أرشيف المقالات

السيد جل جلاله

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2السَّيِّدُ جَلَّ جَلالُهُ   ♦ عن مُطَرِّفِ بنِ عبدِاللهِ بنِ الشِّخِّيرِ قال: قال أبي: انطلقتُ في وفدِ بني عامرٍ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنتَ سيِّدُنا، فقال «السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، قلنا: وأَفْضَلُنا فضلًا، وأَعْظمُنا طَوْلًا، فقال: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِينَّكُمُ الشَّيْطَانُ»[1].   • ومعنى قولِهِ لهم لمَّا قالوا له: أنتَ سَيِّدُنا: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ»؛ أي: ادعُوني نبيًّا ورسُولًا كما سمَّاني اللهُ، ولا تُسمُّوني سَيِّدًا كما تُسمُّون رُؤَسَاءَكُمْ، فِإنِّي لستُ كأحدِهم ممن يَسودُكم في أسبابِ الدُّنْيَا»[2].   • ومعنى: "وَلَا يَسْتَجْرِينَّكُمُ"؛ أي: لا يجرنكم إلى المبالغة في مدحي والازدياد من إطرائي.   معنى الاسم في حق الله تعالى: (السَّيِّدُ) جَلَّ جَلالُهُ: الُمحتاجُ إليه بالإِطلاقِ، فإِنَّ سَيَّدَ النَّاسِ إنما هو رأسُهم الذي إليه يَرجِعون، وبأَمْرِهِ يعملون، وعن رأيه يَصْدُرون، ومِنْ قولهِ يَسْتَهدون، فإذا كانتِ الملائِكَةُ والإنسُ والجِنُّ خَلْقًا للباري جل ثَناؤهُ، ولم يكُنْ بهم غُنْيَةٌ عنه، كان حقًّا له جلَّ ثناؤه أَنْ يكونَ سَيِّدًا، وكان حقًّا عليهم أن يَدْعوه بهذا الاسمِ»[3].   (السَّيِّدُ) جَلَّ جَلالُهُ: "الذي يملك نواصي الخلق ويتولاهم ويسوسهم"[4].   (السَّيِّدُ) جَلَّ جَلالُهُ: "الذي تحق له السيادة"[5].   وكما قال الخطابيُّ (رحمه الله): «قولُه: «السَّيِّدُ اللهُ» يُريدُ: أنَّ السُّؤْدُدَ حقيقةً للهِ (عز وجل)، وَأَنَّ الخلْقَ كلَّهم عبيدٌ له»[6].   (السَّيِّدُ) جَلَّ جَلالُهُ: "الذي قد كمُل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو الله سبحانه هذه صفاته لا تنبغي إلا له"[7].   (السَّيِّدُ) جَلَّ جَلالُهُ: هو المتصرف في الكون لا نِدَّ له.   إطلاق لقب (السَّيِّد) على غير الله؟ ♦ يجوز إطلاق لقب السَّيِّدُ على المخلوق، فقد قال تعالى عن نَبِيِّهِ يحيى بنِ زكريا عليهما السلام: ﴿ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39].   قال ابن الأنباري: "قِيلَ له: لم يُرِدْ بالسَّيِّدِ ها هنا المالكَ، وإِنَّمَا أراد الرئيسَ والإمامَ في الخيرِ، كما تقولُ العربُ: فلانٌ سيِّدُنا؛ أي: رئيسُنا والذي نُعظِّمه»[8].   • وقوله صلى الله عليه وسلم في سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم»[9].   • وفي حديث ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:« الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ»[10].   • وقول عمر رضي الله عنه: «أبو بكر سَيِّدُنا، وأَعتقَ سيِّدَنَا، يعني بِلالًا»[11].   • وقول الله تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام وامرأة العزيز: ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ [يوسف: 25].   ♦ ولا يتعارض ذلك مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «السيد الله» حينما قالوا له: «أنت سيدنا».   ♦ قال أبو منصورٍ الأزهريُّ: «كَرِهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمدَح في وَجهِهِ، وَأَحَبَّ التواضُعَ للهِ تعالى، وجَعلَ السِّيادَة للذي سادَ الخلْقَ أجمعين»، وكذلك قولُه: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»؛ أراد: أَنَّه أَوَّلُ شفيعٍ، وأوَّلُ مَنْ يُفتحُ له بابُ الجَنَّةِ، قال ذلك إخبارًا عمَّا أكرمَهُ اللهُ به مِنَ الفَضلِ والسُّؤْدَدِ، وتحدُّثًا بنعمةِ اللهِ عِنْدَهُ، وإعلامًا منه لِيكُونَ إيمانُهم به على حَسَبِه وموجبِهِ، ولهذا أتْبَعَه بقولِهِ: «ولا فَخْرَ»؛ أي: إِنَّ هذِه الفضيلَة التي نِلتُها كرامةٌ مِنَ اللهِ، لم أَنَلْها من قِبَلِ نَفْسِي، ولا بَلغْتُها بقوَّتي، فليس لي أَنْ أَفْتخِرَ بها.....»[12].   كيف نعبد الله باسمه «السَّيِّدُ»؟ أولًا: أن يستشعر العبد أنه مهما بلغ من السيادة والرياسة والملك، فإن سيادته ناقصة، ورياسته مسلوبة، وملكه زائل؛ لأن السَّيِّدَ الحقيقي هو الله (جَلَّ جَلالُهُ)، والسؤدد الحقيقي لله سبحانه وتعالى دائمًا وأبدًا، وهذا المعنى يُثمر في قلب العبد التواضع، وألا يستخدم سيادته في ظلم الناس والتكبر عليهم، ونحو ذلك.   ♦ انتقى هارون الرشيد أكفانه بيده، وجعل ينظر إليها عند موته، ويقول: «ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه»، وفرش المأمون رمادًا واضَّجع عليه وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال مُلكه[13].   ثانيًا: أن يستشعر العبد حاجته لسيده ويظهرها له: كيف لا، وقد قال عزَّ من قائل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]. فليس المخلوق بغنيٍّ عن سيده وخالقه طرفة عينٍ ولا قيد أنملة، في كل أمره وحاله، وليله ونهاره، وحضَره وسفره، فلو لم يوجدهم، لم يكن لهم وجود، ولو لم يبْقهم بعد إيجادهم، لم يكن لهم بقاء، ولو لم يُعِنْهم على حوائجهم وفيما يعرض لهم، لخُذلوا وكان مصيرهم الهلاك والشقاء والفناء.   كيف لا نطهر حاجتنا لمن له السيادة الحقيقية مُلكًا وتدبيرًا خضوعًا وانكسارًا.   ثالثًا: أن نلتمس الشرف والسؤدد من السيد( جلّ جلاله)، فإن ما عند الله لا يُنال ولا يتنعم به صاحبه إلا إذا طلبه بطاعة الله، فالسؤدد والشرف والكرامة إنما تُنال بالتقوى والاستقامة، فأهل الاستقامة هم أهل الشرف والعز والسؤدد والكرامة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسمية المنافق بالسيد، فقال: «لا تقولوا للمنافق: سيدٌ، فإن يكُ سيدًا فقد أسخطتم ربكم»[14].   أن نُذعِن له بالطاعة المطلقة: فإذا كان الله تبارك وتعالى هو السيد على الإطلاق، له التصرف التام في الكون، فينبغي أن يكون هو المعبود وحده على الإطلاق، فيُطاع ولا يُعصى، ويُشكر ولا يُكفر به، ويُذكر ولا يُنسى.   وتأمل: كيف صوَّر دينُنا العبودية للمخلوق حال السيد مع العبد؟ ♦ قال صلى الله عليه وسلم: «أيما عبدٍ (رقيق) أبَقَ (هرب) فقد برِئت منه الذمة»[15]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أبق العبد لم تُقبل له صلاة»[16]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما عبدٍ أبق من مواليه، فقد كفر حتى يرجع إليهم»[17]، وهو كفر دون كفر يدل على عظم الذنب، فإذا كان هذا حال المخلوق إذا هرب من طاعة الله، فكيف إذا هرب العبد المخلوق من طاعة السيد الخالق جل جلاله؟   فكما أن السَّيِّدَ (جَلَّ جَلالُهُ) هو المتصرف في الكون لا شريك له، فكذلك ينبغي أن تُصرف له الطاعة والذل والخضوع، لا شريك له.   خامسًا: دين السيد: دينٌ قائمٌ على الحق والعدل والمساواة، دينٌ شرائعه ربانية، كاملة شاملة عامة مثالية، واقعية، دينٌ قام على الوسطية والاعتدال واليسر والرحمة، ومصالح العباد في العاجل والآجل، دينٌ جاء بأتمِّ نظامٍ أخلاقي، وأتم نظام اجتماعي، وأتم نظام اقتصادي، يجب أن يسود[18].   دينٌ يجب أن يُدعى إليه بالليل والنهار، إلى أن يهيئ الله للأمة أمر رشد، يُعزُّ فيه هذا الدين ويسود.   ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [يوسف: 40]؛ أي: لا يكون الحكم والسؤدد إلا لله، ومقصورًا عليه، وما على البشر إلا الخضوع والانصياع لهذا الدين في عقائده وعباداته وأخلاقه ونُظمه بسائر أشكالها وألوانها.   سادسًا: أن يأخذ العبد بأسباب السيادة الشرعية: ١- العلم. ٢- الحلم. ٣- الأخلاق الفاضلة.   • قال الله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [ المجادلة:١١]. • وفي الحديث: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقومًا ويضع آخرين»[19].   ♦ رأى رجلٌ الحسن البصري والناس حوله، فقال: من هذا؟ فقيل له: مولى ساد. قال: بمَ ساد؟ فقيل: احتاج الناس إلى علمه، ولم يحتج إلى دنياهم[20].   ♦ قال معاوية لعرابة بن أوس: «بم سُدَّتَ قومك يا عرابة؟ قال: يا أمير المؤمنين: "كنتُ أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل فِعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل مني، ومن قصَّر عني فأنا خيرٌ منه»[21].   سئل خالد بن صفوان عن الأحنف: بم ساد قومه؟ قال: "بفضل سلطانه على نفسه"[22].   ♦ وقيل للأحنف: بم سُدَّتَ قومك والقائل إنما أراد عيبه؟ فقال الأحنف: «بتركي مِن أمرِك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك»[23]. وسئل أحدهم: بم سُدَّتَ قومك؟ قال: لم أخاصم أحدًا إلا تركت للصلح موضعًا.   ♦ وقال أحد كبار النفوس: «ما شاتمت رجلًا مذ كنت رجلًا؛ لأني لم أشاتم إلا أحد رجلين: إما كريم، فأنا أحق أن أُجلَّه، وإما لئيم، فأنا أولى أن أرفع نفسي عنه، وحسب المرء أن يكف أذاه عن غيره، فمن رزقه الله مالًا فبذل معروفه وكف أذاه، فذلك السيد»[24].   سابعًا: أن ندعوه سبحانه باسمه السَّيِّد: كأن يقول العبد: اللهم إني أسألك باسمك السَّيِّد أن تُمكِّن لي في الأرض، وأن تُعلي شأني في العالمين ويوم الدين.


[1] رواه أحمد وأبو داود. [2] لسان العرب، ابن منظور. [3] المنهاج في شعب الإيمان: الحليمي. [4] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح. [5] ابن الأثير في النهاية. [6] معالم السنن. [7] بدائع الفوائد لابن القيم. [8] لسان العرب لابن منظور. [9] صحيح أبي داود. [10] رواه البخاري. [11] رواه البخاري. [12] لسان العرب. [13] إحياء علوم الدين للغزالي. [14] صحيح أبي داود. [15] رواه مسلم. [16] رواه مسلم. [17] رواه مسلم. [18] راجع هذه العناوين في: الإسلام المنشود، سعيد السواح، دين يجب أن يسود، سعيد السواح. [19] رواه مسلم. [20] أخرجه أبو نعيم في الحلية، وذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم. [21] إحياء علوم الدين للغزالي. [22] المنتقى من بطون الكتب، محمد إبراهيم الحمد. [23] سير أعلام النبلاء، الذهبي. [24] أقوال صنعت كبارًا، علي الطاهر عبدالسلام.



شارك الخبر

المرئيات-١