهم والتناول، وتيسيرها وتقريبها إلى عقول الناس، ومراعاة مستوى إدراكهم من بلد إلى بلد، وتعريف الناس بأن هناك أحكامًا ليس فيها خلاف بينها أهل العلم بأدلتها من الكتاب والسنَّة، وهناك أحكامٌ أخرى تكلم فيها أهل العلم والفقه واختلفوا فيها، وأن لهذا الاختلاف أسبابَه المشروعة والمقبولة، وأن اختلافاتهم لا تعني التنافرَ والتعصب والبَغْضاء بين المسلمين، إنما فيها مِن السَّعة والتيسير والرحمة عليهم الشيء الكثير، وأن ما يرجِّحه الدليل ويؤكده فقد بان حُكمُه، وزال اللَّبْس في فهمه ومعرفته.
 
ثم إن اللهَ تعالى قد أمرنا عند الاختلاف والتنازع في أمر ما، أن نرجعَ إلى كتابه وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإلى أهل العلم والفقه في الدِّين، فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، قال ابن كثير - رحمه الله -: "وهذا أمرٌ مِن الله عز وجل بأن كل شيء تنازَع الناسُ فيه من أصول الدِّين وفروعه أن يردَّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنَّة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، فما حكَم به كتابُ الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وشهِدَا له بالصحة فهو الحقُّ، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!".
 
وقال ابن سعدي - رحمه الله -: "أمَر بردِّ كل ما تنازَع الناس فيه من أصول الدِّين وفروعه إلى الله وإلى رسوله؛ أي: إلى كتاب الله وسنَّة رسوله؛ فإن فيهما الفصلَ في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما، أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنًى يقاس عليه ما أشبَهه؛ لأن كتاب الله وسنَّة رسوله عليهما بناءُ الدِّين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما؛ فالرد إليهما شرطٌ في الإيمان؛ فلهذا قال: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59]؛ فدلَّ ذلك على أن مَن لم يرُدَّ إليهما مسائلَ النزاع فليس بمؤمن حقيقةً، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها، ﴿ ذَلِكَ ﴾ [النساء: 59]؛ أي: الردُّ إلى اللهِ ورسوله، ﴿ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]؛ فإن حُكمَ الله ورسوله أحسنُ الأحكام، وأعدلُها، وأصلحها للناس في أمر دِينهم ودنياهم وعاقبتهم".
 
وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]؛ قال العلامة ابن سعدي - رحمه الله - في التعليق على هذه الآية: "وفي هذا دليلٌ لقاعدةٍ أدبية، وهي: أنه إذا حصَل بحث في أمرٍ من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهلٌ لذلك، ويُجعَل إلى أهله، ولا يُتقدَّم بين أيديهم؛ فإنه أقربُ إلى الصواب، وأحرى للسلامة مِن الخطأ، وفيه النهيُ عن العجَلة والتسرُّع لنشر الأمور مِن حين سماعها، والأمر بالتأمُّل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟"؛ اهـ.
 
وعلى هذا تدور الأحكامُ وأحوالُها، فإذا ما أدرك الناسُ هذه المسائل التي ذكرتها كما ينبغي، فلا ريب مِن أن حِدَّة الخلاف تضعُفُ جدًّا أو تتلاشى بحسَب الحال، وفي هذا خيرٌ كثير، وتفقيه للناس وإرشاد، كما أن هناك عشراتِ المسائل المشابهة يُمكِن التعامل معها، ومعالجتُها بنفس الطريقة، وإزالة الخلاف وتيسير الأمر على المسلمين لا ريبَ أنه من مقاصد الشريعةِ وأهدافها.
 
وحسبُنا مِن البسملة معرفةُ فضائلها، وما اشتملت عليه مِن المعاني الإيمانية والشرعية والتربوية، وما شُرِعت له، والمحافظة على ذلك، مع سؤالِ أهل العلم - كما ذكرنا - فيما أشكَل علينا، وتعلُّم ما خَفِيَ مِن أحكامها، سواءٌ ما يتعلَّق بالجانب الفقهي، أو بالجانب التجويدي، أما أن تتحول بعضُ مسائل الفقه في بعض المساجد هنا وهناك بين مَن لا فِقهَ لهم ولا دراية إلى معاركَ وهمية لا حقيقة لها، ثم تشحن القلوب والنفوس بالجدال العقيم، والتعصُّب والبغضاء، فهذا مما لا ريبَ فيه من أسباب ضعف المسلمين وتفرُّقهم، في الوقت الذي ينبغي أن يكونوا يدًا واحدة على أعداء الأمة مِن الشرق والغرب، والله المستعان.

[1] التفسير الميسر، تفسير سورة الفاتحة.

[2] تفسير ابن جرير الطبري، بتصرف.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير