أرشيف المقالات

أملك عليك لسانك

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2من هدي النبوة أَملِك عليك لسانَك
المدخل: إن اللسان في جِرْمِه ليس إلا قطعة من اللحم، فهي لا تزيد على جرامات وزنًا، لكنها ربما تُلقي من الأثقال والأحمال على قلوب الآخرين مما لا يطيقه الأبطالُ؛ إذ تَنهار قُواهم دون حملها، ولا تتسع تلك القطعة اليسيرة إلى سنتيمترات طولًا؛ ولكن الآثار التي تؤدي إليها ربما تتسع الآفاق شرقًا وغربًا، وتبقى على وجه الأرض مدةً طويلةً وأمدًا بعيدًا، إنها ليست بسكين ذي حدٍّ حادٍّ، ولا بسيف ذي شفرة مهلكة؛ ولكنها إذا جرحت جرحًا وطعنت طعنةً تركت المجروح ينفجر بكاءً وصراخًا وصيحةً لجُرحه الذي ربما لا يكاد يبرأ منه طوال حياته، فهي تسحر القلوب سحرًا دون الطلسمات والشعوذات، وتأسِرُها أسرًا دون الحديد، تَتَمَلَّك العواطفَ تملُّكًا تامًّا بلا بدل ولا عوض، وصاحب العواطف في غفلة عن ذلك، فالعواطف تتحرَّك لتحركها وتسكُن لسكونها، وهي تأخذ بمشاعر المرء أخذًا شديدًا من غير أن يشعُر صاحب المشاعر بأنه لم تبقَ له يَدٌ على نفسه بعدُ، فتلك المشاعر تشتعل لتَلَهُّبِها وتنخمد لانطفاء أوارها، وهي القطعة التي تبعث الضحكات على الأفواه، وتُدخِل السرور في البواطن أحيانًا، وهي التي ذاتها تدمع العيون أسى ولوعةً، وتغشى الوجوه حزنًا وألَمًا أخرى!   اللسان: إيجابيَّاته وسلبيَّاته: فاللسان جارحةٌ سلاحُها الكلمات، والسلاح يختلف استخدامه للسارق في سرقته من استخدامه للجندي المرابط على حدود البلد، فذلك يكتسب بسلاحه ذلًّا وهوانًا، وهذا يكتسب بسلاحه عزًّا وافتخارًا! كذلك الحال مع اللسان بسلاحه، يختلف استعماله من شخص لآخر، هذا يستفيد من لسانه إيجابياتٍ فينتفع بنفسه وينفع الآخرين، وذلك يتحصَّل منه سلبيات فيَخسر نفسه ويَضُرُّ الآخرين: • فبه يشهد المرء بكلمة التوحيد فيؤمن ويجمع لديه خيري الدنيا والعقبى، وبه يتفوَّه بإنكار كلمة الحق والخير، فيكفُر ويحوز شرَّهما.   • وبه يحافظ المرء على شرف أخيه وكرامته ويذبُّ عن عرضه في غيبته، فيستبشر بردِّ الله النار عن وجهه [1] وإعتاق الله إيَّاه من الجحيم [2] وبه يغتاب فيأكل لحم أخيه ميتًا[3] ويكسب أربى الربا وأشده [4].
  • وبه يُفشي المرء كلمات الخير بين الناس، ويسعى إلى إصلاح ذات البين، فيفشو الحب، وتتَّحد كلمة أفراد المجتمع، وينشأ التآلُف بين الأسرة والمرء، بذلك ربما يأخذ الفضيلة عند الله أكثر من أخذه المثوبة والأجر من صلاته وصيامه وصَدَقته [5]، وبه يقع في النميمة وإفساد العلاقات بين الناس، فيستحق الحرمان من الدخول في الجنة [6]، والعذاب في القبر [7]، ويدخل في شرار القوم [8].
  • وبه يصدق المرء القول، فيكتب لدى الله من الصدِّيقين [9]، ويتواصى بالحق ويتواصى بالصبر فينجو من الخسارة التي كادت أن تلحق الإنسانية بأسرها [10]، وبه يكذب المرء فيستحق لعنة الله والإبعاد عن رحمته التي لا يُحرم منها إلَّا من حُرِم الخير كلَّه [11]، ويكتب لدى الله في الكذَّابين [12]، وبه يقذف القاذفُ، فيحد ويُلعن في الدنيا والآخرة [13]، وبه يكفر المرء نعمة ربِّه، فيُعاقب بالعذاب الشديد [14]، وما إلى ذلك من إيجابيات وسلبيات يطول بنا ذكرها ههنا.
  عشرة آثار مختارة من هدي النبوة: فلنأتِ إلى توصيات وإرشادات وصَّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرشد إليها أُمَّته في استخدام هذه الجارحة التي تحمل خيراتٍ وشرورًا في آن واحد لنقي أنفسنا عن الوقوع في المعاتب والمهالك ونهتدي بهديها في سلوك سبيل الفوز والنجاح: 1- أفضل المسلمين: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الإجابة عن سؤال أبي موسى عن أفضل المسلمين: ((من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده)) [15].   2- أفضل الأعمال بعد الصلاة على ميقاتها: أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه لما سأله عن أفضل الأعمال بعد الصلاة على ميقاتها بقوله: ((أن يسلم الناس من لسانك)) [16].   3- إن عجزت عن أعمال الخير، فكف لسانك تدخل الجنة: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علِّمني عملًا يُدخلني الجنة؟ قال: ((إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسقِ الظمآن، وآمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكفَّ لسانك إلا عن خير)) [17].   4- النجاة عند الفتنة: سأل عقبة بن عامر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما النجاة؟ فقال: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابْكِ على خطيئتك)) [18]، وفي رواية: ((من صمت نجا)) [19].   5- طوبى لمن ملك لسانه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته)) [20].   6- ضمان الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من وقاه الله شرَّ ما بين لحييه، وشرَّ ما بين رجليه، دخل الجنة)) [21].   7- من حفظ لسانه ستر الله عورته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ لسانه ستر الله عورته)) [22].   8- أيسر العبادة وأهونها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن؟ الصمت، وحسن الخلق)) [23].   9- يهوي باللسان أبعد من السماء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتحدَّث بالحديث ما يريد به سوءًا إلا ليُضحك به القوم يهوي به أبعد من السماء)) [24].   10- كثرة الكلام وقسوة القلب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)) [25].   أعاذنا الله من شرور ألستنا ومهالك كلماتنا، ووفَّقنا الله تعالى لما فيه مرضاته، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] إشارة إلى ما رواه الإمام أحمد في مسنده (رقم الحديث: ۲٦۹۳٠)، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من ردَّ عن عرض أخيه ردَّ الله عن وجهه النار يوم القيامة))، ومثل ذلك رواه الترمذي في جامعه (۱۹٠۳). [2] إشارة إلى ما رواه الإمام أحمد في مسنده (رقم الحديث: ۲٦۹۹۸)، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذبَّ عن لحم أخيه في الغيبة كان حقًّا على الله أن يعتقه من النار)). [3] إشارة إلى آية سورة الحجرات حيث قال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾ [الحجرات: 12]. [4] إشارة إلى ما أخرجه أبو داود في سننه (رقم الحديث: ۴۸۷٦)، عن سعيد بن زيد مرفوعًا: ((من أربى الربا الاستطالة في عرض مسلم بغير حق)). [5] إشارة إلى ما رواه الإمام الترمذي في جامعه (۲۵٠۹)، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر؛ ولكنها تحلق الدين)). [6] إشارة إلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه حذيفة بن اليمان عنه: ((لا يدخل الجنة نمَّام))؛ (صحيح مسلم رقم: ۱٠۵)، وقد روي في معناه في سنن أبي داود (رقم: ۴۸۷۱) وجامع الترمذي (۲٠۲٦)، وكتاب الأدب للإمام البخاري (۵۷٠۹). [7] إشارة إلى ما رواه الإمام البخاري في صحيحه (۲۱٦) والإمام مسلم في صحيحه (۲۹۲) عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، أو مكة فسمع صوت إنسانين يُعذَّبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما يُعذَّبان في كبير))، ثم قال: ((بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)). [8] إشارة إلى ما رواه الإمام أحمد في مسنده (۲۷۵۹۹)، عن أسماء بنت يزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بشراركم؟ المشَّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء بالعنت)). [9] إشارة إلى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه (۲٦٠۷)، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا)). [10] إشارة إلى ما أخبر به في سورة العصر: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]. [11] إشارة إلى آية ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]. [12] إشارة إلى ما رواه الإمام مسلم في صحيحه (۲٦٠۷)، وليراجع إلى الحاشية، رقم: ۹ لنصِّ الحديث كاملًا. [13] إشارة إلى آية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23]. [14] إشارة إلى آية ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]. [15] الترغيب والترهيب؛ الإمام عبدالعظيم المنذري، ط:۱ بيروت، دار ابن حزم، سنة: ۲٠٠۱م، كتاب الأدب، الترغيب في الصمت إلا عن خير، والترهيب من كثرة الكلام، رقم الحديث: ۴۲٠٠. [16] المرجع السابق: رقم الحديث: ۴۲٠۲. [17] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲٠۳. [18] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲٠۴ [19] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲۳۴. [20] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲٠۵. [21] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲٠۸. [22] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲۱٠ (حديث ضعيف). [23] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲۲۷ (حديث ضعيف). [24] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲۳۸ [25] المرجع السابق، رقم الحديث: ۴۲۴۲



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢