أرشيف المقالات

مقدمات أساسية لتدبر القرآن الكريم والدخول إلى عوالمه الإيمانية

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
مقدمات أساسية لتدبر القرآن الكريم
والدخول إلى عوالمه الإيمانية
تمهيد:
القرآن الكريم رسالة الله عز وجل إلى كل إنسان، وهو خطابه تعالى للمكلفين، فمن خلاله يخاطب الله سبحانه ذوي العقول واﻷلباب، ويدعوهم إلى هدايته ونوره، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضنك والشقاء إلى الهداية والفلاح، ومن ضيق الحياة ولأوائها إلى سعتها وفلاحها...
ولتحقيق هذه المعاني الجليلة الجميلة، والمقاصد العلية الرفيعة، ﻻ بد من التفاعل مع هذا القرآن العظيم، تلاوة وتدبراً، وترتيلاً ومدارسة، لتأمل آياته وبصائره، تلك أول خطوة في الشعور بهداية القرآن وروحه، ونوره وبصائره،...
ومن أهم مقدمات هذه الخطوة وأعظمها ما يلي:
1- تطهير القلب وتخليته من كل الأمراض: إذ لا يستوي الخبيث والطيب، فالقرآن لا يمسه إلا المطهرون، قلبا وقالبا، وإلا حرم الإنسان بركاته وثمراته، وفصل بينه وبين فهم أسراره ومعانيه، يقول سيدنا عثمان ابن عفان رضي الله عنه:" لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل "[1] وعثمان رضي الله عنه كلامه كلام المجرب رضي الله عنه فما كان يستطيع رضي الله أن تمر عليه لحظة من اللحظات دون أن ينظر في المصحف وعاش حياته على هذا الحال مع كلام الله عز وجل حتى استشهد والمصحف في يده فكان أن وقعت أول قطرة من دمه على صفحة من كلام الله عز وجل عند قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) " البقرة 137" وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن ابنِ سيرين قال: قالت امرَأَةُ عُثمان حين قُتِلَ:" لقد قتَلتُموهُ وَ إِنَّهُ لَيُحيِي الليلَ كُلَّهُ بالقُرآنِ في ركْعةٍ "يقول الإمام الزركشي رحمه الله: اعلم أنه لا يصلح للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى أو حب الدنيا، أو هو مصر على ذنب، غير متحقق بالإيمان، أو ضعف التحقيق...
فهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض.[2]
 
وفي هذا المعنى يقول ابن قدامة رحمه الله: فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، فالقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل جلاء المرآة.[3]
 
2- لا بد لقارئ القرآن أن يربطه بواقعه وعلى رأس ذلك: أن يربطه بنفسه هو، ليرى موقعه منه ومن هدايته، ويقيس نفسه من الاستجابة لأوامره وتكاليفه، وحدوده وأخلاقه...
ففي أي درجة هي؟ وأي سبيل سالكة؟ إذ القرآن رسالة الله إلى كل عبد من عباده، وأخطر شيء يمكن أن يتسرب إلى ذهن قارئ القرآن وهو يتلوه، أن يقول: إن هذا الكتاب نزل على قوم خلوا، في زمن مضى، وفي مكان محدد، فهو يتحدث عن الأزمنة والأمم السابقة، ونزل على جيل مضى، ولا علاقة له بحياته التي يعيشها، وألا دخول للواقع الذي يعيشه تحت هذا القرآن، وهذا انحراف شعوري خطير، وقد انتقد ابن القيم رحمه الله هذا الحال وأصحابه فقال: " أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته – تحت القرآن- وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل لم يعقبوا وارثاً، وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم، أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك." [4].
وﻻ ينبغي أن يتسرب إلى ذهن القارئ حين القراءة أن هذا الكتاب إنما نزل في زمن محدد وانقطع بذلك وحيه، وإنما نقرؤه فقط للتبرك والثقافة العلمية، وهذا المعنى الخطير سيطر على تعامل كثير من الناس مع القرآن الكريم، إﻻ من رحم الله، وحرموا -بسبب ذلك- من هدايته ونوره...
فلا بد إذن من الشعور أثناء التلاوة والقراءة بأن الله عز وجل يخاطبك في تلك اللحظة، ﴿ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ "طه 12" إذ وصف الله تعالى للقرآن بأنه " وحي " يقتضي هذا المعنى الجليل، وهو أن الله تعالى يوحي به في تلك اللحظة التي يتلوه القارئ، فهو وصف مصاحب له.
 
3- الشعور بأن هذا القرآن هو رسالة الله إليك أنت، وأن الله يخاطبك بأوامره ونواهيه وتكاليفه وحدوده لتستجيب له كما يريد سبحانه، ﻷنك مخلوق له، فله الخلق واﻷمر، فكما خلقك بإرادته وإذنه وفضله، فقد أنزل عليك أمره في وحيه بفضله ورحمته حتى تكون له أوﻻً وأخيراً، فـ ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ "الأعراف 53" فأنت له ولست لنفسك، فكما تنسب اﻷمر إليه (وهو هنا وحيه) فعليك أن تنسب الخلق إليه (وهو خلقك)، ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار 5] أي ما الذي غرك بربك الذي خلقك...
عن أن تستجيب له وﻷمره في وحيه، فالذي خلقك هو الذي أوحى إليك وأمرك...
وهذا ما يدفعك إلى الشعور بعظمة القرآن الكريم، وجلال نوره وشدة ثقل معانيه، وتأثيره على النفس إن هي تلقته تلقيا إيمانيا...﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ [المزمل 4] ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر 20] ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ﴾ [لقمان 26].
 
4- حضور القلب عند تلاوة القرآن الكريم وإلقاء السمع لخطاب الرحمن:
فهذا شرط أساسي لتدبر القرآن وللانتفاع به وحصول ثمرته، إذ أن هذا من أخص خصائه وهو أن يتلقفه القلب قبل العقل والجوارح، إذ هو روح ونور ومحل ذلك إنما هو القلب: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾"الشعراء 192" ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ "الشورى 51"
 
قال ابن القيم رحمه الله في هذا المعنى – حضور القلب عند تلاوة القرآن الكريم- " إذا اردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾[ق: 37] استمع كتاب الله وأنت شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير، وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له، والنظر فيه وتأمله، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحين ووجد الشرط وهو الإصغاء وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب، وانصرافه عنه إلى شيء آخر حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر "([5]) والتذكر هو الغاية العظمى من التدبر، وهو مقام عظيم، به يخرج الإنسان من الغفلة إلى اليقظة فيشاهد حقائق القرآن، وأسرار الخالق في كتابيه: المسطور – الوحي- والمنظور –الكون- فيحصل له من الذكر القلبي لله ولجلاله ما يفيض ذلك على لسانه وجوارحه ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ "ص: 28".
 
5- أن توقن بأن لا حياة لقلبك ولا مفتاح لأقفاله إلا بتدبر القرآن:
قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ " محمد الآية 24" فقد أسند سبحانه وتعالى في هذه الآية والتي هي من عظائم ما أُنزل في هذا المعنى –أسند- عمل التدبر إلى القلوب، وأفاد بذلك أن القلوب إذا لم تتدبر القرآن ولم يحصل لها ذلك، فهي مقفلة لا خير فيها وأن مآلها إلى الختم –والعياذ بالله- ولقد تـلا رسـول الله صلى الله عليه وسلم يوًمـا هذه الآية: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ " محمد الآية 24" فقال شاب مـن أهـل الـيمن: بـل عليهـا أقفالهـا حـّتى يكـون الله تعالى- يفتحها أو يفّرجها.
وكان عمر رضي الله عنه حاضرا فسمعه، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حّتى ولي – أي الخلافة- فاستعان به"[6]
وهكذا فالتدبر هو مفتاح القلوب، وسر حياتها ونور بصرها وإبصارها، لأنه طريق الدخول إلى سويداء القلوب، والتدبر أيضا سبيل للدخول إلى عالم القرآن وعوالمه الإيمانية النورانية.
 
قال ابن القيم " جعل الله سبحانه لكل مطلوب مفتاحا ً يفتح به، وجعل مفتاح حياة القلب، تدبر القرآن والتضرع بالأسحار وترك الذنوب"[7]
وقال أيضا: " وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتّدبّر والتفكر، فإنـّه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين...
وسائر الأحوال الّتي بها حياة القلب وكماله، و كذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة والّتي بها فساد القلب وهلاكه.
فلو علم النّاس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهمن وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن "[8]
 
5- الاستسلام لله تعالى والشعور بأن تحقيق العبودية له تعالى حقاً وصدقاً لن تكون إلا إذا شعرت بأن القرآن هو ماء الحياة لقلبك وحبل النجاة لنفسك، وأنه لا نور ولا انشراح لصدرك، ولا زوال ولا جلاء لكل أحزانك، ولا ذهاب لجميع أنواع همك وغمك، إلا بالعيش في رحاب القرآن، والشعور بالفقر التام له، والحاجة الملحة لحبل نوره، وسر روحه وحياته، قتقبل عليه إقبال الملهوف، وتفر إليه فرار من يخاف على نفسه الهلاك والضياع والتيه، وتبحث عن نوره بحث من أطبق عليه الظلام وأبطأ في دروبه وضروبه، لا أن تقرأه قراءة من يريد إشباع نهمه الفكري والعقلي فقط.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول اله صلى اله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن، فقال: الله إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو انزلته في كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به في علم الغيب عندك، ان تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء وحزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا" قال: فقيل يا رسول اللهن أفنتعلمها؟ فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها ان يتعلمها"[9]
 
6- أن تعتقد أن لا وجود لك على الحقيقة – الوجود المعنوي الإنساني، لا الوجود الجسدي الحيواني- وألا حياة لك – الحياة النفسية والروحية التي هي سر إنسانيتك - إلا بالاستجابة لندائه، والحضور لخطابه ودعوته، والاستماع لأوامره ونواهيه في شتى مواضيع حياتك، إذ السر كل السر في تحقيق وجودك المعنوي يكمن في هذه الحقيقة، حقيقة الحياة القرآنية التي حياة قلبك وروح نفسك، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ الأنفال 23" إذ الإنسان الذي هو مخلوق خاص لله، يتميز عن باقي المخلوقات بأن جعل الله له وجوديْن: وجود مادي، ووجود معنوي، وسر الإنسان وقيمته إنما هو في الوجود الثاني، أي الوجود المعنوي، وهذا الوجود متوقف على "الوحي" إذ هو روحه ومادة حياته، وسر وجوده وإبصاره وكذلك سماه الله ووصفه: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ " الشورى51".
 
كما سمى سبحانه سر حياة الجسد وسر الوجود المادي الأول بالروح: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ "الإسراء 84"، فكلاهما من أمر ربي باعتبارها سر الحياة والوجود، روح الوجود المادي الجسدي، وروح الوجود المعنوي النفسي.
فلا بد من حضور هذه الحقيقة عند تلاوة القرآن وتدبره، أي باعتباره روح الإنسان النفس، وسر حياته ووجوده الإنساني.
 
7 - التفكر في عظمة الله سبحانه وتعالى وعلوه وفضله ولطفه بخلقه، عندما أنزل علينا هذا الكتاب، فإن القرآن عظيم، لأنه كلام الله، والله عز وجل عظيم، ومع ذلك فقد جعل كلامه مدركا لعقول البشر المحدودة، وإلا هو فوق طاقتنا، ولكن جعل كلامه عز وجل مفهوماً ميسراً: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ "القمر:40" ولولا أن الله جعله مُيسراً ما استطعنا تلاوته ولا حفظه ولا فهمه؛ لأنه فوق عقولنا، ولأنه نور من نور، وأنى لمخلق ضعيف كالإنسان يتحمل أنوار الله تعالى التي اندكَّ لها لها الجبل العظيم، لما تجلى الله بنوره على هذا الجبل ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾ "الأعراف 142" لكن الله سبحانه وتعالى برحمته سهَّله وقرَّبه لنا، ثم جعله بلغة العرب وهي أكمل لغات العالم.
 
فبقدر تعظيمك لله تعالى يعظم القرآن الكريم في صدرك، فتشعر بجلاله ونوره وجماله...ففي "فهم القرآن النجاة، وفي اﻹغفال عنه الهلكة، فلو ذاب أهل السماوات، وأهل اﻷرض حين يسمعون كﻻم الله عز وجل، أو ماتوا خمودا أجمعون لكان ذلك حق لهم، ولما كان ذلك كثيرا إذ تكلم الله عز وجل به تكليما من نفسه من فوق عرشه، من فوق سبع سمواته.
فإذا عظم في صدرك تعظيم المتكلم به، لم يكن عندك شيء أرفع وﻻ أشرف وﻻ أنفع ولا ألذ وﻻ أحلى من استماع كلام الله جل وعز، وفهم معاني قوله، تعظيما وحبا وإجﻻلا إذ كان تعالى قائله، فحب القول على قدر حب قائله..
قال عبد الله بن مسعود "من أراد أن يعلم أنه يحب الله عز وجل فلينظر هل يحب القرآن" ([10])
 
ولذلك على القارئ أن يستحضر هذا المعنى وهو يقرأ القرآن الكريم، ليشعر في قلبه عظمة المتكلم وهو الله سبحانه وتعالى وكان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه إذا نشر المصحف غُشي عليه، ويقول: كلام ربي..
كلام ربي.." ([11]) فتعظيم الكلام تعظيمٌ للمتكلم، كما مر فكلام الحارث المحاسبي.
 
8- أن يتأمل ما في هذا القرآن من الختم والطبع على قلوب الذين لا يفقهون ولا يعقلون وسياق ذلك، ويدعو الله ألا يكون منهم؛ لأن الذين طبع الله على قلوبهم غير موفقين ولا مؤهلين لتدبر القرآن الكريم، ويندرج تحت هذا، التخلي عن موانع الفهم التي تمنع الفهم، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن بأسباب، وحجب من النفس والشيطان؛ فعميت عليهم عجائب القرآن وجلاله وجماله، ومن ثم هدايته، فالله تعالى وصف هذا القرآن بأنه هدى للمتقين ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ " البقرة 1.2" ولذلك فإن الإصرار على الذنوب والمعاصي من أسباب ظلمة القلب وصدئه، ومن ثم حجبه عن رؤية الحق والاهتداء به كالمرآة فإن صدأها يمنع الصورة الجلية، والقلب مثل المرآة، والشهوات مثل الصدأ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، فكلما كانت المرآة نظيفة كانت المعاني التي تظهر في الصور أوضح.
ولذلك فإن الله قال: ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ "ق:8" فإذا لم يكن منيباً لم يكن القرآن له تبصرةً ولا ذكراً.
وقال الله عز وجل:﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴾ "غافر:13".
فالذين لا ينيبون وليسوا في مقام الإنابة لا يفهمون القرآن الكريم.
 
9- الشعور بالتعبد والطاعة والخضوع والتقرب إلى الله تعالى، وأنت تتلو القرآن الكريم، كشعورك بطاعته والتعبد له وأنت في الصلاة والسجود له، إذ تلاوة القرآن من أجل الطاعات وأعظم القربات، ولذلك ﻻ يجوز وﻻ يليق بك أبداً وأنت تتلو القرآن أن تشتغل بشيء آخر سواه سواء كان ذلك ذهنيا وفكريا، أو جسديا وجوارحيا، فإن وقعت في شيء من ذلك ولم ترجع وتنزجر وتستحي من الله فقد أسأت اﻷدب مع الله جل في علاه، فقراءة القرآن تمثل قمة التعبد والطاعة، وهي من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه كما مر، ولذلك قدمها سبحانه في الرتبة على الصلاة التي هي أعظم عبادة في اﻹسلام على اﻹطلاق قال تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ ﴾ " العنكبوت 44" ويقول سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29]..
إلى غير ذلك من اﻵيات...
 
بل حتى الصلاة نفسها لا معنى لها إن كانت بدون القرآن، فهي منزلة من منازل قراءة القرآن وتدبره: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ﴾ "المزمل 1-2" ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وفاتحة الكتابة هي أم القرآن، ولذلك كانت هي الصلاة، وكانت الصلاة هي الفاتحة، نعم هي الفاتحة ألم يقل الله عز وجل في الحديث القدسي الشريف: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين...
" [12]
 
إن هذا المعنى – معنى التعبد لله عز وجل بقراءة القرآن وتعظيمه بتلاوته وتدبره- يكاد أن يكون قد اندثر إﻻ من رحم الله تعالى، وإذا أردت الدليل فانظر إلى أحوال الناس وهم يقرؤون القرآن أو يستمعون إليه، وخصوصاً في المناسبات والاجتماعات العامة، لترى ما يحزن له القلب وتدمع له العين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الناس –إلا من رحم الله تعالى- قد قست قلوبهم أو كادت، وعميت بصائرهم أو أوشكت، كيف لا وربنا سبحانه يخبرنا عن حالة الجبل مع القرآن-الذي نقول عنه أنه من الجمادات- لو أنزله عليه: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ " الحشر 20"
ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



[1] البيهقي، شعب الإيمان، باب تعظيم القرآن.


[2] البرهان ج 2 ص 197.


[3] مختصر منهاج القاصدين ص 97.


[4] مدارج السالكين ج 1 ص 343.


[5] الفوائد ص 8.


[6] أخرجه الطّبر ي في تفسيره عن عروة بن الزبير .21/ 217.


[7] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ، ص:69.


[8] مفتاح دار السعادة،1 / 187.


[9] أحمد برقم : 799 وصححه الألباني.


[10] الحارث المحاسبي، فهم القرآن ص302 بتصرف.


[11] سنن النسائي - كتاب فضائل القرآن - باب في تعاهد القرآن - رقم3216.


[12] صحيح مسلم، كتَاب الصَّلَاةِ، بَاب وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رقم 603.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١