أرشيف المقالات

تعقيبات

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
8 للأستاذ أنور المعداوي أدب النفس أو أدب التراجم الذاتية: أنتظر بفارغ الصبر أن تتموا كتابكم عن شاعر الأداء النفسي الأستاذ على محمود طه، وأن تدفعوا به إلى المطبعة ليأخذ طريقه إلى أيدي القراء في شتى البلاد العربية.
وليس من شك في أنني سأجد فيه ما تميزتم به من دقة الحكم وجمال العرض وبلاغة الأداء.
ولعل الفصول التي نشرتموها في الرسالة الزاهرة هي التي شوقتني إلى هذا الكتاب وجعلتني أتلهف إلى شرائه والاطلاع عليه، ونقده الذي يليق به ويليق بما جاء فيه من غوص وعرض وتحليل ونماذج، إننا لنشكرك على ما بذلت من جهد في هذا الكتاب القيم، ونرجو من الله أن يوفقك إلى إنجازه؛ فقد فكر النقاد في نقده وعرضه قبل أن يخرج كاملاً إلى وجه الحياة، وفي قراءته وهو ما عتم بين المحابر والأقلام. بعد هذا أود أن أذكر لكم أنني أذعت حديثا عن الأستاذ توفيق الحكيم من محطة الإذاعة العربية بهلفرسم، وأنني أعقبت هذا الحديث بحديث آخر عن معالي الدكتور طه حسين بك، وقد بقي أن أكتب حديثا ثالثا عن الأستاذ الزيات في سلسلة أعلام أدبنا العربي الحديث.
وبعد شهرين على وجه التقريب سيكون حديثي الرابع عن النقد والنقاد في مصر، وبالطبع سأبدأ بكم كناقد له أثره المعروف وخصائصه الممتازة.

وفي خلال هذه الفترة أرجو أن تكتبوا - إن بدا لكم - عن نفسيتكم، إذا استطعتم أن تعرضوا هذه النفسية بشيء من التأمل الباطني والصراحة المحببة، حتى أرى رأيكم فيها وكأنها شئ تنقدونه وهو عنكم بعيد! ومع أنني قد وقفت على كثير من جوانب شخصيتكم الأدبية والإنسانية من خلال هذه (التعقيبات) التي تكتبونها للرسالة، إلا أن هذا الذي أطالبكم به سيعينني على أن أطيل الوقوف وأخرج ببعض الزوايا وأحدد بعض الخطوط ولكم خالص التحية من المخلص: أحمد طه السنوسي الأستاذ أحمد طه السنوسي صاحب هذه الرسالة كاتب من الكتاب المعروفين لقراء (الثقافة) فضلا عن قراء (الأهرام)، بما ينشره هنا وهناك من فصول قيمة في الشئون العربية والسياسية والاقتصادية.

ولقد أتيح لنا أن نطلع على الحديثين اللذين أذاعهما عن الأستاذ توفيق الحكيم والدكتور طه حسين، وعلى هذا المقال الذي كتبه عن (الشعر العربي في حضرموت) بالعدد الماضي من (الرسالة).
ومن هذه الأحاديث الأدبية نستطيع أن نطمئن إلى الملكة الناقدة عند الأستاذ الفاضل، إذا ما خطر له أن يقيم الميزان لناقد من النقاد أو أديب من الأدباء. وللأستاذ أن يتقبل شكرنا أولاً على حسن ظنه، وأن يثق ثانياً بأننا ماضون في إنجاز الكتاب الذي وعدنا القراء بإنجازه، ونعني به تلك الدراسة المطولة لحياة الأستاذ على محمود طه وشعره؛ وهي الدراسة التي نشرنا بعض فصولها على صفحات الرسالة.

ولقد كنا على وشك الانتهاء من هذا الكتاب وتقديمه إلى المطبعة، إلا أننا قد رأينا أن نرجئ إخراجه بعض الوقت تبعا لما طرأ من تعديل على منهج الدراسة ومما ترتب عليه من إضافة لبعض الفصول، نلتمس ضوئها ما نتطلع إليه من كمال فني يتناسب ومكانة الشاعر العظيم. أما عن رغبة الأستاذ الفاضل في أن نقدم إليه شيئاً من الترجمة الذاتية التي تتصل بأدب النفس فإننا نقول له: إن دراسة الشخصية الأدبية مرتبطة بالشخصية الإنسانية أمر من ألزم الأمور لكاتب التراجم ودارس الأدب وناقد الفنون.
ولقد سجلنا هذه الحقيقة الفنية في مقدمة دراستنا لشعر على محمود طه حيث قلنا على صفحات الرسالة منذ شهور: (لقد درسنا حياة على طه النفسية ودرسنا آثاره الفنية.

درسنا هذه وتلك على طريقتنا التي نؤمن بها وندعو إليها كلما حاولنا أن نكتب عن أصحاب المواهب أو كلما حاول غيرنا أن يكتب عنهم: مفتاح الشخصية الإنسانية أولاً، ومفتاح الشخصية الأدبية ثانياً، والربط بعد ذلك بين الشخصيتين لننفذ إلى أعماق الحقيقة في الحياة والفن ومدى التجاوب بينهما منعكساً على صفحة الشعور المعبر عنه في كلمات)
ودراسة الحياة النفسية لأديب من الأدباء تقتضي من الدارسين أن يتصلوا اتصالاً مباشراً بهذه الحياة بغية المراقبة والملاحظة والتسجيل.
وإذن فلا مناص من المصاحبة والمعاشرة بين الناقد والمنقود، لتتكشف الشخصية الإنسانية للدارسين من خلال ثوبها الطبيعي الذي يشف عما تحته بلا تعمل ولا تكلف ولا رياء.
ذلك لأن البيئة التي نعيش فيها والمجتمع الذي نضطرب فيه، لا يهيئان لنا أن نتحدث عن أنفسنا حديث الصراحة السافرة التي تعني بإبراز المحاسن والمآثر عنايتها بإبراز المساوئ والعيوب.

وليس من شك في أن الأستاذ السنوسي يلتمس لنا بعض العذر إذ قلنا له إن الحديث عن النفس شيء عسير، ولا نقول شيء بغيض كما يحلو لبعض المتجرين بالتواضع أن يصفوه! عسير لأن المجتمع الذي نتنفس في رحابه سيتهمنا إذا نحن أنصفنا أنفسنا فذكرنا منها الجانب المضئ، وسيتهمنا مرة أخرى إذا ما عرضناها في صورتها الحقيقية وهي في كنف الظلام.
نحن إذن معشر الأدباء متهمون في كلا الحالين، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا ما كتب عنا الآخرون لأنهم في نظر المتجمع قضاة محايدون.
هذا إذا قدر لهم أن يطلعوا على ما خفي وما ظهر في حياة المنقودين من شتى الميول والنزعات! لو كنا في بيئة غير البيئة ومجتمع غير المجتمع لتحدثنا عن أنفسنا حديث الفن لا يخشون لومة لائم ولا اتهام متهم، ولا جناية جان على حقيقة الطبائع النفسية كما فطرها الله وكما قدر لها أن تكون.

ولكننا بهذه الأوضاع الاجتماعية في الشرق لا نستطيع، وإذا أتيح لنا أن نتحدث إلى الغير عن حياتنا الذاتية بجوانبها المشرقة والمظلمة، فهي الإتاحة التي تدفعنا إلى ذكر بعض الحق والتستر على البعض الآخر، وحياة كهذه يحال بيننا وبين التحدث عنها بكل الحق هي في رأينا حياة لا يطمئن إليها الدارسون! إننا نبغي من وراء الدراسة النفسية لحياة أديب من الأدباء أن نضع أيدينا على مفتاح شخصيته الإنسانية، ورب حادث تافه يتحرج الكاتب من ذكره فيدفع إلى حذفه من تاريخ حياته؛ رب حادث كهذا يقدم إلينا المفتاح الحقيقي لشخصيته حين يكتب في بضعة أسطر فلا تغني عنه مئات الحوادث في ألوف من الصفحات! إن الحياة النفسية إذا أريد لها أن تعرض فلتكن في صراحة (الاعترافات) لروسو وجرأة (اليوميات) لأندريه جيد.

ونقتطف هنا بعض ما قلناه من الاعترافات واليوميات نقلا عن مقال كتبناه للرسالة منذ سنتين، وكان عنوانه (دفاع عن الأدب): (الاعترافات واليوميات صورة واقعية لفترة من حياة الكاتبين الكبيرين، تعد في حقيقتها لوناً من الترجمة الذاتية التي تضع في يد القارئ والناقد مفتاح شخصيتهما الأدبية والإنسانية.

وحسبك أن كتاب الاعترافات يقدمون إلى الناس صفحات من سجل الحياة سطرت بمداد الصراحة والأمانة والصدق؛ صفحات عارية لا تكاد تتشح بغلالة واحدة من غلائل النفاق الاجتماعي وتملق عواطف الجماهير ولعمري إن الكاتب الذي يعرض أمام الناس فترة من فترات حياته بما حفلت من خير وشر، من فضيلة ورذيلة، من لذة وألم دون أن يخشى في ذلك نقداً أو لوماً أو زلزلة لمكانته الأدبية والاجتماعية، هذا الكاتب في رأينا ورأي الحق رجل قوي جدير باحترام الأقوياء.
إن هناك كتاباً يتظاهرون بحب الخير والتمسك بأهداب الفضيلة وهم غارقون في حمأة الموبقات، فهل نستطيع أن نصف أدبهم بأنهأدبقوة؟ كلا.

ولا نستطيع أن نرفع من قيمة هذا الأدب إذا ما قسناه بمقياس الفن الصادق، مقياس صدق التعبير عن الحياة، لأنه أدب يعبث بالحقائق ويشوه الوقائع ويكذب على الحياة والناس إن أندرية جيد لو لم يكن متأثراً في كتاباته بفيلسوف القوة نيتشه لما تهيأ له أن يتناول قلمه ليكتب ما كتب في اليوميات)
هذه فقرات مما جاء بمقالنا الذي كتبناه منذ سنتين عن روسو وأندريه جيد.
ولا ينتظر الأستاذ السنوسي من أي كاتب في الشرق أن يتحدث عن نفسه بكل الحق كما فعل الكاتبان الفرنسيان، وليس كحديثهما حديث يرتجي منه صدق التعبير عن عالم النفس وأمانة النقل عن واقع الحياة. بين ثقافة المدرسة وثقافة الحياة: أنا من عشاق الأدب وقراء الرسالة ومشكلتي هي مشكلة الكثيرين ممن حال الفقر بينهم وبين مواصلة التعليم مات والدي وأنا طالب بالمدارس الابتدائية، ولم يترك لي من المال ما يعيني عل طلب العلم حتى النهاية.
وحين حصلت على الشهادة الابتدائية بعد جهد عنيف حيال الظروف القاسية، لم أستطع أن أنظر إلى أكثر من هذا الذي حصلت عليه، لأنني كنت موزع الفكر بين واجبين: أولهماأن والدي ترك لي والدة وشقيقات ليس هناك من يكفلهن غيري، وثانيهما رغبتي في إتمام مرحلة التعليم شفغاً بالثقافة والمعرفة.
ولم أجد بدا من الخضوع للواجب الأول نزولاً على حكم العاطفة ونداء الضمير، وكان أن التحقت بإحدى الوظائف الحكومية بمرتب ولو أنه ضئيل، إلا أنه يوفر لنا حياة تبعد عنا شبح الفاقة والحرمان. واليوم وقد حالت الظروف المادية بيني وبي طلب العلم في المدرسة، فقد رأيت أن أطلبه في مدرسة أخرى هي مدرسة الحياة.

فهل تقبلون أن تكونوا أنتم الأستاذ المشرف على ما يبتغيه تلميذكم المخلص من وسائل التوجيه والإرشاد؟ إنني أريد أن أدرس الأدب العربي دراسة وافيه، وكذلك أريد أن أتجه إلى التثقيف العام الذي يأخذ من كل شيء بمقدار.

فأي الكتب أقرأ، وعلى أي منهج أسير؟ ودمتم عوناً للأدب ونصيراً للأدباء. (شندى السودان) عطيه حسن بمصلحة البريد والبرق من حق الأديب السوداني الفاضل علينا أن نحيي فيه هذه الروح الطيبة، روح الجهاد الذي يريد أن يشق طريقه ولو امتلأ الطريق بالأشواك، وروح التضحية في سبيل الأهل حين لا يكون هناك مفر من تحول التضحيات.

إن الجهد الذي يبذل في سبيل المجموع خير عند الله وأبقى من الجهد الذي يبذل في سبيل فرد من الأفراد! وإذا كان الفقر قد حال بين الأديب المجاهد وبين التعليم فإنه لن يحول بينه وبين التثقيف، ذلك لأن العلم يطلب في المدرسة وخارج المدرسة، ولن يستطيع أحد أن يقول بأن المدارس هي التي تخرج الأدباء وتصنع المثقفين.

إن الفضل في تخريج هؤلاء وأولئك يرجع إلى المواهب الذاتية والجهود الفردية، هناك في مدرسة الحياة حيث يجد كل إنسان بغيته من ثمار الآداب والفنون وهل هناك ما يصقل العقول ويلهم النفوس أكثر من مصاحبة العلم في الكتب وممارسة التجارب في الحياة؟ بهذه وتلك يخلق الأديب ويوجد المفكر ويولد الفنان.

وما أكثر الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم حين حرموا المرشد وفقدوا الموجه وحيل بينهم وبين إشراف المدرس ورقابة الأستاذ! بعد هذا يريد الأديب الفاضل أن يدرس الأدب العربي دراسة وافية، ثم يطلب إلينا أن ندله على الكتب التي يقرؤها ليظفر بما يريد.

الحق أن هذا مطلب عسير التحقيق، لأننا محتاجون إلى أن نصدر عدداً خاصاً من (الرسالة) يتسع لهذا العدد الضخم من أسماء الكتب وأصحاب الكتب من القدامى والمحدثين!! هناك طريق واحد يجب أن يسلك، وهو أن يقصد الأديب صاحب السؤال إلى دور الكتب العامة حيث تكون بين يديه شتى الفهارس للمصنفات والأعلام، وعلى هدى تلك الفهارس يستطيع أن يطلع على القديم والجديد إطلاع الدارس والمتذوق والناقد إذا أراد.
.
والأمر بعد هذا كله متوقف على جهده الشخصي ومدى قدرته على التفرغ والمثابرة واحتمال المشقات إن للأدباء المحدثين دراسات وافية للأدب العربي في عصوره المختلفة وخصائصه المتميزة، فعليه أن يرجع إلى هذه الدراسات التي تعينه على فهم هذا الأدب وتذوقه عن طريق المقارنة بين الدراسة والنص، أو بين النقد والمثال. أما عن رغبته في التثقيف العام الذي يأخذ من كل شيء بمقدار، فإن الطريق ممهد إذا ما حقق هذا الذي قلناه بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال.

ثم إذا تهيأ له أن يتقن لغة غير لغته ليستعين بها على النظر في شتى الآداب الأجنبية وآثار الفكر الغربي الحديث.
ولن يكون المثقف مثقفاً بأوسع معاني الكلمة إلا إذا قرأ في كل شيء وحلق في كل أفق وطرق كل باب من الأبواب.

نعني أن الأدب وحده ليس هو المجال الذي يقتصر عليه طالبوا الثقافة ليصبحوا مثقفين، ولكن المجال يجب أن يتعداه إلى ألوان أخرى من العلوم والفنون! مذهب جديد في نقد الشعر: قارئ من قراء الرسالة لم يشأ أن يذكر اسمه ولا اسم الشاعر الذي بعث إلينا ببعض شعره، ولكنه يقول لنا في رسالته: لقد خرجت من دراستكم لشعر الأستاذ علي محمود طه رحمه الله، بأن هناك مذهباً في نقد الشعر هو مذهب (الأداء النفسي) الذي تنادون به ولا تعترفون بمذهب سواه.

ولقد حاولت من جهتي أن أطبق مذهبكم هذا على شعر أستاذ من شعرائنا.
الأحياء فخانني التوفيق، وحسبي أن أقدم إليكم نموذجاً من هذا الشعر لتروا فيه رأيكم عما إذا كان يستقيم ومذهبكم في نقد الشعرأملا يستقيم.

قال شاعرنا مخاطباً صاحبته مشيراً إلى هذا الكون الذي يحيط بهما ويعيشان فيه: حسبنا منه سماء لمعت ...
فوق رأسينا بنور كوكبي حسبنا منه وساد خشن ...
تحت رأسينا وكوخ خشبي؟ هذه هي الرسالة الطريفة التي بعث بها إلينا الأديب المجهول.
وردنا عليه هو أن هذا الشعر لا يمكن أن يستقيم ومذهب الأداء النفسي بحال من الأحوال، ولكنه يصلح للدراسة في ضوء مذهب آخر في نقد الشعر، هو مذهب (الأداء الخشبي).

وحسب الشاعر الذي جادت قريحته بهذه (الأكواخ الخشبية) في الشعر الحديث، حسبه أنه وجه أنظار النقاد إلى مذهب جديد!! أنور المعداوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣