أرشيف المقالات

الوفاء .. معجزته صلى الله عليه وسلم

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2الوفاء..
معجزته صلى الله عليه وسلم   لمَّا ثبت في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصدق وهيَّ صفة عظيمة تتجاور إلى جانبها صفات أخريات، بل وتتولد عنها صفات، ثبت في حقه أيضًا الوفاء الذي هو أخو الصدق، وقد عدد الرسول صلى الله عليه وسلم الصفات ونقائضها بتراتبية عجيبة بدأها بالإيمان، وثنى عليها بالصدق، وأقام بعدهما الوفاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"[1].   وقال ابن حزم: "الوفاء مركب من العدل والجود والنجدة"[2]..
فيما يثبت أن الصفات الطيبة تجمعها التكاملية، كما تتجاذب الصفات السيئة في الشخص الواحد.   إذن فكيف لايكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيًا والوفاء سجيةٌ وطبعٌ مركوز فيه وهو الذي يتلمسه فيستبينه المُطالع لسيرته دون عناء؛ فالوفاء عنده صلى الله عليه وسلم دروب متنوعة حتى يخال المرء أنه عم كل حياته كأن ليس فيها إلا تلك الخصلة؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم وفيًا مع ربه عز وجل، وفيًا في عهوده حربًا وسلمًا، وفيًا في معاملاته، وفيًا لأمه في مروره على قبرها في غدواته وروحاته، وفيًا لأقاربه المؤمن برسالته والكافر ويقف عمه أبو طالب خير شاهدٍ على ذلك، وفيًا لمن أرضعنه ثويبة وحليمة السعدية ومن رعته منهن أم أيمن وفاطمة بنت أسد، وفيًا لأصحابه ومن أخطأ منهم خطأً جسيمًا كحاطب بن أبي بلتعة، وفاؤه - صلى الله عليه وسلم - لعهوده وشروطه حتى مع أعدائه ويكفينا ذكر صلح الحديبية وإرجاع أبي بصير مع مجيئه مسلمًا، بل امتد هذا الوفاء النبوي حتي عم الحيوان والشجر والحجر.   أما الذي استرعى الانتباه فهو وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجه الأول خديجة والتي سبقت إلى الدار الآخرة في حضور زوجة صغيرة، مليحة، على قيد الحياة، في واقعة استلفتت الكافة من عرب ومن عجم فأداروا فيها الفكر وأمعنوا فيها النظر، وتلك الواقعة نقلتها لنا السيدة عائشة، فقالت - رضيَّ الله عنها -: "اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ، عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ؛ فقال: "اللَّهُمَّ هَالَةَ"، قالت: فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ الله خَيْرًا مِنْهَا"[3].   ولن نجد غير الأحاديث المروية لتنقل لنا تصوير حدث استقبال سؤال أمنا عائشة المباغت، ففى مستدرك الحاكم ومسند أحمد نقلا قول عائشة - رضى الله عنها - وأرضاها عن موسى بن طلحة: "فتمعر وجهه تمعرًا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحى" "والتمعر هو تغير فى الوجه تعلوه صُفرة"، أما فى صحيح مسلم فكان قول عائشة: "فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب"، ولمتخيلِ أن يتخيل ماذا سيجيب رجل بمثل هذا الغضب وتغير الوجه حتى أنه لعظم غضبه - صلى الله عليه وسلم - شبهته - عائشة - بما يعتوره من تعب تلقى الوحى، إذ كان نعت عائشة لخديجة بـ "حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ"أي العجوز التي سقطت أسنانها من الكِبَر، نعتًا قاسيًا على صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.   كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاجراً ورادعًا: "والله ما أبدلني الله خيراً منها"..
وأخذ يعدد مناقب زوجته السابقة كأحسن ما يناجي الحبيب حبيبه، وهذا علي خلاف المتوقع "آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ ك-ذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الولد دون غيرها من النساء"[4].   مكمن الإعجاز في الجواب، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فضَّل الزوجة المسنة المتوفية، علي الزوجة الصغيرة المليحة التي مازالت معه حية ترزق ولم يكتف بهذا، بل أخذ يدلل علي سر عظمتها عنده واستحقاقها لهذا الوفاء الصادق نقطة نقطة إلي أن وصل إلي النقطة الفارقة بينهما ألا وهي الإنجاب فلم يؤلمها بها، حيث قال بشكل ضمني يفهم سامعه المراد منه "دون غيرها من النساء" ولا يظن ظان أن حسم إجابة الرس-ول - صلى الله عليه وسلم - صدرت منه بهذه الحدة الظاهرة عن كره لزوجته الحالية، كلا..
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحب السيدة عائشة حبًا شديدًا، اعترف به صراحة ودون مواربة أمام صحابي جليل هو عمر و بن العاص حين سأله ذات مرة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ".
قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا"[5].   وهنا يكمن سر الإعجاز البشري للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما تكلم عن زوجة سابقة أحبها في حضور زوجة حالية يُكنُ لها الحب أيضا، ولكنه في قرارة نفسه ظلت خديجة عنده سيدة النساء ليس كمثلها امرأة وإن تكن عائشة بنت صديقه أبا بكر الذي يكن له الحب أيضًا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يشع-ر بالبنوة مع خديجة، ويشعر بحنان الأبوة مع عائشة، فقد كانت السيدة خديجة أمًا ترعاه، تمده وتتعهده بالعقل والحنكة، رافقته بدايات رحلة الدعوة الأولى وهو بعد يتلمس الأنصار الأكفاء لدعوته الوليدة، بينما كانت السيدة عائشة بنتًا يدللها ويرعاها، تدخل السرور على قلبه بطرافتها وجمالها وذكائها وعقلها وفطنتها، أكملت مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - خواتيم رحلة الدعوة بعد الجهر والقوة والمنعة، كما صاحبته خواتيم حياته الشريفة نفسها فبين صدرها ونحرها كانت وفاته - صلى الله عيه وسلم.   وتذكر كتب السيرة أن السيدة عائشة التي كانت الزوجة الأثيرة عنده - صلى الله عليه وسلم - وختم حياته في بيتها، لم تجرؤ بعد هذا أن تذكر السيدة خديجة أبدًا.   يقول توماس كارليل[6] منبهرًا بوفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لزوجته السابقة المتوفاة: (...كان وفاؤه وفاءً لا تحده حدود....
إنه لم ينس أبدًا زوجته الطيبة الكريمة الأخلاق خديجة.
وبعد وفاة زوجته أم المؤمنين خديجة بوقت طويل، سألته زوجته الشابة، وهى امرأة كانت تشعر بمكانتها المتميزة بين نساء النبي، وسألته يومًا قائلة له: " ألستُ أنا الآن أفضل من خديجة؟ لقد كانت أرملة تقدم بها العمر، وكانت قد فقدت رونق شبابها.
ألست تحبني أنا أكثر مما كنت تحبها؟ فقال لها: " لا، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتنى إذ كذبني الناس، ورزقت منها الولد وحُرِمتموه مني")
.   وحين نسمي هذا إعجازًا في كوننا لا نضعه على قائمة محمد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما نقصره في بشريته وحسب، فعلى من رأى أن الأمر جد يسير فليطبقه على نفسه ويرى ما هو فاعل وقائل فى حضور زوجته إذا ما ذكر لها طرفًا يسيرًا من سيرة زوجة سابقةً عليها قضت، أو ضمها معها وهما على قيد الحياة..
فهل سيكون بمثل هذا الوفاء؟!..
وهنا يتبدى الإعجاز في وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ينضم إلى سائر صفاته المعجزة التي سقناها والتي لم نسقها بعد.  

[1] رواه البخاري (34)، ومسلم (58). [2] "الأخلاق والسير" لابن حزم (ص145). [3] (البخاري ومسلم). [4] مسند أحمد برقم (24745). [5] سنن الترمذي، كتاب المناقب، بَاب مِنْ فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حديث رقم (3820)، وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. [6] توماس كارليل، الأبطال وعبادة الأبطال والبطولات فى التاريخ.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١