أرشيف المقالات

يا أذن الحي اسمعي!

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
8 أوشكت هذه الصفحة أن تحترق لطول ما أنَّ عليها الفقر وزفر فيها الشقاء، وأغنياؤنا - أحياهم الله - لا يسمعون لأن آذانهم مبطنة بالذهب الأصم، ولا يشعرون لأن قلوبهم مغلفة بالورق المالي الصفيق؛ وبال الخليّ أطول من ليل الشجيّ، وسمع الناعم أثقل من همّ الشقى، ودنيا اللذة أشغل بمباهجها وملاهيها عن دنيا الألم! لعل من القارئين من يختلج في رأسه هذا السؤال: لماذا يمتد نفَسي بهذا الأنين الموجع، ويستمد قلمي من هذا الدمع القانىء؟ وجوابي أني نشأت في قرية من أولئك القرى العشرين التي سلط القدر عليها الباشا والأمير؛ فانشق بصري على مناظر البؤس، وتنبَّه شعوري على مآسي الجور؛ وعلمت حين تعلمت أن وطننا يفيض بالخير، وديننا يأمر بالإحسان، فأيقنت أن فقر الناس، ناشئ من فقر الإحساس؛ فإذا عرف الفقير حقه، والغني واجبه، تلاقت الأنفس على حدود الإنسانية الكريمة، فأنا أحاول بمواصلة هذا الأنين أن أعالج وقْر المسامع وسدَر العيون وخدَر المشاعر، عسى أن يتذكر المترفون أن لهم اخوة من خلق الله يأكلون ما تعاف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء مالا يقاسيه حيٌّ في غير مصر.
ولكني علمت وا حسرتاه بعد شهرين مضيا في الشكوى والاسترحام، أن بين أبناء الذهب وأبناء التراب أطباقاً من اللحم والشحم، والحديد والأسمنت، ترتد عنها أصوات الضارعين أصداءً خافتة؛ ثم تتجاوب هذه الأصداء في أكواخ المساكين؛ ثم تتهافت على بريد الرسالة تهافت الأرواح الهائمة على الشعاع الهادي تتلمس في ضوئه الطريق إلى الله وائِلِ الضعيف وعائل المعدم! من لنا بمن يفتح عيون السادرين على هؤلاء الأيامى اللاتي يقضين ليل الشتاء البارد الطويل على بلاط الأفاريز وقد تطرح أطفالهن على جنوبهن طاوين ضاوين لا يفهمون عطف الأب، ولا يعرفون دفء البيت، ولا يدركون إلا أنهم أجساد تعرى ولا تجد الكساء، وبطون تخوى ولا تصيب الغذاء، وأكف تمتد ولا تنال الصدقة؟ من لنا بمن يفتح قلوب المالكين لأولئك الفلاحين الذين اصطلحت عليهم محن الدنيا وبلايا العيش، وجهلتهم الحكومة فلا يعرفهم إلا جباة الضرائب في المالية، وفرازو القرعة ف الحربية، وحراس السجون في الداخلية! أما المعارف والصحة والأوقاف والأشغال فشأنها شأن المترفين والمثقفين لا تعرف غير المدينة ولا تعامل غير المتمدن؟ من لنا بمن يقول لهؤلاء المثرين المستكبرين إن ركفلر ورتشلد لم يرفعهما إلا حب الإنسان، وإن الدمرداش والمنشاوي لم يخلدهما إلا بذل الإحسان، وإن لديهم من فضلات الثروة كربح الأموال في المصارف، ومكافأة النيابة في البرلمان، وحثالة الزروع في العزب من التبن والقش والحطب، ما يوفر الغذاء والدواء والعلم لألوف الألوف من بني الوطن؟ بالأمس كانت ذكرى وفاة المرحوم السيد عبد الرحيم الدمرداش، وهو والمنشاوي وبدراوي سمنود من ملائكة الأرض الذين يرفرفون بأجنحتهم النورانية على شقاء الكثير من الناس.
فلماذا لا يقام لهؤلاء الخيِّرين البررة وأمثالهم تماثيل في الميادين العامة، ليتشبه بهم الغني، ويترحم عليهم الفقير، وليكون في رفع ذكراهم على هذا النحو إعلاء لمعنى الإحسان، وإطراء لأريحية المحسن، وتفريق بين من دَلَله الوطن فعقَّ، وبين مَن رباه الوطن فبرَّ، فلا تستوي الحسنة ولا السيئة، ولا ينبغي (أن يكون المحسن والمسيء بمنزلةٍ سواء، فإِن في ذلك تزهيداً للمحسن في إحسانه، وتدريباً للمسيء على إساءته) احمد حسن الزيات

شارك الخبر

مشكاة أسفل ١