أرشيف المقالات

كتاب مصطفى كامل

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 للأستاذ عباس محمود العقاد الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك جدير أن يسمى بحق مؤرخ النهضة القومية الحديثة، لأنه أرخها في مرحلتها التي بدأت بالحملة الفرنسية، وأرخها في مرحلتها التالية التي بدأت بقيام محمد علي الكبير على الأريكة المصرية، وصحبها فيما أعقب ذلك من المراحل إلى عهد الثورة العرابية فالاحتلال البريطاني فالحركة الوطنية في عهد هذا الاحتلال وهاهو ذا قد تأدى في تاريخه لها إلى ختام القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي إلى الفترة التي ظهر فيها زعيم الوطنية في أبناء ذلك الجيل مصطفى كامل باشا رحمه الله ونهج الأستاذ الكبير في كتابه عن مصطفى كامل شبيه بنهجه في الكتب المتقدمة من حيث الطريقة والوجهة، يتتبع الوقائع ويستقصي ما احتاج إليه من الأسانيد وينصف في الحكم على الرجال والحوادث مع ميل يسير إلى تخفيف التبعات أو تجميل المحاسن في بعض الجوانب، وسهولة في التعليل والتعليق لا تثقل على ذهن القارئ ولا تكتفي مع ذلك بالظواهر دون ما يلازمها من الأسباب والعواقب إلا أنه في كتابه عن مصطفى كامل قد اقترب من ميدان الحياة الحاضرة أو من معترك السياسة الذي يعيش فيه، فكان لذلك آثره في الميزان دون قصد في بعض الأحيان، وعلى قصد ظاهر في بعض الأحيان ولتوضيح ما نقول نرجع إلى الحركة الوطنية ومذهبيها المختلفين بعد احتلال الإنكليز لهذه البلاد فقد كانت الدعوة الوطنية كما قلنا في كتابنا عن سعد زغلول (شعباً مختلفات في المقصد والنتيجة المأمولة، فمنها ما كان يتجه إلى الدولة العثمانية، ومنها ما كان يتجه إلى فرنسا لأنها أكبر الدول التي كانت تناوئ في مطامعها الشرقية، ولم يشترك مع هؤلاء ولا هؤلاء حصفاء الثورة العرابية الذين شهدوا بأعينهم تذبذب السياسة الفرنسية والسياسة العثمانية قبل الاحتلال.
فقد رأى رجال هذا الفريق ما هو حسبهم وزيادة في هذه الآمال الكاذبة وهذه الجهود العقيمة، فاستقاموا على الطريق الوحيد المفيد الممهد لهم وهو طريق النهضة المصرية الصميمة واستقلال المصريين أنفسهم بطلب الاستقلال، وتزويد الأمة بعدة العلم واليقظة والمثابرة، لأنه ما من وسيلة إلى الاستقلال في رأيهم أنجع من وسيلة فهمه والاستعداد له والإصرار على طلبه.
ومن هذا الفريق كان أناس من فطاحل المصريين أمثال محمد عبده وسعد زغلول)
. هذان هما المذهبان اللذان شاعا من مذاهب الحركة الوطنية بعد الاحتلال: مذهب مصر للمصريين، ومذهب الاعتصام بالسيادة العثمانية، أما لأنها دولة الخلافة، أو لأن السيادة العثمانية (حجة شرعية) لمحاربة الغاصب وإظهار مركزه (غير المشروع) ولا يخفى أن مصطفى كامل رحمه الله كان من أنصار السيادة العثمانية، وكان يذكر الاستقلال ولا يذكر الاستقلال التام، وكان يقيم المحافل كل عام في عيد جلوس (المتبوع الأعظم) عبد الحميد سلطان آل عثمان ليؤكد ولاء المصريين للسيادة العثمانية.
وقد انشأ الحزب الوطني فكان المبدأ الأول من مبادئه (استقلال مصر كما قررته معاهدة لندرة سنة 1840، ذلك الاستقلال الذي يضمن عرش مصر لعائلة محمد علي مع الاستقلال الداخلي عن تركيا). وكان المبدأ العاشر من مبادئه (تقوية العلائق بين مصر والدولة العلية). ولبث أشياع مصطفى كامل على هذا الرأي حتى كتب اللواء يعيب على الأستاذ الكبير (أحمد لطفي السيد بك) أنه يطالب بالاستقلال التام ويخرج بذلك على أحكام القانون وعلى سنة الولاء للسيادة العثمانية، فاضطر الأستاذ يومئذ إلى التفرقة بين الاستقلال التام والاستقلال الكامل توفيقاً بين ما يدعو إليه وبين الصيغة الشرعية ثم لبث أشياع مصطفى كامل على هذا الرأي إلى ما بعد الحرب العظمى وبعد الثورة الوطنية التي أعقبتها، فحولوا الأمر إلى أصحاب السيادة في الآستانة ثم في أنقرة، كأنهم هم الأصلاء وليس للمصريين أن يبرموا أمراً في هذه السيادة إلا بعد إبرام الأصلاء رأيهم في موضع الخلاف!! وقد تعاقبت الحوادث وتمخضت الآراء فظهر بعد حين موقع الصواب من المذهبين، وضعفت حجة السيادة العثمانية شيئاً فشيئاً حتى أصب الجيل الحاضر يعجب كل العجب كيف كان هذا الرأي في يوم من الأيام موضع خلاف!! وقد كان الأنصاف التاريخي يقضي ببيان هذه لحقيقة في تاريخ مصطفى كامل ولا يمنع المؤرخ أن يفصل أعذار المعتصمين بالسيادة العثمانية في ذلك الحين، بل يوجب عليه أن يذكر هذه الأعذار وإن يذكر معها صواب المخالفين ولا سيما حين يشعر أنه صواب ولكننا بحثنا في كتاب مصطفى كامل فلم نر فيه إشارة إلى هذا أو ذاك، وكأنما غلبت عليه النزعة الحزبية على النصفة التاريخية فوجدنا أن الأستاذ الكبير قد اغفل الموضوع كل الإغفال، فلم يذكر محافل المتبوع الأعظم ولم يذكر حملة اللواء على طلاب الدستور والحرية في البلاد العثمانية، وكتب أكثر من عشر صفحات عن تأسيس الحزب الوطني مفصلا أسماء أعضائه وأقوال الصحف فيه دون أن ينشر مبادئه أو يأتي بالمهم منها وهي أهم ما يثبته المؤرخ في سيرة زعيم حزب من الأحزاب ولو أنه فعل هذا لأقر الحقائق في نصابها وأتاح للقارئ أن يحيط بمعاني الحركة الوطنية من جميع نواحيها، وإن يستخرج العبرة المقصودة بالتاريخ من صواب أو خطا لكل فريق، وما من فريق واحد معه كل الخطأ أو كل الصواب وبينما الأستاذ الكبير ينسى هذه الحقائق التي لا يبطلها النسيان إذا به يأخذ بالظنون التي لا سند لها ولا معول عليها فيما يكتبه عن سعد زغلول فيقول عن علاقة سعد بالجامعة المصرية (وتبين أن انسحابه من رياسة اللجنة كان تحقيقاً لرغبة الاحتلال لكي يحبط المشروع، وقد أصابه الفتور والركود فعلاً بعد انسحابه من اللجنة، وبخاصة لأن الحكومة خلقت في ذلك الحين بإيعاز من الاحتلال أيضاً حركة إنشاء الكتاتيب واستحثت الأعيان في مختلف الجهات على التبرع لها معارضة بذلك مشروع الجامعة). ثم أشار الأستاذ الكبير إلى مسألة التعليم باللغة العربية فقال (وقد كانت خطبته - أي خطبة سعد - دفاعا عن سياسة الاحتلال في التعليم.
لأن الاحتلال هو الذي احل اللغة الإنجليزية محل اللغة العربية في التدريس بالمدارس الأميرية.
)
تبين أن انسحاب سعد زغلول من رياسة الجامعة كان تحقيقاً لرغبة الاحتلال.

يا عجباً! كيف تبين ذلك؟ ومن أين جاء ذلك البيان؟ أما الحقيقة فهي أن الحكومة تبرعت للجامعة بالمال واعترفت بشهاداتها كما تعترف بشهادات المدارس الأميرية.
وسألناسعداً في ذلك فقال في بيان نشرناه في كتابنا عنه: (.
. كل هذا والذين يريدون إخراج الجامعة من قبضة الحكومة قد يجهلون أنها دفعت مرة واحدة خمسة أضعاف ما دفعه المتبرعون في أنحاء القطر المصري بأجمعه، وليس هذا كله كل ما أمدت به الحكومة هذه الجامعة فإن اعتبارها لها مدرسة منتظمة وقبول شهادتها بين بقية الشهادات المدرسية ينشط الناس إلا الإقبال عليها إقبالاً لا تظفر بمثله إذا كان الغرض منها مجرد تحصيل العلم وتوسيع العقل، وربما لا تنسى أن بعض هؤلاء كان يطلب من الحكومة إعانة المشروع مادياً، فرفضهم الآن إشرافها عليه بعد أن أدت الحكومة ما طلبوه منها بعد من الغرابة بمكان)
. هكذا كان موقف سعد من الجامعة وهو وزير، وأنه لأصوب ألف مرة من موقف الداعين يوم ذاك إلى إحباطها وتشكيك الناس في مصيرها.
أما إنشاء (الكتاتيب) واعتباره حرباً للجامعات والمدارس العليا فقد عشنا بحمد الله حتى رأينا الدستور المصري يفرض التعليم الإلزامي فرضاً ويجعله واجباً من الواجبات الوطنية، وعشنا بحمد الله حتى علمنا أن سعداً قد سبق النهضة القومية سنوات إلى ذلك العمل المجيد الذي كان محسوباً يوم ذاك من الجنايات ومن السهل على الإنسان أن ينق سعداً حين يعارض الهجوم على تقرير التدريس باللغة العربية في جميع المدارس المصرية قبل إعداد الكتب وإعداد المدرسين والنظر في عواقب هذا التبديل؛ ولكن من السهل أيضاً أن يعلم الإنسان أن المستطاع هو المستطاع وإن سعداً قد عمل في سبيل اللغة العربية والتمهيد لتدريسها جهد ما يعمله وزير في تلك الأيام، وإن مدرسة مصطفى كامل نفسها لم تكن تستغني بالمدرسين المصريين عن المدرسين الإنكليز، اعتماداً على ما كان يقال في ذلك الحين من أن تدبير الدراسة والكتب المدرسية ليس بالأمر العسير. هذه ملاحظاتنا على موازين الأستاذ الرافعي في تاريخ هذه الفترة، فهو يمسح من هذا التاريخ كل ما يبين وجه الصواب عند من خالفوا صاحب السيرة في الأساس أو التفصيل، ويثبت من جهة أخرى ظنوناً لا ثبوت لها لتقرير الصواب في جانب المؤيدين والمناصرين. ومع هذا نقول أن مكتبة (النهضة القومية) لا تكمل بغير كتاب الأستاذ عن مصطفى كامل، لأنه يشتمل على وقائع صحيحة وأسانيد صادقة وملاحظات قيمة.
أما المواضع التي ينحرف فيها بعض الانحراف عن سنته في الإنصاف والتمحيص، فليس للقارئ أن يطلب الحق كله من كتاب واحد، ولا سيما في تاريخ تختلف فيه الميول والآراء. عباس محمود العقاد

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن