الأخلاق في الإسلام
مدة
قراءة المادة :
34 دقائق
.
تحميل ملف الكتاب (انقر الرابط بالزر الأيمن للفأرة واختر "حفظ الهدف باسم" أو "Save Target As")الأخلاق في الإسلام
عبارة عن المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني، والتي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على الوجه الأكمل والأتم ويتميز هذا النظام الإسلامي في الأخلاق بطابعين:
الأول: أنه ذو طابع إلهي، بمعنى أنه مراد الله سبحانه وتعالى.
الثاني: أنه ذو طابع إنساني أي للإنسان مجهود ودخل في تحديد هذا النظام من الناحية العملية.
وهذا النظام هو نظام العمل من أجل الحياة الخيرية، وهو طراز السلوك وطريقة التعامل مع النفس والله والمجتمع.
وهو نظام يتكامل فيه الجانب النظري مع الجانب العملي منه، وهو ليس جزء من النظام الإسلامي العام بل هو جوهر الإسلام ولبه وروحه السارية في جميع نواحيه: إذ النظام الإسلامي - على وجه العموم - مبني على مبادئه الخلقية في الأساس، بل إن الأخلاق هي جوهر الرسالات السماوية على الإطلاق فالرسول صلى الله عليه وسلم يقو: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فالغرض من بعثته صلى الله عليه وسلم هو إتمام الأخلاق، والعمل على تقويمها، وإشاعة مكارمها، بل الهدف من كل الرسالات هدف أخلاقي، والدين نفسه هو حسن الخلق.
ولما للأخلاق من أهمية نجدها في جانب العقيدة حيث يربط الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بين الإيمان وحسن الخلق، ففي الحديث لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أفضل إيمانا؟ قال صلى الله عليه وسلم: ( أحسنهم أخلاقاً ).
ثم إن الإسلام عدّ الإيمان برا، فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( البر: حسن الخلق ).
والبر: صفة للعمل الأخلاقي، أو هو اسم جامع لأنواع الخير.
وكما نجد الصلة بين الأخلاق والإيمان، نجدها كذلك بين الأخلاق والعبادة إذ إن العبادة روح أخلاقية في جوهرها لأنها أداء للواجبات الإلهية، ونجدها في المعاملات وهي الشق الثاني من الشريعة الإسلامية بصورة أكثر وضوحاً.
وهكذا نرى أن الإسلام قد ارتبطت جوانبه برباط أخلاقي، لتحقيق غاية أخلاقية الأمر الذي يؤكد أن الأخلاق هي روح الإسلام، وأن النظام التشريعي الإسلامي هو كيان مجسد لهذه الروح الأخلاقية.
الخلق نوعان:
أ- خلق حسن: وهو الأدب والفضيلة وتنتج عنه أقوال، وأفعال جميلة عقلا وشرعاً.
ب- خلق سيئ: وهو سوء الأدب والرذيلة وتنتج عنه أقوال، وأفعال قبيحة عقلا وشرعاً.
ولقد جاءت دعوته صلى الله عليه وسلم إلى فضائل الأخلاق سامية زاكية، فقد روي عن أسامة بن شريك قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله تعالى؟ قال:( أحسنهم خلقاً ).
حسن الخلق من أكثر الوسائل وأفضلها إيصالاً للمرء للفوز بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والظفر بقربه يوم القيامة حيث يقول: ( إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً ).
الأخلاق والممارسة الإيمانية:
إن الأخلاق في الإسلام لا تقوم على نظريات مذهبية، ولا مصالح فردية، ولا عوامل بيئية تتبدل وتتلون تبعا لها، وإنما هي فيض من ينبوع الإيمان يشع نورها داخل النفس وخارجها، فليس الأخلاق فضائل منفصلة، وإنما هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة، عقيدته أخلاق، وشريعته أخلاق، لا يخرق المسلم إحداها إلا أحدث خرقا في إيمانه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن ).
وسئل صلى الله عليه وسلم: أيكذب المؤمن؟ قال: ( لا) ثم تلا قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105].
فالأخلاق دليل الإسلام وترجمته العملية، وكلما كان الإيمان قوياً أثمر خلقا قوياً.
دوام الأخلاق وثباتها:
كما أن الأخلاق في الإسلام ليست لونا من الترف يمكن الاستغناء عنه عند اختلاف البيئة، وليست ثوبا يرتديه الإنسان لموقف ثم ينزعه متى يشاء، بل إنها ثوابت شأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب لا تتغير بتغير الزمان لأنها الفطرة ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].
طبيعة السلوك الإنساني:
الإنسان مخلوق مزدوج الطبيعة فهو من طين وروح وهو كذلك مزدوج الاستعداد.
وهو مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، وإنه قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر على وجه الإجمال غالباً، قال تعالى: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 8] وقال تعالى: ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 10] وبجانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة، فإن هناك قوة واعية مدركة مغروسة في البشر، فمن استخدمها في تزكية نفسه وتطهيرها من الشر أفلح، ومن أخمد هذه القوة خاب وخسر، قال الله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].
السلوك وأنواعه:
السلوك: هو عمل الإنسان الإرادي المتجه نحو غاية معينة مقصودة، تهدف إلى تحقيق مطالب جسدية أو نفسية أو روحية أو فكرية.
والسلوك نوعان:
1- خلقي: وهو ما كان نابعا عن صفة نفسية قابلة للمدح أو الذم كإعطاء الفقير، والإنفاق في وجوه الخير حال كونه نابعا عن جود وكرم، وكذلك الإقدام دفاعا عن الحق، وإزهاقا للباطل حال كونه نابعا عن الشجاعة، فهذه صفات حميدة لأنها من فضائل الأخلاق، فآثارها تابعة لها في الحكم.
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يحقرن أحدكم نفسه) قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ( يرى أن عليه مقالاً، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول كذا أو كذا؟ فيقول: خشيت الناس، فيقول الله: فإياي كنت أحق أن تخشى ).
2- سلوك إرادي غير خلقي: منه ما هو استجابة لغريزة جسدية كالأكل المباح عن جوع، والشرب المباح عن ظمأ، فقد يجوع الإنسان فيأكل ملبيا حاجة عضويته.
وهنا نقول: إن تناوله للطعام بتأثير دوافع الجوع سلوك لا علاقة له بميزان الأخلاق إيجابا أو سلباً، ولكن شرهه الزائد عن الحاجة والموقع له في المضرة سلوك ناتج عن خلق غير محمود، أما قناعته فيه والتزامه بمقدار الحاجة -ذلك بضبط نفسه عن دوافع الشره - سلوك أخلاقي كريم، ناشئ عن قوة إرادته العاقلة التي تمنعه عن مواقع الضرر.
ومن هذا يتبين لنا الآتي:
1- أن السلوك إما أن يكون سلوكا خلقيا، وإما يكون سلوكا لا علاقة له بالأخلاق.
2- أن السلوك الإرادي غير الخلقي يكون استجابة لغرائز، شريطة أن يكون على قدر الحاجة بلا زيادة ولا نقصان.
فمثلا: الأكل قدر الحاجة سلوك إرادي خلقي إذا كان استجابة لغريزة الجوع، فإذا زاد عن الحاجة أو نقص تحول إلى سلوك أخلاقي ذميم عند الزيادة، لأنه نابع عن صفة مرذولة هي الشره، أما عند النقص فيكون محموداً إذا كان نابعا عن قناعة مع نية صالحة لأنها من الفضائل.
الأخلاق بين الجبلة والاكتساب:
إن الأخلاق ليست مكتسبة على إطلاقها، كما أنها ليست موهوبة على إطلاقها وإنما تتضافر الفطرة السليمة مع دلالة العقل التام السوي في إدراك وتقرير جانب من الأخلاق ثم يأتي دور الشرع ليكمل الفطرة، ويحمي العقل، ويضع الضوابط العامة، التي ترقى بالفرد والمجتمع من الوجهة الخلقية.
والناس بفطرتهم - مع توفير الظروف الملائمة - يميلون إلى النماذج والصفات الخلقية الخيرة، ويشعرون بالراحة التامة عند ممارسة مثل هذه الأدوار التي توصف بالعدل والحق والجمال، كما ينفرون بفطرتهم، من الاتجاهات الخلقية الشاذة، ويتذمرون من النماذج الخلقية المنحرفة، إذ يشعرون بغرابتها على فطرتهم، ومناقضة تلك النماذج لها.
وكذلك فإنه إذا ما التقت طبيعة القوى الفطرية هنا مع وظيفة العقل، فإنه يكون ماضيا في تحقيق كماله الوظيفي في الجانب العملي.
ومع هذا فإن أثر هذين الجانبين الفطري والعقلي في مجال الأخلاق يظل ناقصا تماما، وغير قادر على تحقيق الكمال الإنساني المنشود، ومن ثم يأتي دور الشرع ليكمل الفطرة ويقوم العقل، ويرشد أحكامه، وبذلك تصبح معالم الشرع وتوجيهاته، مع سلامة الفطرة وصحة النظر العقلي ركائز تتضافر في بناء الكمال الخلقي للإنسان.
من خلال العرض السابق يتبين لنا أن الأخلاق تنقسم إلى قسمين:
الأول: الأخلاق الفطرية:
وقد دلت أحاديث كثيرة على أن من الأخلاق ما هو فطري، يتفاضل به الناس في أصل تكوينهم الفطري، ومن ذل:
ما روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وهذا الحديث دليل على فروق الهبات الفطرية الخلقية، وفيه يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن خيار الناس في التكوين الفطري هم أكرمهم خلقا، وهذا التكوين الخلقي يرافق الإنسان ويصاحبه على جميع أحواله.
وروي عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: ( إن الأمانة نزلت في جدر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ).
في هذا الحديث بيان عن الأمانة في الناس وعما تصير إليه فيهم، فقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة من حقائق التكوين الخلقي الفطري في النا، وهذه الحقيقة تثبت أن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء.
وقوله صلى الله عليه وسلم للمنذر بن عازر: ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) فقال يا رسول الله كان بي أم حدثا؟ قال: ( بل قديم) فقال الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما.
مواقف عملية شاهدة على الأخلاق الفطرية:
أ- هذا أبو بكر رضي الله عنه لم يشرب الخمر قط، ولما سئل: بم كان يتجنبها في الجاهلية فقال: ( كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعا في عقله ومروءته ).
ب- وهذه خديجة رضي الله عنها حين جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول نبوءته وهو يقول: ( زملوني، زملوني) قالت: ( والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم، وتعيين على نوائب الدهر ).
ت- ومن خلال المثالين السابقين نلاحظ إن ذلك كان قبل البعثة ومع ذلك كانت هناك آداب وأخلاق متأصلة فيهم وقد أقرها الشرع فيما بعد، مثل الكرم، وإكرام الضيف وغيره مما اتصف به العرب قبل البعثة.
ث- وحين بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء قال: (بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً) إلى أن قال: ( ولا تزنين) قالت هند بنت عتبة: هل تزني الحرة؟ فسؤالها يدل على أنفة وعفة وطهارة، وتلك هي الفطرة السوية التي فطرهن الله عليها تعرف الحق، وتتجه للخير.
والفطرة حين تسلم من العوارض المشوشة عليها، والتأثيرات المخدرة لها وتسقط عنها الحوائل، فإنها عندئذ تستقيم لربها وتعرف الحق، وتدعو إلى كل خلق جميل.
الأخلاق المكتسبة:
فكما أن هناك أخلاق فطرية، كذلك بإمكان أي إنسان أن يكتسب بعض الفضائل والأخلاق، وذلك بالتربية المقترنة بالإرادة والقيم، والناس في ذلك متفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم في سلم الفضائل كما أن كل إنسان عاقل يستطيع بما وهبه الله من استعداد عام أن يتعلم نسبة من العلوم، والفنون وأن يكتسب مقداراً ما من أي مهارة عملية من المهارات.
وتفاوت الاستعداد والطبائع لا ينافى وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار من الصفات الخلقية، وفي حدود هذا الاستعداد العام، وردت التكاليف الشرعية الربانية العامة، ثم ترتقي من بعده مسؤوليات الأفراد بحسب ما وهب الله كللا منهم من فطر، وبحسب ما وهب كلا منهم من استعدادات خاصة، ووفق هذا الأساس، وضع الإسلام قواعد التربية على الأخلاق الفاضلة.
أهمية الأخلاق في حياة البشر:
إن أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين سعداء ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة.
ولو فرضنا وجود مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط، من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى، فإنه لا بد لسلامة هذا المجتمع من خلقي الثقة والأمانة على أقل التقدير.
فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان، تفكك أفراد المجتمع، وتصارعوا، وتناهبوا مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم الدمار.
فإذا كانت الأخلاق ضرورة في نظر المذاهب والفلسفات الأخرى فهي في نظر الإسلام أكثر ضرورة وأهمية، ولهذا فقد جعلها مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، فهو يعاقب الناس بالهلاك في الدنيا لفساد أخلاقهم.
قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾ [يونس: 13] وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117] بل إن الإسلام يخضع الأعمال العلمية للمبادئ الأخلاقية، سواء كان ذلك في مجال البحث أو في مجال النشر لتوصيله للناس.
ولقد أهتم الإسلام بالأخلاق لأنها أمر لابد منه لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحيتين المادية والمعنوية، فالإنسان -دائما- بحاجة ماسة إلى نظام خلقي يحقق حاجته الاجتماعية، ويحول دون ميوله ونزعاته الشريرة ويوجهه إلى استخدام قواه في مجالات يعود نفعها عليه وعلى غيره.
إن الإسلام يدرك تمام الإدراك ماذا يحدث لو أهملت المبادئ الأخلاقية في المجتمع، وساد فيه الخيانة والغش، والكذب والسرقة، وسفك الدماء، والتعدي على الحرمات والحقوق بكل أنواعها، وتلاشت المعاني الإنسانية في علاقات الناس، فلا محبة ولا مودة، ولا نزاهة ولا تعاون، ولا تراحم ولا إخلاص.
إنه بلا شك سيكون المجتمع جحيما لا يطاق، ولا يمكن للحياة أن تدوم فيه، لأن الإنسان بطبعه محتاج إلى الغير، وبطبعه ينزع إلى التسلط والتجبر والأنانية والانتقام.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 205] لذا جاء الإسلام بأسس ومعايير يتحتم علينا السير وفقا لها وهي ليست أسسا ومعايير وضعية، وإنما وحي يوحى على هيئة أوامر ونواه ومباحات ومحظورات فمن أطاع الله أثابه ومن عصاه عاقبه.
وتمتاز الأخلاق الإسلامية بأنها واقعية عملية وليست مثالية، كما أنها تؤكد حرية الإنسان واختياره ومسئوليته عن فعله، وتتميز أيضا بأنها إيجابية شاملة بعيدة عن الانحراف والغلو، وهي بذلك صالحة لكل زمان ومكان.
كما أن الإسلام شرع أحكاما لحماية المجتمع من التردي الخلقي الذي يؤدى إلى الهلاك، وذلك واضح في العقوبات الحدية والتعزيرية.
الإلزام الخلقي:
الإلزام من أهم الأسس التي يقوم عليها النظام الأخلاقي في الإسلام.
والإلزام: هو الالتزام من الإنسان في مواجهة البشرية كلها بناء على كونه مكلفا في هذه الحياة، وله أمانة ورسالة وله حرية الإرادة التي تحكم عمله، وتكون مناطا للجزاء، لذا كان الالتزام الأخلاقي أبرز معالم المسئولية الفردية.
أما أهميته فهو دعامة الأخلاق الكبرى، وتتضح ذلك في المعاني التالية:
1- إن زوال فكرة الإلزام يقضي على جوهر الغاية التي تحققها الأخلاق، فإذا انعدم الإلزام انعدمت المسؤولية، وإذا انعدمت المسؤولية ضاع كل أمل في وضع الحق في نصابه وإقامة العدالة.
2- إن الخير الأخلاقي متميز بتلك السلطة الآمرة تجاه الجميع بتلك الضرورة التي يستشعرها كل فرد - أيا كانت الحالة الراهنة لشعوره - وهي ضرورة تجعل من العصيان أمراً حقيقياً مستهجناً.
مصادر الإلزام الخلقي:
استكمل القرآن طرق الإلزام وأنواعها، وسلط الوازعات على عقل المؤمن ثم على قلبه وضميره، ونفسه وغرائزه، وطباعه وحسده، فانتزع الدواء من مكمن الداء، وشمل بهذا الإلزام الكبائر والصغائر، والأخلاق والآداب، وجعل الفرد رقيبا على نفسه وعلى المجتمع، وجعل المجتمع رقيبا على الفرد وتكاد هذه الإلزامات تنحصر في الأتي:
1- الوحي الديني: حيث أن الدين يدل الإنسان على الخير، والأخلاق الحميدة.
قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
2- العقل: فهو الذي يرشد الإنسان إلى الأخلاق الحميدة السليمة واجتناب الرذائل وقد ذكر القرآن الكريم البراهين العقلية، والحكمة في كثير من العبادات والمعاملات، من ذلك قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90، 91] وقوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44].
3- الإلزام بوازع الترهيب والترغيب: سلكت التربية الإسلامية في الإلزام بهذا الوازع طرقا كثيرة منها:
• الترهيب بانتقام الله في الدنيا من العاصي الظالم قال تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
• والترغيب بما عنده سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17] وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
4- الإلزام بوازع السلطان: إن بعض الناس لا ينفع معهم وازع العقل، ولا وازع الترغيب والترهيب، فكان لابد من وازع أعظم في نفوسهم هو وازع السلطان، وهو العقوبات التي فرضتها الشريعة، وفوض أمرها إلى الحاكم.
يقول الله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38] ويقول تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ [النور: 2] فاجتماع الوازعات كلها في الإسلام استكمال لطرق الإلزام لكل من سول له شيطان الهرب من أمر الطاعة والالتزام.
ثبات الأخلاق الإسلامية:
يقصد بثبات الأخلاق الإسلامية: إن الفضائل الأساسية للمجتمع من صدق ووفاء وأمانة وعفة وإيثار من الفضائل الاجتماعية المرتبطة بنظام الشريعة العامة كالتسمية عند الطعام وإفشاء السلام وتحريم الخلوة بالأجنبية، كلها أمور لا يستغني عنها مجتمع كريم، مهما تطورت الحياة، وتقدم العلم بل تظل قيما فاضلة ثابتة.
إن الأخلاق في الإسلام لا تتغير ولا تتطور تبعا للظروف الاجتماعية والأحوال الاقتصادية، بل هي حواجز متينة ضد الفوضى والظلم والشر، كما قال الله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229].
أما مبررات خاصية الثبات فتتمثل في الأمور التالية:
1- لأن الفطرة البشرية ثابتة في عمر الإنسانية يرثها الأحفاد عن الأجداد (كل مولود يولد على الفطرة) فالخلق فطرة وكذلك القيم الاجتماعية ثابتة.
2- إن الأخلاق الاجتماعية نابعة عن الدين، وتصلح لجميع الناس، وتفترض الخير المطلق؛ لأن شارعها هو الله سبحانه وتعالى، الذي راعى فيها الخير العام قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
3- إن المنهج الإسلامي يقوم أساسا على عناصر ثابتة مرنة قادرة على استيعاب تغيرات الحياة بأزمانها المرتبطة بالإنسان نفسه، وبالحدود والضوابط التي لا سبيل إلى تجاوزها وفي مقدمتها قاعدة الالتزام الأساسية التي تقيم للإسلام أصوله الأخلاقية ومن هذه الأصول ثبات القيم الأخلاقية لارتباطها بالإنسان وفطرته البشرية.
آثار ثبات الأخلاق:
يترتب على خاصية الثبات في الأخلاق الإسلامية الآثار والمزايا التالية:
1- تخليص المجتمعات من ظاهرة القلق والإضرابات التي تسودها، وتمكين الأواصر الإنسانية بالود والرحمة بينهما، خلافا للمجتمعات التي تتبدل فيها القيم الاجتماعية بحسب التغيرات الاقتصادية، حيث نجدها تعيش في قلق واضطراب.
2- التفريق بين الأخلاق والتقاليد، فالأخلاق ثابتة لأنها جزء من الدين الموصى به، وهي بذلك كيان متكامل رباني المصدر، إنساني الهدف.
أما التقاليد فمن طبيعتها أن تتغير كلما تغيرت مبررات وجودها، ولكن ليس بالإمكان تغير الأخلاق، لأنها تقوم على أسس ثابتة كالحق والعدل والخير.
3- إن عامل الثبات في الأخلاق يبعث الطمأنينة في حياة الفرد، وفي حياة المجتمع.
والثبات على الأخلاق مطلوب لأن الأمور بخواتيمها وبدون الاستقامة والثبات على الحق تفوت الثمرة، ولا يصل المسلم إلى الغاية.
قيم خلقية في الإسلام:
1- العدل: أقام الإسلام المجتمع على دعائم قوية ثابتة، ومنها:
العدل بين الناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم، والعدل صفة خلقية كريمة تعني التزام الحق والإنصاف في كل أمر من أمور الحياة، والبعد عن الظلم والبغي والعدوان والعدل في الإسلام هو مما يكمل أخلاق المسلم لما فيه من اعتدال واستقامة وحب للحق وهو كذلك صفة خلقية محمودة تدل على شهامة ومروءة من يتحلى بها وعلى كرامته واستقامته، ورحمته وصفاء قلبه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90] وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وقد ورد في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم: ( تعدل بين اثنين صدقة ).
والإسلام يربأ بالمسلم عن الوقوع في أي لون من ألوان الظلم، فالظالم مطرود من رحمة الله، ولقد أوعد الله سبحانه وتعالى الظالمين بأشد العقوبات، قال تعالى: ﴿ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18] وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
كما تضمنت السنة النبوية الشريفة مجموعة من الأحاديث التي تقر العدل وتحرم الظلم منها:
• قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم ( اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ).
• وروى أبو ذر –رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ).
ومن أجل إزالة الظلم وتوطيد العدل الكامل بين الناس، قيد الله سبحانه وتعالى حرية بني البشر ببعض القيود وهي الحدود الشرعية التي جعلها واجبة التنفيذ، قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمون هذه الآية، وذلك لاستتاب العدل، كما ثبت في المرأة المخزومية القرشية التي سرقت، وقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذ الحد عليها، فعظم ذلك على رجال من قريش، فطلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تحدث أسامة إليه صلى الله عليه وسلم في أمرها، غضب صلى الله عليه وسلم وقال لأسامة مستنكراً: ( أتشفع في حد من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) ثم ختم حديثه بقوله صلى الله عليه وسلم (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها ).
وقد أعلن الإسلام مبدأ العدل في العقيدة والشريعة والأسرة والعهود والقضاء وكل شئون الحياة.
ومن هنا صار العدل التزاما للمسلم في كل ميادين حياته الروحية والمادية، ومناطا للثواب على صالح الأعمال، فالعدل الحقيقي لا يكتمل بعيدا عن شريعة الله، لأن شريعة الله تعالى هي العدل وبناء على هذا فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم يحتكم إلى قاضي وهو يعلم أنه ظالم لا مظلوم فإن جزاءه النار.
ومن مجالات العدل في الإسلام، العدل مع الأهل، وهو أن يحسن المسلم معاملات زوجته وأولاده، ويساوى بينهم، في المعاملة والعطية، ولا يفضل بعضهم على بعض، فلقد جاء في الحديث أن صحابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهد على إعطائه ابنه بستانا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أأعطيت كل أولادك مثله؟) قال الصحابي: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( فإني لا أشهد على ظلم ).
وأخيراً فلنعلم أن في توطيد العدل ومحاربة الظلم والحيلولة دون وقوعه إقرار للأمن وتحقيق للمساواة بين أفراد المجتمع، والأمر الذي يمكن لكل فرد الوصول إلى حقه دون مشقة وعناء، وإذا فقد العدل أكل الناس بعضهم حق بعض، وسادت الفتن، وكثرت الجرائم والمنكرات وأصبح كل فرد من أفراد المجتمع عرضة لاعتداء الأشرار، وضعاف النفوس، فتفقد الحياة بهجتها وجمالها.
2- الحياء:
الحياء خلق نبيل يحول بين من يتمتع به وبين فعل المحرمات وإتيان المنكرات، ويصونه من الوقوع في الأوزار والآثام وهو كذلك الامتناع عن فعل كل ما يستقبحه العقل ولا يقبله الذوق السليم، والكف عن كل مالا يرضي به الخالق والمخلوق فإذا تحلى المسلم بهذا الخلق، صحت سريرته وعلانيته، وعامل الخلق بما يرضاه مولاه، وكذلك فإن هذا المسلم الحيي لا يقبل إلا الحلال من كل شيء وفي المطعم، والمشرب، والملبس وغير ذلك.
كما يعد الحياء دليلا صادقا على مقدار ما يتمتع به المرء من أدب وإيمان، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحياء من الإيمان ).
ولقد حثت الشريعة الإسلامية المسلمين على التحلي بفضيلة الحياء وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الخلق الشريف هو أبرز ما يتميز به الإسلام من فضائل، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء).
وإذا استحكم خلق الحياء في نفس المسلم، صده عن كل قبيح وقاده إلى كل أمر حسن طيب، والحياء لا يأتي إلا بخير، أما إذا ضعف هذا الخلق فلن يحل محله إلا السفه والوقاحة والفحش، ويجد الإنسان نفسه أمام أبواب مفتوحة من السوء والمنكر فينزلق إليها لذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ).
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التمسك بخلق الحياء، فقد قال الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه واصفا رسول الله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه ).
وإذا كان الحياء من الناس حسنا، فإن الأحسن منه كثيرا أن يكون الحياء من الله تعالى لأنه يمنع الإنسان من العاصي دائما.
قد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: ( استحيوا من الله عز وجل حق الحياء) فقالوا: يا رسول الله إنا لنستحي من الله والحمد لله، قال: ( ليس كذلك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء).
وقد نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله: ( إني لأغتسل في البيت المظلم فأنطوي حياء من الله عز وجل ).
3- الحلم:
الحلم هو ضبط النفس عند الغضب، والصبر على الأذى، من غير ضعف ولا عجز ابتغاء وجه الله تعالى وتتفاوت قدرات الناس في ضبط النفس، والصبر على الأذى، فمنهم من يكون سريع الانفعال ويقابل الأذى دون النظر في العواقب، ومنهم من يتمالك نفسه، ويكبح جماح غضبه، ويتحلى بالصبر والحلم ويتلمس الأعذار والمبررات لمن أساء إليه، وهذا هو الرجل الحليم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه رضوان الله عليهم بالتحلي بالحلم في تعاملهم، ويحثهم عليه بنفس القدر الذي يحثهم على طلب العلم وكان مع ما أعطاه الله من خلق عظيم وصفات حميدة يدعو الله بأن يجعل الحلم زينة له فيقول:( اللهم أغنني بالعلم، وزيني بالحلم، وأكرمني بالتقوى، وجملني بالعافية ).
كما يرفع الله تعالى منزلة الرجل الحليم، فإنه يناصره ويقف إلى جواره أمام من يعاديه، فقد روي أن رجلا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، ويجهلون علي، وأحلم عنهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن كان كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك ).
ويعد الحلم وسيلة إلى تبوء المراكز الهامة في المجتمع، وكانت العرب تقول في أمثالها: ( من حلم ساد) ومن هؤلاء الذين تزعموا أقوامهم بسبب حلمهم عرابة بن أوس، والأحنف بن قيس.
روي أن معاوية بن أبي سفيان قال لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: ( يا أمير المؤمنين كنت أحلم عند جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل منهم فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصر عني فأنا خير منه ).
وإن الحلم فضيلة تقع بين رذيلتين متباعدتين، فمن وراء يمين الحلم يأتي التباطؤ والكسل، والتواني والإهمال، وتتبدل الطبع عند مثيرات الغضب، ومن وراء يسار الحلم يأتي التسرع في الأمور واستعجال الأشياء قبل أوانها، والذي جعل الحلم فضيلة خلقية هو اعتداله، ومسايرته لمقتضى العقل السليم، والآثار النافعة المفيدة الخيرة التي تترتب عليه.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع المثل للمسلمين في الحلم فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: بال أعربي في المسجد، فقام الناس ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، فإنما بعثتم مسيرين، ولم تبعثوا معسرين) فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا أصحابه، كيف يكون الحلم بالجاهلين وكيف يكون الرفق بهم.
ومن حلم الرسول صلى الله عليه وسلم عدم دعائه على الذين آذوه من قوم، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ولحلمه بهم غاية يهدف إليها فهو يرحمهم لعلهم بعد مدة يؤمنون فينجون من عذاب النار، فيحلم بهم رجاء إصلاحهم.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء صلوات الله عليهم ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ( اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ).
والغضب هو مفتاح الشر، فالشخص الذي يغضب سريعا، كثيرا ما تصدر عنه تصرفات خاطئة؛ لذا روي أن أبا الدرداء قال: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تغضب، ولك الجنة ).
وقد مدح صلى الله عليه وسلم أشبح عبد القيس فقال: ( إنك فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة ).
ومن أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله دخل المسجد في أحد الليالي، وكان مظلما لا نور فيه فعثر برجل نائم، فرفع الرجل رأسه إليه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر بن عبد العزيز: لا، فهم الشرطي الذي كان يصحبه بضرب الرجل، فقال له عمر:( لا تفعل إنما سألني أمجنون أنا؟ فقلت: لا ).
وكما رغب الإسلام بالحلم وحث عليه، حذر من الأخلاق المنافية له، وعمل على تربية المسلمين تربية عملية تأخذ بأيديهم حتى يكونوا حلماء.
وإن الحلم لفضيلة حيوية للمسلمين، فهو يصون علاقاته مع أهله، وجيرانه، وزملائه، وشركائه، وكل من يتعامل معه، وكلما زادت سلطاته وقدراته ونفوذه، كان حلمه أنفع له ولمن يحكم.