أرشيف المقالات

إبطال مزاعم الجاهلية

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2إبطال مزاعم الجاهلية[1]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله: ((لا عدوى، ولا طِيرة، ولا صَفَر؛ وفِرَّ من المجذوم كما تَفِر من الأسد))؛ رواه الشيخان[2].   المفردات: العدوى: مجاوَزة المرض صاحِبَه إلى غيره، يُقال: أعدى فلان فلانًا، من خُلُقه، أو من عِلَّة به.   والطِّيرة كعنبة: التشاؤم، وتطيَّر بالشيء: تشاءم، وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا المُضي لمهم كالسفر والزواج، أثاروا الطير، فإن مرَّت باليمين تيامنوا، وإن مرَّتْ باليسار تشاءموا، ثم أطلِقت الطيرة على التشاؤم ولو بغير الطيور.   والهامة: الرأس، واسم طائر من طيور الليل، وهو المراد هنا، وكانوا يتشاءمون به، وقيل: هو البومة، وقيل: كانوا يزعمون أن عظامَ القتيل الذي لا يؤخذ بثأره، أو رُوحه، تصير هامة ولا تزال تصيح: اسقوني اسقوني؛ حتى يؤخذ بثأره، فتسكُن حينئذٍ.   وصَفَر: قيل: هو الشهر المعروف، وكانوا يتطيَّرون به، فلا يُنجِزون فيه مهمة، وقيل: المراد به النَّسيء، وهو إحلال المحرَّم وتأخير حُرمته إلى صفر، على ما بيَّناه.   وقيل: إن الصفر حية في البطن تلصق بالضلوع فتعضها، وينشأ عن ذلك ما يشعر الجائع من الألم، وأكبر الظن أنه المراد هنا.   والمجذوم: هو المُصاب بمرض الجُذام، وهو داء يحمرُّ به اللحم ثم يتقطَّع ويتناثر؛ من الجَذْم، وهو القطع.   انتشار الخرافات والأوهام: كان الناس عامة - والعرب خاصَّة - في جَهالة جهلاء، وضلالة عمياء؛ قد ركِبوا رؤوسهم، واتبعوا أهواءهم، ودانوا بما تَوارثوه سالفًا عن خالف، من أوزار الشرك والآثام، وأثقال الخرافات والأوهام، حتى أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق، فطهَّر عقائدهم من أرجاسها، وحرَّر عقولهم من أوهامها، وبيَّن لهم أن ربهم الذي خلقهم هو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع، ويُمرِض ويَشفي، ويميت ويُحيي، لا رادَّ لمشيئته، ولا معقِّب لحكمه، وهو العليم الحكيم.   سبيل المؤمنين ونهج المتوكلين في ربط الأسباب بالمسببات: ولئن اقتضت حكمته تعالى أن يربِط الأسباب بالمسببات، والوسائل بالغايات، إنْ كلُّ ذلك إلا خاضع لمشيئته، مقهورٌ تحت إرادته.   فالغلو في الأسباب، والتكالب عليها، شُعبة من الشِّرك والضلال، وإهمالها رأسًا جهلٌ بسُنن الكبير المتعال.   وأما أن يُجمِل العبد في الطلب، من غير تقصيرٍ ولا مغالاة، مع اعتقاده أن الأمر كله لله، فذلك سبيل المؤمنين، ونهج المتوكلين، وعماد هذا الدين المتين، الذي جاء في شأنه كله قيمًا وسطًا، لا إفراط ولا تفريط.   وعلى هذا المنهج الواضح، وطَّد - صلوات الله وسلامه عليه - معالم الهداية، وبدَّد ظلماتِ الغَوَاية، وقضى على مزاعم الجاهلية وتُرَّهاتها، وهو في حديثه هذا يقضي قضاء مُبْرمًا على طائفة من أمهاتها.   اعتقاد أهل الجاهلية في العَدْوى: فأما العدوى، فكانوا يُضيفون التأثير إليها، ويعتقدون أن اختلاط مريضٍ بصحيح موجِبٌ للمرض إيجابَ الأسباب الضرورية لمسبباتها، والعلل العقلية لمعلولاتها، لا مفرَّ من ذلك ولا محيص عنه، جاهلين أن المدار في الإصابة على مشيئة الله وحده، وأن العدوى لا تعدو - مهما بلغ أمرُها - أن تكون سببًا عاديًّا كثيرًا ما يتخلَّف، وكم من سليم خالَطَ مريضًا فلم يُصَب بأذى، وكم من متصوِّن حَذِر جاءه المرض من حيث لا يحتسب، والمشاهدة أصدقُ شاهد.   وإذًا لم ينفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - العدوى نفسها، وإنما نفى وصْفها وتأثيرها على النحو الذي يزعمون؛ إبطالاً لزعمهم على أبلغ وجه وآكده.   ومن فنون البلاغة أن تنفي وصفَ الشيء بنفي الشيء نفسِه؛ كأن تقول: لا رأيَ لهذا الرجل، ولا رجل في هذا البلد، حينما تقصِد إلى نفس السَّداد في الرأي، والشهامة في الرجال.   إثباته - صلى الله عليه وسلم - العدوى على الوجه الصحيح: ولا ريب أن غلوَّهم في إضافة التأثير لغير الواحد القهار، مُخِلٌّ بعقيدة التوحيد التي بني الإسلام عليها؛ فكان من حكمة سيد الحكماء أن يقضي على زعْمهم الخاطئ بهذا البيان الرائع، والكَلِم الجامع، والقول الفصل.   ومن المحال أن يقصِد - صلوات الله وسلامه عليه - إلى نفي العدوى جملةً، مع أنه أثبتَها على وجهها الصحيح في غير ما حديث، بل أثبتها في هذا الحديث نفسه؛ إذ أمر بالفِرار من المجذوم كفِرار الخائف من الأسد؛ لأن الجُذام - وقانا الله وإياكم السوء - من الأمراض التي جرت عادة الله بمجاوزتها إلى غير صاحبها، إذا سَبَق بذلك عِلمُه ومشيئته[3]، ومن المحال أن يتناقَض حكيم في كلامه، فضلاً عمن لا ينطق عن الهوى.   التوفيق بين الأحاديث التي تثبِت العدوى والتي تنفيها: وعلى هذا البيان الذي بيَّنا، يسهُل التوفيق بين الأحاديث التي تُثبت العدوى كما يثبتها الطب والواقع، وبين الأحاديث التي تنفيها على ما تزعم الجاهلية الأولى.   وإذا لم يكن بد من إيراد بعض الشواهد؛ فقد روى الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِح))[4].   والممرِض صاحب الإبل المريضة، والمُصحُّ صاحب الإبل الصحيحة، ولا معنى للنهي عن خلط الإبل السليمة بالسقيمة إلا التحذير من العدوى.   وروى الشيخان كذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن عمر - رضي الله عنه -خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسَرْغَ[5]لَقِيه أهل الأجناد[6]: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر لابن عباس: ادع لي المهاجرين الأوَّلين، فدعوتُهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمرٍ، ولا نرى أن تَرجع عنه[7]، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تُقدِمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني.   ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم له فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف، فقال: ارتفعوا عني.   ثم قال: ادع لي من كان هنا من مَشْيَخَة قريش من مُهاجرة الفتح، فدعوتُهم، فلم يختلف عليه رجلان، فقالوا: نرى أن نرجع بالناس ولا نُقدِمهم على هذا الوباء.   فنادى عمر في الناس: إني مصبِح على ظهر[8]، فأصبِحوا عليه.   فقال أبو عبيدة: أفِرارًا من قَدَر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! وكان عمر يكره خلافه، نعم نَفرُّ من قدَر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل، فهبطت واديًا له عُدوتان[9]إحداهما خِصبة والأخرى جَدْبة، أليس إن رَعيتَ الخِصبة رعيتها بقدَر الله، وإن رَعيتَ الجدبة رعيتَها بقدر الله؟   قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا عِلمًا؛ سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سمعتم به بأرض، فلا تَقدَموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه))، قال: فحمد اللهَ عمرُ بن الخطاب ثم انصرف[10].   أدب الاختلاف وحكمة عمر: وإنما سُقنا هذه الرواية برمتها؛ لأنها مثال من أمثلة اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في جدالهم بالتي هي أحسن، وترجمة صادقة لحكمة عمر وإصابته وجه الحق، مع حله لمشكلة من المشكلات التي يقف عندها الراسخون في العلم حَيَارى.   ثم ليعلم الجاهلون أن الطب في أزهى عصوره، بل العلم في أوْج رِفعته، مصدِّقٌ لما سبق به الصادق المصدوق - صلوات الله وسلامه عليه[11].   وأما الشواهد على نفي العدوى، فمنها - عدا حديثنا هذا - ما جاء في الصحيحين، أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرمل كالظباء - يعني نشاطًا وقوةً وسلامة - فيدخل بينها البعير الأجرب فيُجرِبها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن أعدى الأول؟))[12].   جواب في غاية الإبداع والإقناع، ينطوي على أن السبب الحقيقي هو مشيئة الله - عز وجل.   ومنها ما رواه الترمذي وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل مع مجذوم، وقال: ((ثقة بالله وتوكلاً عليه))[13].   وهذه كلمة فاصلة في هذا الموضوع، الذي اشتبكت فروعه، واشتجرت آراء الناس فيه.   فإذا جاء الأمر بالفِرار من المجذوم ونحوه كما سلَف، وكما روى مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أَرسلَ إلى مجذوم كان في وفد ثقيف: ((إنا قد بايعناك، فارجع))[14]؛ فذلك للحيطة واحترام الأسباب، وإذا جاءت العزيمة بمخالَطة المرضى، فتلك ثقة المتوكلين على رب الأرباب.   أثر العزيمة وقوة الإرادة في القضاء على الأمراض: وقد أجمع علماء النفس والطب على أن حِدة العزيمة وقوة الإرادة، من أمضى الأسلحة التي تتغلَّب على جراثيم المرض، بل من أمنع الحصون التي تَعجِز هذه الجراثيمُ عن اختراقها؛ كما أجمعوا على أن من العوامل التي تُهيئ الجسم للعدوى: التعبَ، والبرد، والجوع، وتعاطي المخدر، والمسكر، وأن من أعظمها: ضعْف العزيمة، وخَوَر النفس، وانقيادها للوساوس والأوهام.   ولولا أنْ منَّ الله على بعض عباده بقوة الإيمان واليقين، ومضاء العزم والثقة، لهََلَك المرضى، واضطَرب الأصحاء، ولتقطَّعت الأرحام، وعمَّ الكونَ الظلامُ، وتساوى الناس والأنعام.   الثقة بالله والتوكل عليه: ألا فليشهد العالم أن الإيمان الصادق، وعماده الثقة بالله، والتوكل على الله - أساس ما جاء به أول المؤمنين، وقدوة المتوكلين، وأن المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وإن كان في كلٍّ خيرٌ.   المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها: الأستاذ مجد بن أحمد مكي


[1] مجلة الأزهر، العدد الثاني، المجلد السادس عشر، سنة 1364، 1945. [2] رواه البخاري في كتاب الطب 5757، واللفظ له، ومسلم في كتاب السلام 2209، بلفظ: ((لا عدوى ولا صفر ولا هامة))، وزاد في طريق أخرى: ((ولا طِيرة)). [3] جاء في فاتحة "المقتطف" لهذا الشهر يناير سنة 1945 أن الجذام ينكب في المعمورة كل عام ثلاثة ملايين إلى خمسة، وأنه اكتسح أوربة في القرون الوسطى حتى أُعِدّ له عشرون ألف ملجأ وقتئذٍ، وأن الأطباء لا يألون جُهدًا في تركيب عقار يقضي على السل والجُذام، ولعلهم عند منعطف الطريق (طه). [4] أخرجه البخاري 5771، ومسلم 2221. [5] بالصرف وعدمه، قرية في طرق الشام مما يلي الحجاز (طه). [6] أي: أمراء الأجناد كما في رواية أخرى، وكانوا خمسة (طه). [7] يعنون: تفقُّد أحوال الرعية. [8] أي: مسافر راكب على ظهر الراحلة. [9] عُدوة الوادي، بضم العين وكسرها: شاطئه. [10] أخرجه البخاري 5729، ومسلم 2219. [11] وفي الحديث فوائد جمة، منها الإشارة إلى الحَجْر الصحي الذي يهتم به الطب الحديث، ولولا خَشية الإطالة لبسطنا القول فيه (طه). [12] أخرجه البخاري 5775، ومسلم 2220. [13] أخرجه أبو داود 3925، والترمذي 1817، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه 3542، وابن حبان 6120، وإسناده ضعيف؛ لضعف المفضل بن فضالة القرشي. [14] أخرجه مسلم 2231، والنسائي 4182، وابن ماجه 3544.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣