أرشيف المقالات

تفسير الربع الثالث من سورة الأحزاب

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*]
الربع الثالث من سورة الأحزاب
 
• الآية 28، والآية 29: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ ﴾ اللاتي اجتمعنَ عليك، يَطلُبنَ منك زيادة النفقة، ولم يكن عندك ما تُوَسِّع به عليهنَّ: ﴿ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ﴾ - من لذيذ الطعام والشراب، وحُلِيِّ الزينة وغير ذلك -: ﴿ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ﴾ يعني أُعطيكنَّ شيئًا مما عندي من الدنيا (بقدر استطاعتي) ﴿ وَأُسَرِّحْكُنَّ ﴾ يعني: أطلِّقكن ﴿ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ أي أُفارقكُنَّ دونَ إيذاءٍ بالقول أو الفِعل، ﴿ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾: يعني إن كنتنَّ تُرِدْنَ رضا الله ورضا رسوله والجنة: فاصبِرْنَ ولا تنظرنَ إلى ما عند غيركنَّ من النساء ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ ﴾ - اللاتي يُطِعنَ اللهَ ويُحسنونَ عِشرة رسوله - ﴿ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (وهو المقامات العالية مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة) (وقد اخترنَ اللهَ ورسوله وما أعدَّ اللهُ لهنَّ في الدار الآخرة، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم)، ولهذا أكرمهنَّ الله تعالى وأنزل على رسوله: ﴿ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ [الأحزاب: 52].
 
• الآية 30، والآية 31: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ أي بمعصيةٍ ظاهرة (ومِن ذلك عدم طاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو سُوء خُلُق يَتأذى به): ﴿ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ أي عذابًا مُضاعَفًا على عذاب غَيركنَّ مِمَّن آذَينَ أزواجهنَّ (وذلك لمكانتكنَّ الرفيعة عند الناس، ولأنكنَّ قدوة لسائر النساء، فإنَّ صاحب العِلم والمنزلة العالية يُستقبَح منه الذنب أكثر من غيره، ويُضاعَف له العذاب عليه)، ﴿ وَكَانَ ذَلِكَ ﴾ - أي مضاعفة العذاب - ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾، ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ يعني: ومَن تُطِع منكنَّ اللهَ ورسوله (بفعل الأوامر وتَرْك النَواهي) ﴿ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ﴾ من النوافل والخَيرات: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ﴾ يعني نُعْطها جزاءَ عملها الصالح ضِعف ثواب غيرها من سائر النساء، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ وهو الجنة، (وهذه بشارة بالجنة لنساء النبي، أمَّهات المؤمنين، اللاتي نزلتْ هذه الآيات بشأنهنَّ).
 
• الآية 32، والآية 33، والآية 34: ﴿ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ - في الفضل والمنزلة - ولكنْ بشرط: ﴿ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ﴾: يعني إنْ عملتنَّ بطاعة الله وابتعدتنَّ عن معاصيه، ﴿ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾: أي لا تتحدثنَ مع غير المحارم بصوتٍ رقيق ﴿ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾: أي حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض الشهوة الحرام، (وهذا أدب واجب على كل امرأة مؤمنة)، ﴿ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ يعني إذا اضطرتْ المرأة للحديث مع غير المحارم، فعليها أن تتحدث بصوت منخفض، أقرب إلى الغِلظة (ليس فيه رِقَّة)، ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ يعني: والْزَمْنَ بيوتكنَّ (فلا تخرجنَ منها إلا لحاجة)، ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾: أي لا تُظهرنَ مَحاسنكن، كما كان يفعل نساء الجاهلية الأولى في الأزمنة السابقة على الإسلام، (وهذا خطاب للنساء المؤمنات في كل عصر)، ﴿ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ ﴾ بأركانها وفي أوقاتها، ﴿ وَآتِينَ الزَّكَاةَ ﴾ لمُستحِقِّيها، ﴿ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ في كل أمْرٍ ونهي، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ﴾ بهذه الوصايا التي وصاكنَّ بها ﴿ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ أي ليُبعد عنكنَّ الأذى والسوء والشر يا أهل بيت النبي (وهم زوجاته عليه الصلاة والسلام وذريته) ﴿ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ يعني: وليُطهِّر نفوسكم وقلوبكم غاية الطهارة، ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾: أي اذكُرنَ ما يُقرأ في بيوتكنَّ من القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واعملنَ به، واقدُرْنه حقَّ قَدْره، فهو من نِعَم الله عليكنَّ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا ﴾ بكُنَّ؛ إذ جعلكنَّ في البيوت التي يُقرأ فيها القرآن والسُنَّة، ﴿ خَبِيرًا ﴾ بكُنَّ، حيثُ اختاركنَّ أزواجًا لرسوله.

• الآية 35: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾ (وهم المُنقادون والمُنقادات لأوامر ربهم)، ﴿ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ (وهم المُصَدِّقونَ العاملونَ بشرع الله تعالى)، ﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ﴾ (وهم المُطيعون والمُطيعات لله ورسوله)، ﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ﴾ في أقوالهم وأفعالهم ونيَّاتهم وتوبتهم، ﴿ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ﴾ عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يُصيبهم مِن مِحَنٍ وبَلاءٍ، لتكفير ذنوبهم أو رفع درجاتهم، ﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ (وهم الخائفون والخائفات من عذاب ربهم)، ﴿ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ﴾ بإخراج الزكاة المفروضة والصدقات المُستحَبَّة، ﴿ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ﴾ في الفرض والنَّفْل، ﴿ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ ﴾ ﴿ وَالْحَافِظَاتِ ﴾ لفروجهنَّ (عن الزنى ومُقدِّماته، وعن كشف العورات)، ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ﴾ (بقلوبهم وألسنتهم) في غالب أوقاتهم: ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ أي لهؤلاء - المذكور صفاتهم - ﴿ مَغْفِرَةً ﴾ لذنوبهم ﴿ وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ وهو الجنة.
 
• الآية 36: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ﴾ يعني إذا حَكَمَ الله ورسوله فيهم حُكمًا ﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ أي: ما كانَ لهم أن يُخالفوا أمْرَ ربهم ورسوله (بأن يختاروا غير الذي حُكِمَ فيهم)، (ومِن ذلك قول بعض الفتيات إذا أُمِرْنَ بالحجاب: سوف أرتدي الحجاب عندما أقتنع)!! تقتنعينَ بماذا؟!، تقتنعينَ بأمر الله تعالى؟! ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ أي بَعُدَ عن طريق الصواب بُعْدًا ظاهرًا.

• الآية 37: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾: أي اذكر أيها النبي حين قلتَ للذي أنعم الله عليه بالإسلام - وهو زيد بن حارثة الذي تبنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم - ﴿ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ﴾ أيها النبي بالعِتق، وقلتَ له حين جاءك يشكو إليك زوجته "زينب بنت جحش": ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾: يعني أَبْقِ زوجك ولا تُطلِّقها ﴿ وَاتَّقِ اللَّهَ ﴾ يا زيد، ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ﴾ يعني: وتُخفي يا محمد في نفسك ما أوحاه الله إليك (مِن أنّ زَيْدًا سيُطلقها وأنَّ الله سيُزَوِّجها لك)، والله تعالى مُظهِرٌ ما أخفيتَه في نفسك، ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ ﴾ أي تخاف أن يقول المنافقون: (تزوج محمد مُطلَّقة مُتبَنَّاه) ﴿ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ﴾ يعني: فلمَّا قضى زيدٌ حاجته منها بالزواج، ولم يَبق له رغبة فيها، بل صارت كل رغبته أن يُفارقها، ثم طَلَّقها وانتهت عِدَّتها: ﴿ زَوَّجْنَاكَهَا ﴾ أيها النبي ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ﴾: يعني حتى لا يكون على المؤمنين ذنبٌ في أن يتزوجوا من زوجات مَن كانوا يتبنَّوْنهم ﴿ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾ (أي بعد طلاقهنَّ وانتهاء عِدَّتهنَّ)، ولتكون أيها الرسول قدوة للمؤمنين في إبطال عادة الجاهلية (التي كانت تُحَرِّم الزواج بزوجة المُتبنَّى بعد طلاقها)، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ يعني: إنَّ ما قضاه الله تعالى واقعٌ لا مَحالة.
 
♦ واعلم أن أمُّ المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تقول: (زَوّجَني اللهُ تعالى من فوق سبع سماوات)، واعلم أيضًا أن زيد بن الحارثة رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد المذكور في القرآن، في قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا)، ولَعَلَّ السبب في ذلك أنه لما تبَنَّاه النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدعَى بـ (زيد بن محمد)، ثم عندما أبطل الله التبني أصبح يُدعَى بـ (زيد بن حارثة)، ونُزِعَ منه لقب (زيد بن محمد)، فذَكَرَ الله اسمه في القرآن جَبرًا لخاطره.

• الآية 38، والآية 39:﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ﴾ (والمقصود هنا: ما أحلَّه الله له من زواج امرأة مُتبنَّاه بعد طلاقها)، فقد كانت هذه ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ﴾ (إذ أباحَ الله ذلك للأنبياء الذين مضوا قبله)، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ أي قدَرًا مُقدَّرًا لا بد من وقوعه.

♦ ثم أثنى سبحانه على هؤلاء الأنبياء الماضين بأنهم: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾ إلى الناس، ﴿ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾ أي يخافون الله تعالى ﴿ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾ (فلا يخافون لومة لائم عند تبليغهم لرسالة ربهم أو فِعل ما أَذِنَ لهم)، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾: أي كفى به محاسبًا لأنبياءه على تبليغهم لرسالاته، إذًا فلا يخافوا قول الناس عند تنفيذهم لِما أمَرَهم الله به.

• الآية 40: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ (لا زيد ولا غيره)، فلذلك لا يَحرُم عليه أن يتزوج مُطلَّقة زيد، لأنه ليس ابنه، ﴿ وَلَكِنْ ﴾ كانَ محمدٌ ﴿ رَسُولَ اللَّهِ ﴾ ﴿ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (إذ لا نُبُوَّة بعده إلى يوم القيامة)، فلو كان له ولدٌ ذَكَر: لكانَ من الممكن أن يكون نبيًّا بعده (كما كان أولاد إبراهيم وإسحق ويعقوب وداوود عليهم السلام)، ولكنْ لمَّا أراد الله أن يختم الرسالات برسالته صلى الله عليه وسلم لم يأذن ببقاء أحد من أولاده، بل توفاهم صغارًا، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ (فما أخبر به سبحانه هو الحق، وما حَكَمَ به هو العدل، وما شَرَعه لكم هو الخير، ألَا فسَلِّموا له في قضائه وحُكمه).
 
• من الآية 41 إلى الآية 44: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ﴾ بقلوبكم وألسنتكم ﴿ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ في جميع أحوالكم، ﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾: أي اشغلوا أوقاتكم بذكر الله في الصباح والمساء، وبعد الصلوات المفروضات، وفي غير ذلك من الأوقات (بالأذكار والأدعية التي صَحَّتْ عن النبي صلى الله عليه وسلم).
 
♦ واعلم أن الله تعالى قد أمَرَ المؤمنين بذكره ذِكرًا كثيرًا، لأنه قد وصف المنافقين بأنهم ﴿ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[النساء: 142]، فالذكر الكثير براءةٌ من النفاق، وهو خيرُ مُعِين على إصلاح القلوب وفِعل الطاعات، وكَفِّ اللسان عن الآثام، فإن العَبدَ لا بد له مِن أنْ يتكلم، فإنْ لم يتكلم بذِكر الله تعالى وذِكر أوامره: تكَلَّمَ بالأشياء المُحَرَّمَة (كالغِيبة والنَمِيمة والكَذِب والباطل)، فلا سبيلَ إلى السلامة من هذه المُحَرَّمات إلا بذكر رب الأرض والسماوات، فمَن عَوَّدَ لسانه ذِكرَ الله: صَانَ لسانَهُ عن اللغو والباطل.
 
♦ واعلم أنّ حقيقةُ الذِكر: أنْ تستشعرَ - وأنت تذكر الله - أن العبدَ الفقير يذكرُ الربَّ الغني، وأن العبدَ الذليل يذكرُ الربَّ العزيز، وأن العبدَ الضعيف يذكرُ الربَّ القوي، وأن العبد الذي لا يَملك لنفسِهِ شيئًا يذكرُ الربَّ القدير الذي بيده ملكوتُ كل شيء، فكأنَّ لسانَ حالِكَ يقول: (أسألُكَ بعِزِّك وذُلِّي، وقوتك وضعفي، وقُدرَتِكَ وعَجزي، وفقري إليك وغناك عني أنْ تعفوَ عني وترحمَني).
 
﴿ هُوَ ﴾ سبحانه ﴿ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ﴾ أي يَغفر لكم أيها المؤمنون، ﴿ وَمَلَائِكَتُهُ ﴾ تدعو لكم وتستغفر لكم ﴿ لِيُخْرِجَكُمْ ﴾ سبحانه ﴿ مِنَ الظُّلُمَاتِ ﴾ أي ظلمات الجهل والضلال ﴿ إِلَى النُّورِ ﴾ أي نور العلم والإيمان، ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ في الدنيا والآخرة (فلا يُعَذِّبهم ما داموا مطيعينَ لأمره مُخلصينَ له)، ﴿ تَحِيَّتُهُمْ ﴾ من الله تعالى ﴿ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ﴾ (في الجنة) هي قوله لهم: ﴿ سَلَامٌ ﴾ (أي سَلِمْتم من الخوف والحزن والتعب، ومِن كل سُوء) ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴾ وهو الجنة.

• من الآية 45 إلى الآية 48: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ﴾ على أمَّتك بإبلاغهم الرسالة ﴿ وَمُبَشِّرًا ﴾ للمؤمنين بالرحمة والجنة، ﴿ وَنَذِيرًا ﴾ للعُصاة والمُكَذِبين من النار﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾ (يعني إلى توحيده وطاعته) ﴿ بِإِذْنِهِ ﴾ أي تفعل ذلك بأمره إياك وتكليفه لك، ﴿ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ إذ تُنير الطريق لمن اتَّبع هَدْيك (لأن الحق الذي جئتَ به ظاهرٌ كالشمس في إشراقها وإضاءتها، لا يَجحده إلا مُعانِد)، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾ أي ثوابًا عظيمًا (وهو روضات الجنات)، ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ فيما يطلبونه منك ويقترحونه عليك مما يتناقض مع دَعْوتك ورسالتك ﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾: أي اترك أذاهم (فلا تهتم به، ولا تقابله بأذًى مثله)، بل اصبر عليهم حتى يأمرك ربك بما تقوم به نحوهم، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾ أي اعتمد على ربك وفَوِّضْ أمورك إليه، وثِق بنصره وحِفظه، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ فإنه يكفيك ما أهمَّك من أمور الدنيا والآخرة.

• الآية 49: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ يعني إذا عقدتم عليهنَّ ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ أي مِن قبل أن تُجامعوهن: ﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ يعني: فليس هناك عِدَّة تعُدُّونها عليهنَّ بعد هذا الطلاق، (إذ العِدَّة تكونُ للمدخول بها لمعرفة ما في الرَّحِم، وأما غير المدخول بها فمعلومٌ أن رَحِمها خالية)، فلها أن تتزوج بعد هذا الطلاق مباشرةً، (وإذا أراد المُطَلِّق أن يَرجع إليها، فيَلزَمه لذلك عقدٌ جديد)، ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾: أي أعطوهن شيئًا مِن مالكم يَتمتعن به (بحسب غِنَى المُطلِّق وفقره)، ليكون عِوَضًا عمَّا فاتهنَّ من الزواج، ودفعًا لوَحشة الطلاق، وإزالةً للأحقاد)، ﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾: أي خلُّوا سبيلهن مع السِتر الجميل (دونَ أن تذكروهنَّ بسوء).



[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرُّف)، عِلمًا بأنَّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحديًا لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمَّن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحيانًا نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١