أرشيف المقالات

الشتاء

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
8 الشتاء! الشتاء! وماذا تفهم من الشتاء يا ابن مصر الضاحية الضحوك؟ هل تفهم منه إلا أنه أسابيع من عمر العام لا تدري أهي أواخر خريفه أم أوائل ربيعه؟ هل تجد في جسمك غير دفء النعمة، وفي نفسك غير بهجة الأنس، وفي عينيك غير إشراق الجمال؟ أنظر أمامك تر الشتاء الغربي الذي جعله الله شيخوخة الطبيعة، يسلبها الرواء فلا تُعجب، ويحرمها النماء فلا تخصب، ويلقي عليها الهمود فهي سكون خافت وصمت ثقيل، ويلفّها في كفن الثلج نسجته ريح بليل؛ ثم تقشعر الأرض، وتكفهر السماء، وتقع الحياة بين القحط والموت، فتئن بالرعود، وتتأوه بالأعاصير، وتتساقط على الشجر السليب والثرى الكئيب والقرى الموحشة، همّاً في الصدور، وبؤسا في الأكواخ، ورهقاً في العزائم. إن الشتاء في غير مصر زمهرير جهنم، تتنفسه كما تقول الأساطير فلا يذر من شيء يهبُّ عليه إلا أحرقه بالقُر وأغرقه في الصقيع.
أما في مصر فالشتاء في الناس لا في الطبيعة.
والشتاء في الناس برد في الدماء، وخمود في العواطف، وقحط في الأنفس.
فلو كان كل من على النيل صافي القلب كسمائه، عذب الخلق كمائه، طلق اليد كفيضه، ضافي المعروف كأرضه، لكان هذا الوادي الحبيب جنة الله في الدنيا، أزلفها لجنس من خير الأجناس، خلقه وسطاً بين الملائكة والناس! ولكن.

وما أسخف الحياة ما دامت فيها لكِن! ابن عبد الملك رد على نقد القديم والجديد للأستاذ محمد أحمد الغمراوي إذا كانت الأشياء تتبين بأضدادها فقد تبين معنى القديم الذي أردناه لما بينا في المقال الماضي مرادنا بالجديد إن قديم الإسلام الذي ذكرناه في أولى الكلمتين اللتين نقدهما الأستاذ قارئ هو القديم الذي نحفل ونفخر به والذي لا نرى سواه جديراً بالاستمساك به والذود عنه.
لكن قديم الإسلام ليس مرادفاً من كل الوجوه لقديم المسلمين.
فقديم المسلمين هو كل ما شمله تاريخهم مم يسر ويسوء، ومما يطابق أو يخالف الإسلام.
لو كان المسلمون معصومين من الخطأ ومتابعة الهوى، أولو كانوا مع عدم عصمتهم لم يخطئوا إلا خطأ المجتهد، لكان قديم المسلمين هو وقديم الإسلام سواء، ولكان حال المسلمين اليوم شيئاً آخر غير ما هم فيه.
لكن المسلمين بعد أن فتح الله البلاد على سلفهم الصالح وخلفوه فيها فتنتهم الدنيا كما فتنت من قبلهم، وحاولوا أن يتحللوا من قيود دينهم، وتهاون أولو الأمر في إقامة حدوده فزلت الأقدام بعد ثبوتها، وتداولتهم الأيام حتى صاروا إلى ما هم عليه ومن الإفك العظيم الذي يأفكه الغرب أن ينسب ما هم فيه إلى دينهم الذي إليه ينتسبون.
لو كان ما هم فيه نتيجة العمل بالإسلام ما كان هناك مفر من اتخاذهم حجة عليه.
لكنهم صاروا إلى حاضرهم المخزي بتركهم العمل بالإسلام، فهم حجة له سلبية كما أن سلفهم الصالح حجة له إيجابية، وتمت بذلك حجة الله على الناس.
سلفهم الذي نزل فيه الدين استمسك بالدين فدانت له الأرض فلم تطغه ولم تبطره، وضرب للتاريخ المثل العملي الفرد لحكومة الله في الأرض كيف تكون.
فكانت تجربة أجراها الله في الأرض لا يقدر على إجرائها غيره، تحققت بها دعوى الإسلام أنه دين الفطرة التي فطر الله عليها الناس، لا يتحقق لهم كمال ولا سعادة إلا به، أفراداً كانوا أو جماعات.
وحسبك من كمال الفرد به.
تطور النفس الجاهلية إلى مثل نفس عمر وأبي بكر وعلي وعثمان، ومن إليهم من السابقين الأولين، وحسبك من كمال البيئة الإنسانية وسعادتها تطور البيئة الجاهلية به إلى البيئة الإسلامية أيام الرسول الكريم صلوات الله عليه وفترة مذكورة بعد أيام الرسول ثم أجرى المسلمون أنفسهم لسوء حظهم التجربة الأخرى التي يتم بها إثبات أن ذلك التطور المعجز الذي تطورته النفس البشرية لما خالطها الإسلام، كان حقا نتيجة للإسلام لا لغيره.
وآية ذلك أن نزول الأثر إذا زال المؤثر، كما يجري في أي تجربة علمية.
وقد كان، فزال عن النفس كمالها ومن البيئة عزها لما انخدعت عن دينها، وتعطل أثر الإسلام فيها فتاريخ المسلمين إذن فيه الخير وفيه الشر، فيه تحقيق الإسلام عمليا وفيه تعطيله.
وإذا كان قديم المسلمين يشمل الاثنين بالطبع لأنه عين تاريخهم فإن قديم الدين لا يمكن أن يشترك مع قديم أهله إلا في ذلك الجزء الذي حققوا الإسلام فيه.
فقديم الإسلام الذي نقصده والذي قصدناه بما كتبنا من قبل هو أولا كتاب الله وسنة رسوله، وهو ثانيا ما طابق الكتاب والسنة من تاريخ المسلمين وإذا فهمنا قديم الإسلام هذا الفهم وتم لنا تحديده هذا التحديد وجدنا أنفسنا أمام شيء يزول معه كل معنى للتفرقة الزمنية بين الأمور، فلا يكون هناك محل في الإسلام لفكرة القديم والجديد كما تفهم الآن.
إن الإسلام دين الفطرة، والفطرة عند التحقيق لا يتفاوت فيها في دائرة الحق قديم ولا جديد.
إنما يكون التفاوت والتناقض بين الحق والباطل.
فكل جديد يخالف قديم الإسلام بالمعنى الذي حددناه هو جديد باطل، نصيبه من البطلان بقدر ما بينه وبين الإسلام من خلاف.
وكل ما جدّ للإنسان من حق وقف عليه بعد جهل به والحق الذي عرفه الإنسان من قبل سواء، تشملهما الفطرة، ويشملهما الإسلام الذي يشمل بتشريعه وروحه وكنفه جميع صور الحق وسننه في جميع مدارج الحياة، في جميع مظاهر الكون، ما عرف الإنسان منها وما سيعرف، ما قدر له علمه في هذه الدار وما قدر له بعد هذه الدار. وليس في الوجوديين دين ولا نظام جمع للإنسان الخير كله والحق كله وحذره من الباطل كله إلا الإسلام.
والإنسان يستطيع إلى حد كبير تمييز الحق من الباطل في دائرة المحسوس الذي يستطيع إخضاعه لتجاربه العلمية، أما ما لا يستطيع إخضاعه لتجاربه مما يتعلق بحياة الإنسان الروحية فلا سبيل للوصول إلى الحق والخير فيه إلا بإرشاد الله فاطر الفطرة وبهدايته.
وقد فعل سبحانه، فضلاً منه على عباده ورحمة بهم أن يهلكوا إذا تركوا وشأنهم فيما يتعلق بحياة الروح، فإن للروح سننها التي سنها الله كما لغير الروح سننه، ولا مناص للإنسان من اتباع سنن الله وإلا كان من الهالكين.
فكان من رحمة الله بالإنسان أن مهد الله له سبيل النجاة والفلاح واطراد الرقي الروحي بالأديان التي أرسل بها رسله تتري حتى ختمها سبحانه وأتمها للإنسانية في الإسلام والعجيب الغريب من أمر الإنسان في عصرنا هذا أنه يحرص على اتباع سنن الله في عالم المادة ولا يحرص على سننه في عالم الروح.
هذا عجيب لأن الذي يقدر سنن الفطرة ويبحث عنها ليستمسك بها في ميدان ينتظر منه أن يقدرها ويبحث عنها ليس ليستمسك بها في غيره من الميادين.
فإذا كان فاطر الفطرة سبحانه قد أنزل للإنسان هداية مبينة على سننه في الميدان الذي لا يملك الإنسان إجراء التجارب العلمية فيه كان ذلك أدعى لاغتباط الإنسان بتلك الهداية من باب أولى.
وكان الأقرب إلى العقل أن يحرص الإنسان عليها إن كان مؤمناً بها عن يقين، فإن لم يكن كان الأولى والأقرب إلى العقل أن يسارع الإنسان إلى بحثها وفحص منعاتها الدالة عليها ليصل فيها إلى حكم صحيح وقرار صريح.
لكن الإنسان لا يفعل شيئاً من هذا.
فلا المؤمن يحرص على الدين كما ينبغي ويدعو إليه كما ينبغي، ولا الشاك يسرع إلى فحص الدين كما ينبغي ليصل فيه إلى قرار صحيح.
وأغرب من هذا أن يسمح المؤمنون وهم كثير للشاكين وهم قليل في البيئة الإسلامية أن يبذروا شكهم وينشروه عن شمال ويمين، في نفوس النشء من بنات وبنين إن البيئة الإسلامية تحسن الدفاع عن نفسها إذا هوجمت في دينها صراحة ومواجهة من أمام، لكنها لا تفقه أن الأمر يحتاج إلى دفاع حين يأتيها الخصم مداورة ويهاجمها في الإسلام بحركة التفاف: لقد تركت لدعاة الغرب الحبل على الغارب يقولون ما يشاءون ويبثون في نفوس صغارها وناشئيها ما يشاءون ما داموا يسلكون إلى ذلك طريق التلميح والإيحاء أو ما داموا لا يهاجمون التوحيد صراحة والقرآن.
فلما غر كبيراً فيهم الغرور وظن أن الأوان آن لمهاجمة الدين مواجهة لا مداورة هبت الأمة كلها تذود حتى كادت تبطش به، فلما انزوى عادت إلى نومتها الأولى كأن لم يبق هناك من حاجة إلى اليقظة والانتباه وكان سلاح دعاة الغرب في مهاجمة الإسلام في صميم بلاده ونفوس أهله هو هذا الأدب الذي يسمونه بالجديد. والأستاذ (قارئ) يحدثنا أن الذين يسمون الآن بأصحاب المذهب الجديد كانوا في أول الحركة أو منذ ثلاثين سنة رجعيين يدعون إلى الرجوع في النمط الأدبي إلى عصر الجاهلي أيام كانت اللغة خالصة، وكان أدبها خالياً من التكلف في الغزل والمحسنات اللفظية.
لئن كان ذلك كذلك فما أظن حركتهم تلك في الأدب كان لها داع ما، لأن كل ما وصفها الأستاذ به وقال إنها تطلبه كان متحققاً بالفعل على يد حافظ وغيره إن لم يكن قبله ويقول الأستاذ إن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي اتفاقاً (فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية) ولسنا ندري كيف يمكن أن يعين الأدب الأوربي على تحقيق تلك الرجعية التي وصفت.
وإذا صح أن بعضهم كان كما قال، فأكثرهم لم يكن كذلك أي لم يقرأ الشعر الأوربي اتفاقاً ولم ينصره لأنه يؤيد مبادئه الرجعية، ولكنهم كانوا ممن درسوا الأدبين، وأوحى إليهم الأدب الأوربي مبادئهم التي دعوا إليها خصوصاً ما سماه: (الرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره، وأن يباح له القول أكثر مما كان يباح للمتأخرين).
ولست أدري ماذا كان محرماً على المتأخرين، وأردا أصحاب الجديد في أول الأمر أن يباح لهم، وإنما الذي أدريه أن مبدأهم ذلك قد خرج بهم عن الحد، وأدى إلى هذا الأدب الفاجر الذي يستطيع الأستاذ أن يضع يده فيه على ما شاء، والذي يعتذر عنه بأن هناك أفجر منه في القديم إن في القديم أفجر منه من غير شك وأكثر منه أضعافاً كثيرة؛ لكن التفاوت في فحش القول، أظن الفضل فيه يرجع إلى القانون، والكثرة راجعة من غير شك إلى تراكم القرون وتعدد الأمم وكثرة الناس وعظم نسبة قائلي الشعر فيهم ممن يحسنه ومن لا يحسنه.
فليت شعري إذا حسب أثر ذلك كله ماذا تكون النتيجة وماذا يبقى من دفاع الأستاذ؟ إنها نقطة طريفة، لكن مهما تكن نتيجتها فإنها لا قيمة لها في الموضوع.
فالقديم الذي ندافع عنه والذي إليه قصدنا من قبل ليس هو القديم الزمني الذي ذهب إليه الأستاذ.
ليس هو قديم المسلمين برهم وفاجرهم كما توهم الأستاذ خطأ، ولكنه قديم الإسلام بالمعنى الذي فصلناه.
وإذن فنقده الذي وجهه إلينا وبناه على المعنى الزمني للجدة القدم نقد ذاهب لا يتوجه إلينا منه شيء إن التفريق بين المذاهب والأعمال بحدوثها وقدمها كما يفعل كثيرون هو غير معقول، إنه تفريق تافه لأنه مبني على شيء عارض هو الزمن يأتي ويمر من غير أن تكون له صله بحقائق الأمور.
إن قديم اليوم بمعناه الزمني هو جديد أمس قد مضى، وجديد اليوم هو قديم غد سيكون.
فالجدة والقدم شيء عارض متغير لا وزن له في قياس قيم الأشياء اللهم إلا المادي منها، وليس في كلها يطرد معناه.
أما الأمور المعنوية التي تتصل بحياة الإنسان الروحية وصميم إنسانيته فلا بد لقياسها والمفاضلة بينها من معيار آخر ثابت على الزمان هو معيار الحق والصدق والخير.
وقد أنزل الله الدين ليهدي الإنسان إلى ما لا يستطيع الاهتداء إليه من هذا ما دامت حياته ونجاته وإنسانيته متوقفة عليه.
من أجل ذلك تركنا المعيار الزمني الذي لا يغني من الحق شيئاً، وقررنا ما كنا نظن أنه بديهي واضح من أن المعيار الثابت للحق والخير يجب أن يلتمس لا في جديد الغرب ولكن في قديم الإسلام أي في الإسلام كما أنزله فاطر الفطرة على الإنسان الكامل والرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلوات الله عليه لقد قررنا هذا الأصل من قبل ولا نزال نقرره.
قررناه حين كتبنا نقدنا التحليلي لكتاب الأدب الجاهلي وأخذنا على صاحبه فيما أخذنا نشره مجون الأدب الغربي فيما كان يلخص للهلال من روايات فاجرة كرواية الزنبقة الحمراء، ونشره مجون الأدب العَربي فيما كتب عن أبي نواس ووالبة ومن إليهما في حديث الأربعاء.
وهاهو ذا صاحبه يدعوا في أحدث كتاب له إلى الأخذ بحضارة الغرب كلها خيرها وشرها وحلوها ومرحها كأنما أراد أن يصدق ما قلنا في كلمتنا الأولى التي انتقد الأستاذ (قارئ) من أن (الذين يسمون أنفسهم أنصار التجدد يؤمنون بالغرب كله ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا ولو خالف الإسلام في أكثره).
فنحن حين صورنا الخلاف بين أنصار قديم الإسلام وجديد الغرب كما صورنا إنما كنا نصف واقعاً مشهوداً، والأستاذ (قارئ) يصف من حركة الجديد تاريخاً غير مشهود مر، على قصر الفترة التي كانت منذ بدأ، وصار إلى هذا الجديد الذي يغلب على الحركة الآن وغلب عليها من زمان - بالنسبة إلى عمرها - طويل والأستاذ (قارئ) يجعل للأسلوب والطريقة واللغة مكاناً كبيراً في حركته التي وصف، وإني أعرف أن الأسلوب واللغة والطريقة هي مدار الخلاف بين من يعرفون بأنصار الجديد وأنصار القديم كما أعرف للأسلوب والطريقة واللغة مكانها في الأدب.
لكني لا أحلها مع ذلك المحل الأول، وإنما أجعل لروح الأدب المقام الأول في الحكم عليه.
وأنا في ذلك تابع غير مبتدع، تابع للقرآن مهتد بما سنه للناس فلحكمة كبرى جعل الله معجزة دينه معجزة أدبية باقية على الدهر وجعل رسوله أفصح الناس.
وليس أصغر ما في تلك الحكمة التنويه بالأدب والتنبيه إلى أن قوته الهائلة ينبغي أن تكون عوناً للحق والخير على الشر والباطل في حياة الإنسان، فهذا تشريع منه سبحانه وهدى للناس في الأدب كان ينبغي عليهم أن يتبعوه.
ولقد اتبعوه بالفعل في عهد الرسول وفي أكثر عهد الخلفاء الراشدين، ثم جاء عمر بن أبي ربيعة الذي لو أدرك عهد عمر بن الخطاب لجلده ونفاه ولكف من غرب مجونه الذي فتح في الأدب باب الشر والمجون على الناس.
وصلوات الله على رسول الله لقد نبه الناس لو كانوا ينتبهون: نبههم إلى أن الشيطان يئس أن يعبد في أرضهم ورضي أن يطاع فيما يحقرون من أعمالهم.
وكان مما حقروا القول الماجن ما داموا لا يرتكبون بالفعل ما يفترون فيه.
وظن ابن أبي ربيعة أنه إذا قال ولم يأت شيئاً مما قال فليس عليه عند الله وزر، ونسي حديث الرسول الذي أنبأ فيه الناس أن الله قد تجاوز لهم عن حديث النفس ما لم تعمل أو تكلم، والحديث الذي نبه فيه صلوات الله عليه الناس أن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ووقع ابن أبي ربيعة في الحرجين واحتمل الوزرين كليهما فوصف حديث نفسه كلاماً تبعه فيه العرجي ومن لف لفه فانحرفوا بالأدب العربي عن الطريق الذي أختطه له القرآن إلى الطريق الذي تمناه الشيطان لينفذ منه إلى النفس المسلمة يفسدها قليلاً بعد قليل وجيلاً بعد جيل فلأدب العربي ككل أدب إنساني يجب أن يحكم عليه أول ما يحكم لا بأسلوبه ولا بطريقته ولا بلغته.
ولكن قبل كل شيء بأثره في النفس أي بأثره في حياة الفرد وفي حياة المجموع.
فإن كان أثره صالحاً يعين النفس على رقيها ويهديها إلى ربها فهو أدب صالح كريم، وعندئذ تكون بلاغته وما يمكن أن يتصف به من مميزات أخرى حسنات له توضع في ميزانه.
أما إذا كان سيئ الأثر يثير في النفس شهواتها ويصرفها عن هداها فهو أدب فاسد غير كريم مهما ملك صاحبة من عنان اللغة ومهما امتاز في الأسلوب، بل مميزاته في اللغة وفي الأسلوب تكون عندئذ من سيئاته لأنها تجعله أقدر على إفساد نفس الإنسان.
من أجل ذلك جعلنا الأدب فيما كتبنا قسمين: قرآنياً وغير قرآني، أو أخلاقياً وغير أخلاقي، حسب أثره في النفوس لا فرق في ذلك بين القديم منه والجديد والأدب الجديد كان له أسوأ الأثر في النفس المسلمة خصوصاً النفس التي لا تعرف من دينها ما تستطيع أن تدفع به عادية ذلك الأدب على مكان الدين منها ليفتنها بجديد الغرب عن قديم الإسلام. ولقد قلنا من أجل ذلك إن المسألة بين القديم والجديد هي في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين، فظن الأستاذ أننا نريد أن الجديد يريد أن يحل المسيحية محل الإسلام، وليس كذلك. إن المهم ليس هو ذات ما يتخذ بدلاً من الإسلام، ولكن هو مجرد الانصراف عن الإسلام.
وماذا يهم إذا انصرف المسلم عن الإسلام أي شيء اتخذ أو على ماذا أقبل؟ إنه إذا استدبر الإسلام لا بد مستقبل غيره؛ وإذا أحله من نفسه المحل الثاني فهو لابد محل غيره المحل الأول؛ وإذا عصاه فهو لا بد مطيع سواه.
هذا الذي يستقبل ويكبر ويطيع بدلاً من الإسلام هو الدين الذي أتخذه أو يتخذه المسلم المفتون بالغرب بدلا من دينه.
وليس يهم أدين هو معروف في الأديان أم هوى هو بين الأهواء أم وهم من الأوهام واستعمالنا لفظ دين بهذا المعنى استعمال عربي صحيح.
فالدين في الأصل معناه الخضوع ومن أخص خصائصه العبادة، وقد جعل الله سبحانه طاعة الناس للشيطان عبادة منهم للشيطان في قوله (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلاًّ كثيراً أفلم تكونوا تعقلون).
وأوضح أن الناس لم يعبدوا الشيطان عبادة سجود ولكن يكفي من عبادتهم إياه أنهم أطاعوه فأضلهم عن سبيل الله.
كذلك قد جعل الله اتباع الإنسان هوى نفسه عبادة للهوى واتخاذاً إياه إلهاً من دون الله (أرأيت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً) (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون).
فأساس التدين اتباع الدين والخضوع لله طوعاً ما للإنسان خيار فيه.
فإذا غلَّب الإنسان على دينه شيئاً آخر يدين له بالطاعة من قلبه فذلك الشيء هو في الواقع دين له بدلاً من دينه الذي ينتسب بالاسم إليه؛ وإذن فنحن لم نُغْرب ولم نخرج عن حدود اللغة ولا عن الاستعمال القرآني حين أطلقنا لفظ الدين على كل ما يحل في قلب المسلم محل دينه.
ونحن لم نظلم دعاة جديد الغرب حين قلنا إن جديدهم في الأدب ليس مقصوراً على الأسلوب والطريقة ولكنه في صميمه إحلال دين مكان دين ما دام منحى ذلك الأدب التماس المثل العليا واقتباسها من الغرب لا من الإسلام ولا من القرآن محمد أحمد الغمراوي

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير