أرشيف المقالات

صحيفة أدب وأخلاق

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
8 عطفة القاياتي للأستاذ حسن القاياتي بقية ما نشر في العدد الماضي إنا ليملكنا الزهو باطلا بالكمالي البحت من ابتناء الضخم وإصلاح الطرقات ولا نعمل على الحاجى الحتم من ابتناء النشء وإصلاح العقول، ولولا النبل في بناة الأهرام لما فخرنا بالأهرام يبني الرجالَ وغيره يبني القرى ...
شتان بين قرى وبين رجال ما أبين الرياء الخلقي والاجتماعي فينا! هذه حالنا من القذر الجسماني والمنزلي والشعبي لا ما تسمع أيها القارئ، بل ما تشهد وما تلمس لا ما تحدث.
وقد حدثني ناظر أولي أن طبيب مدرسته رأى إحدى النافذات في المدرسة بدون أسلاكها الدقيقة فغضب لصحة التلاميذ غضبة كادت تعطل الدراسة لولا توسل صاحب المدرسة إليه واستخذاؤه إنا لأمة لا قوام لأمرنا ولا اعتدال، فينا ينبت نشؤُنا على المذابل وشواطئ المستنقعات، ولا يقنعنا الصلف أن يدرس هذا النشء إلا في الروضات والجنات! ونحن أناس لا توسط بيننا ...
لنا الصدد دون العالمين أو القبر أما وقد أجرت كلمتنا حديث الحمامات القديمة فطالما عرفتنا وعرفناها كما عرف العصريون حماماتهم وعرفتهم.
دخلنا نحن حماماتنا قديماً وآنفاً ودخل العصريون حماماتهم، وتجردنا لها داخلين وتجردوا داخلين إليها وخارجين، ودخلناها جنساً واحداً ودخلوها ومعهم الجنس اللطيف، فان تصعَّد في حمامنا نَفَس أو ندِىَ جبين فإنما يتصعد النفس أو يندي الجبين في الحمامات العصرية من بعض ما تجد أصحابنا من حرقة على الحسن المتجرد السليب أو غضاضة على الحسن ما أفتن الحمامات في مصر، أندية ترفيه، ومجالي نعمة وغضارة! بل مبتعث حكمة آونة وعظة، يقبل عليها شيع متباينة من الناس حتى إذا نكَّرهم في صورهم التجرد من الثياب وهي مظهر الجلال الزائف، نكرهم في نفسياتهم وطبقاتهم فلا يستبين للناظر المتوسم فيهم أيهم السيد السريّ، وأيهم السوقي الزرى، ومن العالم الخطير والعامي الفَدْمٍ؟ فربما شهد رجلاً عليه مسحة من طراوة العيش وبضاضة المتجرَّد، وشهد آخر تعلوه طبقة من التقشف والشحوب وفقد التطرية والنضرة، فأقبل يحسب ذاك سيداً ضخماً من رجالات الشعب ويعتبر هذا رجلا من عرض الجماهير أي رجل هذا، حتى إذا أفضت بهم خاتمة المطاف إلى ملابسهم ورجع كل مستحم إلى ثيابه وحليته فشد ما يهول هذا المتوسم بل يملأ فمه ابتسامة من أمر صاحبيه أن أمثلهما في حكم نظره وتوسمه حوذي أو سائس بغل أو قرد، وأن ثانيهما الزَّرى عنده سيد نبيل من تقتدي بهم الأمم وتحاضر الملوك ترى الرجل النحيف فتزدريه ...
وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه ...
فيخلف ظنك الرجل الطرير أكبر اليقين لا الظن أن الله ينظر إلى خلقه كنظرتك إليهم في حمامهم مجردين من كل عظمتهم المصنوعة الساحرة، أنبلهم عنده أنبلهم نفساً لا ثوباً أجل.
إن الحمامات هذه خليقة بأن تُجدَّ لنا هذه الحكمة والعظمة: إذا أنت وزنت الرجال وقدرتهم فانظر إليهم مجردين من كل مظاهرهم الخداعة كما تنظرهم في حمامهم، ثم ليكن قضاؤك على الألباب لا الثياب ناهيك من الحمام بيت فخم أنيق يقطر بنضرة ورفاهية كما يقطر بماء وحرارة، ويتنفس بدفء وفتور ساحر معجب كأنه فتور الجفون كله حسن وطلاوة وتنهدات كتنهدات الصبابة بيد أنها برد وغبطة، ذلك إلى ما في سجيته من إرسال النفوس على السجية والتحلل ساعة من قيود الكلفة والتعمل الاجتماعي وخلع شيء من التوقر القائل في خلع الأثواب إلى ما فيه من سويّة في المكانة وأسوة بين الطبقات بيد أن حمامنا القديم ربما تكشف عن هنات شائنة لو تجرد منها لكان نعيماً دنيوياً.
وأناشدك الله أيها القارئ ماذا أنت قائل إلاَّ الشر في ذلك البخور الكريمة البغيض الذي يحرقونه أو يطلقونه كما يقولون ليطير الأرواح الخبيثة وقد شهد الله أنه من بغضه وكراهيته خليق بأن يطير الأرواح الطيبة قبل الخبيثة ليس يَقَرُّ بعيني عصري متأنق صقلته الحاضرة أن يشهد في جنبات الحمام هذه الصراصر والحشرات سباحة حواليه تقذي بها عينه، ولا يطيب قلب هذا المتحضر أن يتولى نظافته وصقله شيخ متوقر أشمط اللحية فيمتهن جلال هذه السن أو يذكر به جده الأعلى فيغضي على استحياء ضحوا بأشمط عنوان السجود به ...
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً حدثني أزهري عصري النزعة حلو الفكاهة حار النادرة قال: دخلت الحمام فاستدعيت الخادم (صاحب الكيس) فأقبل عليّ شيخ أشيب دالف يحبو إلى التسعين ذكرت به جدي الأعلى، فلما دنا مني ليأخذ في مهنته جعلت أقطع النظر بينه وبين صورة في نفسي لأستاذي العالم في الأزهر أستاذ البلاغة، فإن عليه مسحة منه أبْيَنُها هذه اللحية المسترخية؛ ثم تقبلت خدمته على تكرُّه ومضض، وقد رمت رأسي بالإطراف وكسر الجفون ذكرى جدي الأعلى وتشابه شيخي الأكبر.
قال محدثي الرقيق: لم أكد أتعرف حاجة للحمامات بخدمة هؤلاء الشيوخ الفانين خاصة وهذه اللحى المسترسلة حتى ابتدرت نظرة إلى ساحة الحمام فإذا الصراصر تمرح فيها فقلت: لقد علمت الآن: هذه المكانس لهذه الحشرات ولحية يحملها مائق ...
مثل الشراعين إذا أشرعا لو غاص في البحر بها غوصة ...
صاد بها حيتانه أجمعا حُبَّبَ إلى راقصة فنانة بعيدة مسرى الصيت من معبودات الجماهير كما يقولون أن تزور حمامنا هذا فكان لها ما تشهَّت من تلك الزورة، فلما قضت منه كل حاجة خرجت إلى الطريق، وكان قد تسمع إلى خبر زورتها هذه فصائل من ولدان الحارة ونشئها الصغار يحبوا أكبرهم إلى العاشرة، فلم تكد الفنانة تبدو خارجة من الحمام حتى تلقوها بالتحية فاصطفوا فريقين، قطعة هنا وقطعة هناك، وقد احتملوا بأيديهم الشموع موقدة تزهر نهاراً يحتفلون للزائرة المفداة، وأقبلت هي بسامة الثغر مزهوة تخطر كخطراتها على المسرح بين صفي نور وإجلال ولقد تقضي زمن بعيد من لدن هذه الذكرى وما يتقضى العجب منها، أتساءل: هل استخف الصبية لتحية هذه الفنانة نباهتها، إذن فليس العجب أن تسحرهم النباهة وقد سحرت آباءهم من قبل، إن النباهة لسحَّارة، وإن كانوا إنما احتفلوا لحسن في الراقصة وفن، فما أبدع أن ترف حتى القلوب الطفلة على الحسن والفن ومشبه بالغصن قلبي ...
لا يزال عليه طائر إن الحمامات قطعة من التاريخ القديم، إن تعهدها العصر بالتطرية والصقل كانت قطعة من النعيم: وحمام دخلناه لأمر ...
حكى صَقَراً وفيه المجرمونا فيصطرخون فيه أخرجونا ...
فان عدنا فإنا ظالمونا هذا عهد للعطفة، ولقد تصرَّم قبله عهد كانت تشهد فيه حياة شيخ معهم من كُشَّاف الغيب طلائع المستقبل، شرَّق اسمه وغرَّب؛ وجاء الثناء على حذقة بالغيب من كل لغة ومنطق، يفضي إليه الناس كافة من شرقي وغربي، سيان في قصده حملة العمائم وحملة القبعات، أهل فينا عنده وباريس، كأهل أدفينا وسنتريس كنا نشهد الباريسية المتحضرة الجامعية إلى جانب القروية المصرية داخلتين إلى الشيخ تستقرئانه رسالة المغيَّب فنقول: آمنا بالله! ما أشبه الناس بالناس! وما أقرب العلم من الجهل إذا تبرأ من العقل! كان (السيد رمضان) صاحب ذلك البيت المتصدر نضر الله مثواه طليعة وعيناً على الغيوب والخفيات قلما تشهد في فصيلة الشيوخ والمعممين شيخاً مثله حلاوة شمائل ورقة هندام، ذلك إلى أنه كان قراره مزايا وملتقى خلال حسنه قلما تتهيأ لسيد غيره إلا بتوفيق من الله كان السيد رمضان يحمل نفسا طروبا مرحة وأذنا موسيقية، صَناَع اللسان صَناَع اليد بالبيان العربي الساحر والتغني ونقر الأعواد والموسيقيات، كما هو صناع اللب بتكشيف المحجبات والخفايا، إذا جس أوتاره لمس بها القلوب، كما يلمس بأسراره الغيوب فلما عبثن بأوتارهن ...
قبيل التبلج أيقظنني دعون هناك بأعوادهن ...
فأصلحنهن وأفسدنني شدَّ ما حفلت دار هذا المتجسس على الغيب في (ليالي حضراته) حتى فاضت بجمهرة ضخمة من العلية والسوقيين معا، وأمتها لأجلهم صفوة شائقة من نابغة المطربين في الشق كله.
ناهيك منها (يوسف) و (عبده) و (عثمان) و (صالح العربي) وأين عهد صالح؟؟؟ فمن دون هؤلاء من المطربين إذ ليس فوقهم احد، ثم اختلف إليها معهم أسراب فاتنة من نبات الكناس وأسرى الحجال من كل مخبأة لعوب ميالة القد سحارة الطرف وهي زهراء مثل لؤلؤة الغو ...
صِ ميزت من لؤلؤ مكنون حشدت هذه الغانيات هناك حتى غصت بها نوافذ بيت الشيخ وشرفاته، وأقبل الذاكرون ومعهم المنشدون فذكروا كل شيء إلا الله ولم ينسوا النوافذ والشرفات وكن متى أبصرنني أو سمعن بي ...
سعين فرقعن الكُوى بالمحاجر هنالك كل ما خيل إليك من غمزات الجفون وعمل الفتون. بينا القوم على ذلك تكلمت الأوتار وتصعدت آهات المطربين الفتانة وتصعدت معها (أنفاس محترقة) من الحشيشة المباحة لذلك العهد فلم ينصرف القوم إلا بقلوب محترقة: قالت حكمة عتيدة: (لو أمكن الغيب من نفسه لاستبدل باسمه) أجل: لو أن الغيوب مما يستشف أو يقرأ لما استحقت أن تسمي غيوبا وإنما هي إذن شهود لقد صبَّ الله على هذا الشيخ المتأنق في مشافهة المغَيّب قرويا حقيرا من صفوف النعال فطرَّى الطابع فطرى الروح واللُّب، فأخذ يقبل به في الخدعة ويدبر، فلم يعتصم ولا شافهه غيبه بدخيلة أمره مع هذا المتحُّيل عليه حتى استنزله هانئا قرير العين عن ثلاثمائة دينار مصري كاملة زعم أنه مشترٍ له بها عقارا في الريف إذا هو رجع إلى أهله، فذهب بها طليقا مُرفَّهاً إلى اليوم ولم يشتر لعلاّمة الغيب إلا العار والسوءة: فهل ترشد الأمة المخدوعة؟ إن العلم والعقل ينصرهما الدين لم ينيرا سبيلاً إلى الغيب فما أجدر الحاكمين بأن ينزلوا بالشعوذة فتكة صارعة تغسل معرة الاجتماع وتثلج صدر العلم والعقل هذه التي نصف، عطفتنا (عطفة الألايلى) فيما تُسمي و (عطفة القاياتي) فيما نريد، ضنكة مظلمة نأوي إليها مشتهاة فاتنة للألّف كما يأوي النحل إلى بيته وخلاياه، ورُبّ مملول لا يستطاع فراقه ولي وطن آليت ألاّ أبيعه ...
وألاّ أرى غيري له الدهر مالكاً وحبب أوطان الرجل إليهم ...
مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو ...
عهود الهوى فيها فحنوا لذلكا شيئان من هذه الحارة مكروهان عندنا جدُّ بغيضين، ولا كتمان للحق، أول الشيئين الحارة نفسها، والثاني اسمها.
أما الحارة فلسنا نملك تبديلاً لخلق الله فيها، وأما الاسم فهو لأسرة تركية عريقة كانت تقطن فيها ترحلت عنها قديماً فما يمتضغ اسمها أحد اليوم ولا يختلج به صدرٌ ولا فمٌ حتى لتحسب كلمة (الألايلي) هذه اللغز الذي لا يحل من أجل ذلك مشى الحي إلى ولاة الأمر بمقترح شهي لديهم أن يأذنوا في تسمية (عطفة الألايلي)، (عطفة القاياتي) أنساً بجيرانهم المعاصرين لهم واستئناساً بأن ذكر بيت القاياتي قد صاحب التاريخ في مصر فترة وامتضغ اسمه من قبل أيام كان جدهم الأعلى (شمس الدين القاياتي) قاضي القضاة بمصر ينزل في هذه الأحياء في سنة خمسة وثمانين وسبعمائة هجرية مشي الحي بهذا المقترح المرجوّ إلى من يملك الأمر فلم يؤذون له أن يسمع ولا حظي عنده، والحاكم الله إن كان ولاة الأمر قد اصطفوا (عطفة الألايلي) لأنهم يُغْلون بقدرها ويحتجزونها لتوسم (بعطفة الحرّية) أو (عطفة الاستقلال) ليوسم بها عهد الاستقلال والحرية فهنيئاً لنا بالحرية والاستقلال ويا برد هذا على الكبد، وإن لم يكن بهم إلا الضن علينا وحده فليعلموا أن سنة من يكتبون إلينا ويتحدثون عنا قد مضت بأن يكتبوا إلينا (عطفة القاياتي) ويقولوها، وألسنة الخلق أقلام الحق، فلن يكون إلا ما نريد، ولن يكون الاسم الذي يحمله صدر العطفة وهو (عطفة الألايلي) إلاّ كذبا رسمياً كالدم على قميص يوسف، ولن تكون عطفتنا إلا (عطفة القاياتي) حسن القاياتي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن