تفسير الربع الأول من سورة النور
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
سلسلة كيف نفهم القرآن؟ [*] تفسير الربع الأول من سورة النور
• الآية 1: ﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا ﴾ يعني: هذه سورةٌ عظيمة - مِن سور القرآن - أنزلناها ﴿ وَفَرَضْنَاهَا ﴾ أي أَوْجَبنا على المسلمين العمل بأحكامها ﴿ وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ أي حُجَجاً واضحة تهدي إلى الحق ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي لتتعظوا أيها المؤمنون بهذه الآيات، وتعملوا بما في السورةِ من أحكامٍ وأوامر وآداب.
• الآية 2: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ﴾ - اللذان لم يَسبق لهما الزواج - ﴿ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ (عقوبةُ لهما على فِعلِهما)، (وقد ثَبَتَ في السُنَّة - مع هذا الجلد - التغريب لمدة عام، وهو إخراج الزاني والزانية مِن بَلَدهما لمدة عام)، وأما عقوبة الزاني المتزوج: فقد ثبت في السُنّة أن يُرجَم بالحجارة حتى يموت، ﴿ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ أي لا تَحملكم الرحمة بهما على ترْك العقوبة أو تَخفيفها، حتى لا تُعَطِّلوا حَدَّ اللهِ تعالى وتَحرموهما من التطهير بهذا الحد ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾ وتعملون بأحكام الإسلام ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يعني: ولْيَحضر العقوبةَ عددٌ من المؤمنين (ليَعتبروا بما حدث لهما)، (واعلم أنّ الذي يقوم بإقامة الحد هو حاكم البلد أو مَن يَنُوب عنه، واعلم أيضاً أنّ الزانية قُدِّمَت على الزاني في قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ﴾ لأنّ الزنى في حق النساء أقبح وأضَرّ بسبب الحمل، ولأن المرأة هي مفتاح الشر غالباً في جريمة الزنى، واللهُ أعلم).
• الآية 3: ﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾ يعني: الزاني لا يَرضى إلا بنكاح زانيةٍ أو مُشركةٍ لا تُقِرُّ بحُرمة الزنى، ﴿ وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾: أي وكذلك الزانية لا ترضى إلا بنكاح زانٍ أو مُشرك لا يُقِرُّ بحُرمة الزنى، (أما العفيفون والعفيفات فإنهم لا يَرضون بذلك)، ﴿ وَحُرِّمَ ذَلِكَ ﴾ النكاح ﴿ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾، (وهذا دليلٌ صريح على تحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وكذلك تحريم إنكاح الزاني حتى يتوب).
• الآية 4، والآية 5: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ﴾ أي يَتّهمون نفوساً عفيفة - من النساء والرجال - بالزنا أو مُقَدِّماته ﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾ - مشهودٌ لهم بالعدل والأمانة - ليَشهدوا معهم على أنهم رأوا هذه الفاحشة: ﴿ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾ ﴿ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ﴾، (وعلى هذا فليَحذر المسلم مِن أن يقول لأحدٍ:(يا ابن الزانية) أو ما شابَهَ ذلك)، لأنّ هذا من الكبائر، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ أي الخارجون عن طاعة الله تعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾) أي رجعوا عن اتّهامهم، ونَدموا على أفعالهم، ﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ أعمالهم: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم، فلا يُعذبهم بعد التوبة، بل يُعيد إليهم اعتبارهم ويَقبل شهادتهم.
• الآية 6، والآية 7، والآية 8، والآية 9: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ﴾ أي يَتّهمون زوجاتهم بالزنى ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ ﴾ يَشهدون على صحة هذا الاتهام ﴿ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ﴾ ﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ أي: فعَلَى الواحد منهم أن يَشهد أمام القاضي أربع مرات بقوله: (أشهدُ باللهِ أني صادقٌ فيما رَمَيتُها به من الزنى)، ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ يعني: ويَزيد في الشهادة الخامسة: (الدعاء على نفسه باستحقاقه للعنة الله - أي طَرْدِهِ مِن رحمته - إن كان كاذبًا في قوله).
♦ وبهذه الشهادة تَجِب عقوبة الزنا على الزوجة، ﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ ﴾ يعني: ولكنْ يَدفع عنها هذه العقوبة ﴿ أَنْ تَشْهَدَ ﴾ - في مُقابل شهادته - ﴿ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ في اتِّهامه لها بالزنى، ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ يعني: وتزيد في الشهادة الخامسة (الدعاء على نفسها باستحقاقها لغضب اللهِ إن كان زوجها صادقًا فى اتهامه لها)، فإذا شهد الزوج والزوجة بهذه الشهادة: فإنّ القاضي يُفَرِّق بينهما بالطلاق الذي لا رجعة فيه.
• الآية 10: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ - أيها المؤمنون - ﴿ وَرَحْمَتُهُ ﴾ بهذا التشريع للأزواج والزوجات ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾ يعني: ولولا أنّ الله توابٌ لمن تاب مِن عباده، حكيمٌ في شرعه وتدبيره: لَفَضَحَ الكاذب مِنهما وعاجله بالعقوبة وأنزَلَ به ما دعاهُ على نفسه، ولكنه سبحانه سَتَرَ عليهم، ليتوب على مَن تاب منهم، وليَرحمهم بهذا التشريع العادل الرحيم.
• الآية 11: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ﴾ يعني إنّ الذين جاؤوا بأقبح الكذب - وهو اتّهام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة - أولئك ﴿ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾: أي جماعةٌ مُنتسبون إليكم أيها المسلمون، ﴿ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ﴾ أي لا تحسبوا قولهم الكاذب شرًّا لكم - لِمَا أصابكم مِن الهَمّ والغم والكرب بسبب هذا الاتهام الكاذب - ﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ (لأنه تضمن براءة أم المؤمنين ونَزاهتها، وتكفير سيئاتكم ورفع درجاتكم بسبب صبركم على هذا البلاء العظيم)، ﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ﴾ يعني: كُلُّ فردٍ تكلم بالإفك، يأخذ عقابه على قدْر ما قال (هذا إن لم يَتُب، ويعفو اللهُ عنه)، ﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ ﴾ يعني: والذي تحمَّل مُعظم الإفك، وأشاعَ الفتنة وتوَرَّط فيها - وهو عبد الله بن أُبَيِّ بن سَلول كبير المنافقين - ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (وهو الخلود في الدرك الأسفل من النار).
• الآية 12: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ﴾ يعني: هَلّا ظَنّ المؤمنون والمؤمنات ببعضهم خيرًا عند سماعهم لهذا الاتّهام الكاذب ﴿ وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ أي هذا كَذِبٌ واضح على عائشة رضي الله عنها.
♦ واعلم أنّ هذا الخطاب غرضه توبيخ العُصبة الذين تكلموا دونَ تثبت، وفيه تربيةٌ للمسلمين، وإرشادٌ لهم لِمَا ينبغي أن يكونوا عليه من الآداب.
• الآية 13: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾: يعني هَلاّ جاءَ هؤلاء الكاذبون بأربعة شهود ثِقات ليَشهدوا على صحة قولهم واتهامهم! ﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾.
• الآية 14، والآية 15: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾ إذ أمْهَلَكم للتوبة، ولم يُعَجِّل لكم العقوبة في الدنيا، وسيَرحمكم في الآخرة بقبول توبتكم: ﴿ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾: أي لأَصابكم عذابٌ عظيم بسبب ما تحدثتم فيه بتوسُّع وعدم تحفظ ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ أي يَتلقى بعضكم الكذب من بعض، ﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ (إذ ليس معكم دليل على صحة قولكم) ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا ﴾: أي تظنون ذلك شيئًا هيِّنًا من صغائر الذنوب ﴿ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ أي من كبائر الذنوب، لأنه عِرض مؤمنة (وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، (وفي هذا تحذير لكل مَن يتهاون في إشاعة الباطل، ولكل مَن يَستصغر المعصية)، وقد قال أحد السلف: (لا تنظر إلى صِغَر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة مَن عصيتَ).
• الآية 16: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾ يعني: وهَلاّ - عند سماعكم لهذا الكذب - ﴿ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ﴾: أي لا يَحِلُّ لنا الكلام بهذا الكذب - لخَطَره وعِظَم شأنه - ﴿ سُبْحَانَكَ ﴾ أي تنزيهًا لك يارب مِن قول ذلك على زوجة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ أي هذا كذب عظيم الذنب.
• الآية 17، والآية 18: ﴿ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ﴾ أي يَنهاكم الله تعالى - مُخَوّفاً لكم - أن تعودوا أبدًا لمِثل هذا الاتهام الكاذب والقول بغير عِلمٍ ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ ﴾ المشتملة على مَواعظه وأحكامه الشرعية، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ بأفعالكم، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في شرعه وتدبيره.
• الآية 19: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ ﴾ أي يُحِبّون أن تنتشر الفاحشة ﴿ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ (ومِن ذلك اتهامهم كذباً بالزنى)، أولئك ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا ﴾ بإقامة الحد عليهم وغير ذلك من المصائب، ﴿ وَالْآَخِرَةِ ﴾ أي: ولهم في الآخرة عذابُ النار إن لم يتوبوا، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ كَذِبهم، ويَعلم ما يَترتب على إشاعة الفاحشة من العقوبة والآثار السيئة ﴿ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
• الآية 20: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ أي على مَن وقع منكم في حديث الإفك ﴿ وَرَحْمَتُهُ ﴾ بهم، ﴿ وَ ﴾ لولا ﴿ أَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ بعباده المؤمنين، لَمَا بيَّن لهم هذه الأحكام، ولَعَجَّلَ العقوبة لمن وقع في ذلك الذنب العظيم.
[*] وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم، وذلك بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي"، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو تفسير الآية الكريمة.
• واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.