أرشيف المقالات

المياه الغدقة في أحكام "لا نورث؛ ما تركنا صدقة"

مدة قراءة المادة : 25 دقائق .
2المياه الغدقة في أحكام حديث ((إنا معاشر الأنبياء لا نورَث؛ ما تركناه صدقة))   بسم الله الرحمن الرحيم قال البخاري: حدَّثنا أبو اليمان، أخبَرنا شُعيب عن الزُّهْري، قال:"أخبَرني مالك بن أوس بن الحَدَثان النَّصْري أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاه، إذ جاءَه حاجبه يَرْفَأ، فقال: هل لك في عثمان وعبدالرحمن، والزبير وسعد يستأذنون؟ فقال: نعم، فأَدخلهم، فلَبِث قليلاً، ثم جاء، فقال: هل لك في عباس وعلي يَستأذنان؟ قال: نعم، فلمَّا دخَلا، قال عباس: يا أمير المؤمنين، اقضِ بيني وبين هذا، وهما يَختصمان في الذي أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير، فاستبَّ علي والعباس، فقال الرَّهط: يا أمير المؤمنين، اقضِ بينهما وأَرِحْ أحدهما من الآخر، فقال عمر: اتَّئِدوا، أَنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نُورَث؛ ما ترَكنا صدقةٌ))، يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبَل عمر على عبَّاس وعليٍّ، فقال: أَنشدكما بالله، هل تَعلمان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: نعم، قال: فإني أُحَدِّثكم عن هذا الأمر: إنَّ الله - سبحانه - كان خَصَّ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيءٍ لَم يُعْطِه أحدًا غيره، فقال - جلُّ ذكره -: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحشر: 6]، فكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم واللهِ ما احتازَها دونكم، ولا استَأْثَرها عليكم، لقد أعطاكُموها وقسَمها فيكم، حتى بَقِي هذا المال منها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُنفق على أهله نفقةَ سَنَتِهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بَقِي فيَجعله مَجْعَلَ مالِ الله، فعَمِل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياتَه، ثم توفِّي النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: فأنا وَلِيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَضه أبو بكر، فعَمِل فيه بما عَمِل به رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأنتم حينئذٍ، فأقَبل على عليٍّ وعباس، وقال: تَذكران أنَّ أبا بكر فيه كما تقولان، والله يعلم إنه فيه لصادق بارٌّ، راشدٌ، تابعٌ للحق، ثم توفَّى الله أبا بكرٍ، فقلت: أنا وَلِيُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فقبَضته سَنَتين من إمارتي، أعمل فيه بما عَمِل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، والله يعلم أني فيه صادق بارٌّ، راشدٌ، تابعٌ للحق، ثم جِئْتُماني كلاكما، وكَلِمتُكما واحدة، وأمرُكما جميع، فجِئتني - يعني: عبَّاسًا - فقلتُ لكما: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نُورَث؛ ما ترَكنا صدقةٌ))، فلمَّا بدا لي أن أَدفعه إليكما، قلتُ: إن شِئْتُما، دفَعته إليكما، على أنَّ عليكما عهدَ الله وميثاقه؛ لتَعملان فيه بما عَمِل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وما عَمِلت فيه منذ وَلِيتُ، وإلاَّ فلا تُكَلِّماني، فقُلتما: ادْفَعه إلينا بذلك، فدَفَعته إليكما، أفَتَلْتَمِسان مني قضاءً غير ذلك، فواللهِ - الذي بإذنه تقوم السماء والأرض - لا أقضي فيه بقضاءٍ غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عَجَزتُما عنه، فادْفَعا إليّ، فأنا أَكْفيكماه".
أخرَجه البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النَّضير، واللفظ له، ومسلم (1757) من طريق يحيى بن يحيى، قال: أخبَرنا سفيان بن عُيينة عن مَعْمرٍ عن الزُّهْري. والحديث مَرْوي في الصحيحين من طرق كثيرة مُطَوَّلة ومُختصرة.   غريب الحديث: اتَّئِد: أمْرٌ بالتأنِّي والتثبُّت في الأمر. أَنشدكم: أسألكم، وأُقسم عليكم. بإذنه؛ أي: بأمره وعِلمه. أفاء؛ أي: جعَله فَيْئًا، وهو ما أعطاه الله من أموال الكفار من غير قتالٍ. استأْثَرها: الاستئثار، الاستبداد بالشيء، والانفراد به.
قال الخطَّابي: قول عمر لعلي وعباس: فجِئْتَ أنت وهذا، وأمركما واحدٌ، وأمرُكما جميع - يُبَيِّن أنهما إنما اخْتَصما إليه في أسباب الولاية والحفظ، وأن يُولي كلاًّ منهما نصفًا، ولَم يسألاه: أن يَقسمها بينهما ميراثًا وملكًا، بعد أن كانا سلَّماها أيام أبي بكر، وكيف يجوز ذلك وعمر يُناشدهما الله: هل تَعلمان أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا نُورَث؛ ما ترَكنا صدقةٌ))، يَعترفان به، والحاضرون يشهدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك؟ فأراد عمر ألاَّ يُوقِع عليها اسم القسمة احتياطًا للصدقة؛ لئلاَّ يَجيء من بعد علي وعباس وهي مقسومة، فيدَّعيها ملكًا وميراثًا.
الأحكام والفوائد والحِكم التي استنبَطها العلماء من هذا الحديث[1]: 1- سؤال فاطمة أبا بكرٍ ذلك، مشهور معلوم من غير هذا الحديث، وغير نكير أن يَكُنَّ كلهنَّ يسألْنَ ذلك، ولَم يكن عندهنَّ علمٌ من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلمَّا أعْلَمَهنَّ أبو بكر، سَكَتْنَ وسَلَّمْنَ[2].
2- وفي هذا الحديث قَبول خبر الواحد العدل؛ لأنهم لَم يَردُّوا على أبي بكر قولَه، ولا ردَّ أزواجُ النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة قولَها ذلك، وحكايتها لهنَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قَبِلوا ذلك وسَلَّموه[3].
3- والسبب أن نبيَّنا صلى الله عليه وسلم لَم يُورَث؛ لأنه خصَّه الله عز وجل بأن جعَل ماله كلَّه صدقةً؛ زيادةً في فضيلته، كما خصَّه في النكاح بأشياءَ حرَّمها عليه وأباحَها لغيره، وأشياءَ أباحَها له وحرَّمها على غيره[4].   4- الذي تنازَعا فيه عند عمر ليس هو الميراث؛ لأنهم قد عَلِموا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُورَث، وإنما تنازَعا في ولاية الصدقة وتصريفها؛ لأنَّ الميراث قد كان انقطَع العلم به في حياة أبي بكر[5].   5- وفي هذا الحديث أيضًا من الفقه دليلٌ على صحة ما ذهَب إليه فقهاء أهل الحجاز وأهل الحديث؛ من تجويز الأوقاف في الصَّدقات المُحبَّسات، وأنَّ للرجل أن يَحبس ماله، ويُوقفه على سبيل من سُبل الخير يَجري عليه من بعد وفاته.
6- وفيه جواز الصدَقة بالشيء الذي لا يَقف المُتصدِّق على مَبلغه؛ لأنَّ تَرْكه صلى الله عليه وسلم لَم يَقِف على مبلغ ما تَنتهي إليه[6].
8- وفيه أيضًا دَلالة واضحة على اتخاذ الأموال واكتساب الضِّياع، وما يَسع الإنسان لنفسه وعُمَّاله، وأهليهم ونوائبهم، وما يَفضُل على الكفاية، وفي ذلك رَدٌّ على الصوفية ومَن ذهَب مذهبهم في قَطْع الاكتساب[7].
9- وقد استدلَّ بهذا الحديث قومٌ في أنَّ للقاضي أن يَقضي بعِلمه، كما قضى أبو بكر في ذلك بما كان عنده من العلم[8].
10- ونزاع علي وعباس قبل عِلمهما بالحديث ورجوعهما بعد ذلك - هو الحق، بدليل أن عليًّا لَم يُغَيِّر الأمر حين استُخْلِف[9].
11- وقد زعَم بعض الرافضة أنَّ "لا نُورَث" بالياء التحتانيَّة، و"صدقة" بالنصب على الحال، و"ما ترَكناه" في محلِّ رَفْع على النيابة، والتقدير: لا يُورَث الذي ترَكناه حال كونه صدقةً، وهذا خلاف ما جاءَت به الرواية، ونقَله الحُفَّاظ، وما ذلك بأوَّل تحريفٍ من أهل تلك النِّحلة، ويُوضِّح بُطلانه ما في حديث أبي هريرة المذكور بلفظ: ((فهو صدقةٌ))، وقوله: ((لا تَقتِسم ورَثتي دينارًا))، وقوله: ((إنَّ النبي لا يُورَث))، (قالوا: نعم) [10].
12- قال الباجي: "أجمَع أهل السُّنة أنَّ هذا حُكم جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وقال ابن عُليَّة: إنَّ ذلك لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم خاصة، وقالت الإماميَّة: إنَّ جميع الأنبياء يُورَثون، وتعلَّقوا في ذلك بأنواع من التخليط لا شُبْهة فيها مع ورُود هذا النص، قال: وقد أخبَرني القاضي أبو جعفر السماني أنَّ أبا علي بن شاذان - وكان من أهل العلم بهذا الشأن، إلاَّ أنه لَم يكن قرَأ عربيَّة، فناظَر يومًا في هذه المسألة أبا عبدالله بن المعلم وكان إمام الإماميَّة، وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربيَّة، فاستدلَّ ابن شاذان على أنَّ الأنبياء لا يُورَثون بحديث: ((إنَّا - معاشرَ الأنبياء - لا نُورَث؛ ما تَرَكنا صدقةٌ))، فقال له ابن المعلم: أمَّا ما ذكَرتَ من هذا الحديث، فإنما هو "صدقةً" نصب على الحال، فيقتضي ذلك أنَّ ما ترَكه النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الصدقة، لا يُورَث عنه، ونحن لا نَمنع هذا، وإنما نَمنع ذلك فيما ترَكه على غير هذا الوجه، واعتمَد هذه النكتة العربيَّة، لَمَّا عَلِم أنَّ ابن شاذان لا يعرف هذا الشأن، ولا يُفَرِّق بين الحال وغيره، فلمَّا عاد الكلام إلى ابن شاذان، قال له: ما ادَّعيتَ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نُورَث؛ ما تَرَكنا صدقةٌ))، إنما هو صدقة منصوب على الحال، وأنت لا تَمنع هذا الحكم فيما ترَكه الأنبياء على هذا الوجه، فإنَّا لا نَعلم فرْقًا ما بين قوله: ((ما ترَكنا صدقةً)) النصب، وبين قوله: ((ما ترَكنا صدقةٌ)) بالرفع، ولا احتياج في هذه المسألة إلى معرفة ذلك؛ فإنه لا شكَّ عندي وعندك أنَّ فاطمة - رضي الله عنها - من أفصح العرب وأعْلَمهم بالفرق بين قوله: ((ما تَرَكنا صدقةً))، و((ما ترَكنا صدقةٌ))، وكذلك العباس بن عبدالمطلب، وهو ممن يستحقُّ الميراث لو كان موروثًا، وكان علي بن أبي طالب من أفصح قريش وأعْلَمهم بذلك، وقد طَلَبت فاطمة ميراث أبيها، فأجابَها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذا اللفظ على وجهٍ فَهِمتْ منه أنها لا شيء لها، فانصرَفت عن الطلب، وفَهِم ذلك العباس وكذلك علي، وسائر الصحابة، ولَم يتعرَّض واحد منهم لهذا الاعتراض، وكذلك أبو بكر الصِّديق - المُحتج به والمُتعلق به - لا خلاف أنه من فُصحاء العرب العالمين بذلك، لَم يُورد من هذا اللفظ إلاَّ ما يقتضي المنع، ولو كان اللفظ لا يَقتضي المنع، ما أورَده، ولا تعلَّق به، فإن كان النصب يقتضي ما تقوله، فادَّعاؤك فيما قلتَ باطلٌ، وإن كان الرفع الذي يقتضيه، فهو المروي، وادِّعاء النصب فيه باطلٌ.
(لا يَقتسم ورَثتي)، قال ابن عبدالبر: يَقتسم برَفْع الميم على الخبر دنانير، كذا ليحيى ولسائر الرُّواة دينارًا"[11].
13- وفيه: جواز ادِّخار الرجل لنفسه وأهله قوتَ السَّنة، وأنَّ ذلك كان من فِعل الرسول حين فتَحَ الله عليه من النضير وفدك وغيرهما، وهو خلاف قول جملة الصوفيَّة المُنكرة للادِّخار، الزاعمين أنَّ مَن ادَّخَر، فقد أساء الظنَّ بربِّه، ولَم يتوكَّل عليه حقَّ توكُّله.
14- وفيه: إباحة اتِّخاذ العقار التي يُبتغى منها الفضل والمعاش بالعمارة، وإباحة اتِّخاذ نظائر ذلك من المَغنم، وأعيان الذهب والفضة، كسائر الأموال التي يُراد بها النَّماء والمنافع لطلب المعاش وأصولها ثابتة.
15-وفيه من الفقه أنَّ أبا بكر قضى على العباس وفاطمة بقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا نُورَث))، ولَم يُحاكمهما في ذلك إلى أحدٍ غيره، فكذلك الواجب أن يكون للحُكَّام والأئمَّة الحُكم بعلومهم - لأنفسهم كان ذلك أو لغيرهم - بعد أن يكون ما حَكَموا فيه بعلومهم مما يعلم صِحة أمره رعيَّتُهم، أو يعلمه منهم مَن أن يَحتاجوا إلى شهادته إن أنكَر بعضَ ما حَكموا به من ذلك عليهم بعضُ رعيَّتهم، كان في شهادتهم لهم براءة ساحاتهم، وثبوت الحُجَّة لهم على المحكوم عليه[12].
16- تخيير عمر أزواجَ النبى - عليه الصلاة والسلام - بين الأَوْسُق أو الأرض من خَيْبر، فمعنى ذلك أنَّ أرض خيبر لَم تكن للنبى صلَّى الله عليه وسلَّم ملكًا وُرِّثت بعده؛ لأنه قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا نُورَث؛ ما ترَكنا صدقةٌ)).
وإنما خيَّرهنَّ بين أخْذ الأَوْسُق أو بين أن يُقْطَعْنَ من الأرض - من غير تمليكٍ - ما يحدُّ منه مثل الأَوْسُق؛ لأن الرُّطَب قد تُشتهى أيضًا كما يُشتهى التمر، فاختارَت ذلك عائشة؛ لتأكله رُطبًا وتمرًا، فإذا ماتَت عادَت الأرض والنخل على أصْلها، وَقْفًا مُسبلة فيما سُبِل فيه الفيء[13].
17- قال ابن بطَّال: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نُورَث؛ ما ترَكنا صدقةٌ))، هو في معنى قوله: ((إنَّ آلَ محمدٍ لا تَحِلُّ لهم الصدقة))، ووَجْه ذلك - والله أعلم - أنْ لَمَّا بعَثه الله إلى عباده، ووعَدَه على التبليغ لدينه والصَّدع بأمره الجنة، وأمرَه ألاَّ يأخُذ منهم على ذلك أجرًا، ولا شيئًا من متاع الدنيا بقوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾ [الفرقان: 57]، وكذلك سائرُ الرُّسل في كتاب الله كلُّهم، تقول: لا أُسألكم عليه مالاً ولا أجرًا، إنَّ أجْري إلاَّ على الله، وهو الجنة.
أرادَ صلى الله عليه وسلم ألاَّ يُنسب إليه من متاع الدنيا شيءٌ، يكون عند الناس في معنى الأجْر والثَّمَن، فلم يَحِلَّ له شيءٌ منها؛ لأن ما وصَل إلى المرء وأهله، فهو واصل إليه؛ فلذلك - والله أعلم - حرَّم الميراث على أهله؛ لئلاَّ يُظَنُّ به أنه جمَع المال لورَثته، كما حرَمهم الصَّدقات الجارية على يديه في الدنيا؛ لئلاَّ يُنسَب إلى ما تبرَّأ منه في الدنيا، وفى هذا وجوب قَطْع الذريعة، وقد روى ابن عُيينة عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنَّ الرسول قال: ((إنَّا - معشرَ الأنبياء - لا نُورَث؛ ما ترَكنا صدقةٌ))، فهذا عام في جميع الأنبياء، وظاهر هذا يُعارض قوله تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ﴾ [النمل: 16].
قيل: لا معارضة بينهما بحمد الله؛ لأن أهل التأويل قالوا: وَرِث منه النبوَّة والعلم والحِكمة"؛ ا.هـ[14].
17- قال النووي: "والحكمة في أنَّ الأنبياء لا يُورَثون، أنه لا يُؤمَن أن يكون في الورثة مَن يتمنَّى موته، فيَهلك، ولئلاَّ يُظَنُّ بهم الرغبة في الدنيا لوارثهم، فيَهلك الظانُّ، ويَنفر الناس عنهم"؛ انتهى[15].
18- فإن قلت: فما وجه عدم رضا فاطمة حينئذٍ، بما فعَل أبو بكر رضي الله تعالى عنهما قلتُ: لعلَّ عدمَ رضاها ما كان بمَنْع الإرث بعد سماع الحديث، بل كان بعدم إعطاء أبي بكر شيئًا إيَّاها تَكرُّمًا وإحسانًا؛ إذ مقتضى ما كان بينهم من المحبَّة أنَّه إذا جاء أحدهم إلى الآخر؛ ليَطلب شيئًا بسببٍ، فإن لَم يكن هناك ذاك السبب، فليُعطه ذلك الشيء بسببٍ آخرَ، فإن قلت: فما بالُ الصِّدِّيق ما أعطاها تَكرُّمًا وإحسانًا، مع أنه كان هو اللائق بما كان بينهم من المحَّبة؟! قلت: قد ذكَر أبو بكر أنَّ مقصوده أن يفعلَ في المال ما فعَل فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن يَضَعه في المواضع التي وضَعه صلى الله تعالى عليه وسلم فيها، ورأى أن ذلك أهمُّ، بل خاف الضلال على تَرْكه إن تُرِك، ومعلوم أنَّ المال ما كان لأبي بكر، حتى يفعل فيه ما يُريد، فهل يُلام الرجل على فِعْلٍ فعَله اقتداءً برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم؟! فإن قلت: كيف يَصِحُّ لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مَنْعُ الإعطاء بعد أن ظهَر تأذِّيها بالمنْع، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ((مَن آذى فاطمة، فقد آذاني))؟! قلت: معلوم أنه لا يمكن القول بتَأَذِّيها بمَنْع الإعطاء على وجه الإرث بعد ما سَمِعت حديثَ ((لا نُورَث))، وإنما كان تأذِّيها لو سلَّم بمنْع الإعطاء تَكرُّمًا، وقد عَلِمت أنَّ الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه - ترَك الإعطاء بذلك الوجه؛ لمصلحةٍ أهمَّ عنده، على أنه يُمكن أنَّ يكون الإعطاء بذلك الوجه لَم يَخطر ببال الصِّدِّيق، بناءً على أنه ما سبَق منها الطلب بذلك الوجه، وإنما سبَق منها الطلب بوجه الإرث، فلم يَصدر من الصِّدِّيق ما يُوجب تَأَذِّيها قصدًا، وإنما حصَل ذلك بلا مدخل للاختيار، ومثل ذلك لا يُعَدُّ من الإيذاء، ولو فُرِض شمولُ مدلول لفظ الإيذاء لمثله لُغةً، لكان في حُكم المُستثنى في الحديث معنًى، وقد صدَر مثله عن علي مع فاطمة - رضي الله تعالى عنهما - كما هو مشهور في واقعة حديث ((قُمْ أبا ترابٍ))، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ((المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده))، مع أنَّ الأمر بالمعروف، وإقامة الحدود على المسلمين واجبٌ، ولا يُعَدُّ ما يَحصل بسببه إيذاءً أصلاً، بل إصلاحًا، فكم من أمرٍ مُستكره لشخص، لا يُعَدُّ إيذاءً، ولا يكون في حُكمه مما هو من هذا القبيل أو قريب منه، فتأمَّل، والله تعالى أعلم[16].
19- فكانت الحِكمة في ألاَّ يُورَثوا؛ لئلاَّ يُظَنُّ أنَّهم جَمَعوا المال لوارثهم[17].
20- وقيل: إنَّ الحِكمة لكون النبي صلى الله عليه وسلم كالأبِ لأُمَّته، فيكون ميراثه للجميع، وهذا معنى الصدقة العامة[18].
20- وقد احتجَّ بعضُ المُحدِّثين على بعض الإماميَّة، بأنَّ أبا بكر احتجَّ بهذا الكلام على فاطمة - رضي الله عنهما - فيما الْتَمَست منه مِن الذي خَلَفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأراضي، وهما من أفصح الفُصحاء، وأعلمهم بمدلولات الألفاظ، ولو كان الأمر كما يَقرَؤه الرافضي، لَم يكن فيما احتجَّ به أبو بكر حُجة، ولا كان جوابه مطابقًا لسؤالها، وهذا واضح لِمَن أنصَف قوله: (مما أفاء الله عليه)[19].
21- فيه دليلٌ على قوَّة تمسُّك أبي بكر رضي الله عنه بالسُّنة؛ حيث قال: "لستُ تاركًا شيئًا، كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعمل به، إلاَّ عَمِلتُ به"[20].
22- وفي حديث عمر أنه يجبُّ أن يتولَّى أمرَ كلِّ قبيلة كبيرُهم؛ لأنه أعرفُ باستحقاق كلِّ رجلٍ منهم.
23- وأنَّ للأمام أن يُنادي الرجلَ الشريف الكبير باسْمه، وبالترخيم؛ حيث لَم يُرِد بذلك تَنقيصه.
24- وفيه استعفاء المرء من الولاية، وسؤالُه الإمامَ ذلك بالرِّفق.
25- وفيه اتِّخاذ الحاجب والجلوس بين يدي الإمام، والشفاعة عنده في إنفاذ الحُكم، وتبيين الحاكم وجْهَ حُكمه.
26- وفيه إقامة الإمام مَن يَنظر على الوقف نيابةً عنه، والتشريك بين الاثنين في ذلك، ومنه يُؤخَذ جوازُ أكثر منهما بحسب المصلحة، وفيه جواز الادِّخار، خلافًا لقول مَن أنكَره من مُشدِّدي المُتزهِّدين، وأنَّ ذلك لا يُنافي التوكُّل.
27- وفيه جواز اتِّخاذ العَقار، واستغلالُ مَنفعته، ويُؤخَذ منه جوازُ اتِّخاذ غير ذلك من الأموال التي يَحصل بها النَّماء والمنفعة؛ من زراعة، وتجارة، وغير ذلك.
28- وفيه أنَّ الإمام إذا قام عنده الدليل، صار إليه، وقضى بمقتضاه، ولَم يَحْتَج إلى أخْذه من غيره، ويُؤخَذ منه جوازُ حُكم الحاكم بعِلمه، وأنَّ الأتْباع إذا رأَوا من الكبير انقباضًا، لَم يُفاتحوه؛ حتى يُفاتحهم بالكلام.
29- واسْتُدِلَّ به على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يَملِك شيئًا من الفيء، ولا خُمس الغنيمة، إلاَّ قَدرَ حاجته وحاجة مَن يمونه، وما زادَ على ذلك، كان له فيه التصرُّف بالقَسْم والعَطيَّة[21].
30- اسْتُدِلَّ بهذه الأحاديث على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، بتخصيص آية الميراث بقوله: ((لا نُورَث؛ ما ترَكناه صدقةٌ)) [22].
31- هذا الخبر تَلَقَّته الأُمَّة بالقَبول، ولَم يُنقل عن أحدٍ أنه ردَّه؛ ولهذا نقول: إنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا - معاشرَ الأنبياء - لا نُورَث؛ ما تَرَكنا صدقةٌ)).
لَمَّا اتَّفقوا على العمل به، دلَّ على أنه صحيحٌ عندهم[23].


[1] تنبيه: هذه الأحكام والفوائد مُستنبطة من جميع مَرْويَّات هذه القصة، واكْتَفَينا بذِكر رواية واحدة؛ حتى لا يطول البحث. [2] التمهيد؛ لابن عبدالبر (8/ 153). [3] المصدر السابق (8/ 155). [4] المصدر السابق (8/ 160 - 161). [5] المصدر السابق (8/ 167)، والعرف الشذي؛ للكشميري (3/ 226)؛ تحقيق محمود شاكر. [6] المصدر السابق (8/ 175 - 176). [7] التمهيد؛ لابن عبدالبر (8/ 176). [8] المصدر السابق. [9] تحفة الأحوذي؛ للمباركفوري (5/ 192). [10] المصدر السابق (5/ 193). [11] تنوير الحوالك شرح موطَّأ مالك؛ للسيوطي (1/ 257). [12] شرح صحيح البخاري؛ لابن بطَّال (9/ 325 - 326). [13] المصدر السابق (11/ 487). [14] المصدر السابق (15/ 377 - 378). [15] عون المعبود شرح سُنن أبي داود (8/ 135). [16] حاشية السندي على صحيح البخاري (2/ 77 - 78)، ط: دار الفكر. [17] فتح الباري (12/10). [18] المصدر السابق. [19] المصدر السابق (6/ 232). [20] المصدر السابق (6/ 234). [21] فتح الباري (6/240) مختصرًا. [22] بدائع الفوائد؛ لابن القيِّم (4/ 845)؛ تحقيق هشام عبدالعزيز عطاء، مكتبة الباز- مكة، الطبعة الأولى 1416هـ. [23] مجموع الفتاوى؛ لابن تيميَّة (2/ 116).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١