أرشيف المقالات

صلح الحديبية وفقه المآلات

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2صلح الحديبية وفقه المآلات
في العام السادس للهجرة أراد الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - العمرة مع أصحابه، وذلك عندما رأى رؤيا أنه سيدخل مكةَ، ويطوف حول البيت، ويعتمر، فقص الرؤيا على أصحابه فاستبشروا خيرًا، وجهَّزوا أنفسهم للإقبال على البيت والوطن؛ فقد طالت فترةُ البُعد، وزاد الاشتياقُ، وقد وصلت الأخبار بمقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى مكة، فأبت قريشٌ أن تسمح للنبيِّ وأصحابه بأداء العمرة، وهذا الفعل يُعَد جريمة كبرى في عُرْف العرب؛ إذ كيف يُصَدُّ عن البيت الحرام من جاء معظِّمًا له؟! وحدثت مناوشاتٌ كلامية، بل وصل الأمر إلى الالتحام بالمسلمين والتحرش بهم من قِبَل عصابة من قريش، فقُبِض عليهم، وأرسلت قريش الرسلَ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تم الاتفاقُ على معاهدة، عُرِفت في تاريخ السير بـ: "صلح الحديبية"، ولما أرادوا أن يكتبوا بنود هذا الصلح وأملى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عليٍّ - رضي الله عنه -: ((بسم الله الرحمن الرحيم))، فقالت قريش: ما ندري ما الرحمن، أمَر الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يمحوَها ويكتب: ((باسمِك اللهم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله))، قال المشركون: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب: محمد بن عبدالله، فأمر عليًّا أن يمحوَها، فقال علي: لا واللهِ لا أمحوها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرني مكانها، فأراه مكانها، فمحاها))؛ (متفق عليه).
ونص الصلحُ على أن تضع الحربُ أوزارَها عشر سنين، يأمن فيها الناسُ، ويكفُّ بعضُهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريشٍ بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشًا ممَّن مع محمدٍ لم يردُّوه عليه، وأنه مَن أحَب أن يدخل في عقد محمدٍ وعهده دخَل فيه، ومن أحَبَّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنك ترجع عنَّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتَها بأصحابك فأقمتَ فيها ثلاثًا، وأصاب الصحابةَ مِن توقيع هذا الصلح همٌّ وغمٌّ، وظنوا أنهم قد بُخِسوا حقَّهم.
تعاظم الأمرُ في نفوس الصحابة، ورأوا أن ذلك رضا بالدُّون إلى حدِّ أنهم عندما أمرَهم - صلى الله عليه وسلم - بأن ينحَروا ويحلِقوا ويتحللوا، لم يُجِبْه أحدٌ إلى ذلك، فرددها ثلاث مرات، فلم يفعلوا، فدخَل على أم سلمة وهو شديدُ الغضب، فقالت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: هلَك المسلمون! أمرتُهم فلم يمتثلوا! فقالت: يا رسول الله، لا تَلُمْهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلتَ على نفسك من المشقة في أمر الصُّلح، ورجوعهم بغير فتح، ثم أشارت عليه أن يخرجَ ولا يكلم منهم أحدًا، وينحَر بُدْنَه، ويحلِق رأسه، فخرج فلم يكلِّمْ أحدًا حتى قام فنحر بدنه، ودعا حالقه فحلَقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلِق بعضًا، حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا من الغم!
إن حادثةَ صلح الحديبية فيها من الدروس والعِبَر ما يعجِزُ مداد الحبر عن إحصائه، ولكن نقف على درس عظيم وقاعدة أصيلة أصَّلها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأمة إلى يوم القيامة، وهي قاعدة: "اعتبار المآلات"، وما يترتب على هذه القاعدة من مصالح للأمة الإسلامية والعالم أجمع؛ فقد طلبت قريشٌ من رسول الله مطالب هي في نظر أغلب الصحابة ظالمة ومجحفة، أن يمحوَ "بسم الله"، و"محمد بن عبدالله"، وألا يدخُل مكة، ومن جاء مسلمًا دون إذن وليِّه يردّه، ومن ارتدَّ عن الدين الإسلامي فلا ترده قريش، فقبِل - عليه الصلاة والسلام - ورضي، وهذا الذي يجب أن يفقهَه كلُّ من يدعو إلى الله، من يدعو إلى الله لا ينتصر لنفسه، المهم أين مصلحة الإسلام ومصلحة الأمة، وأن العاقل يقبل بالمرحلية في حياته، ويؤمن بالواقع الذي يعيشه.
وذكر ابن عقبة أنه لما كان صلحُ الحديبية، قال رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا بفتحٍ، لقد صُدِدنا عن البيت، وصُدَّ هَدْيُنا"، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قولُ أولئك، فقال: ((بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالرَّاح عن بلادهم، ويسألوكم القضية، ويرغَبوا إليكم في الأمان، وقد رأَوْا منكم ما كرهوا، وأظفَركم اللهُ عليهم، وردَّكم سالمين مأجورين؛ فهو أعظم الفتوح، أتنسون يوم أحد؛ إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب؛ إذ جاؤوكم من فوقِكم ومن أسفلَ منكم، وإذ زاغت الأبصارُ وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وتظنُّون بالله الظنونا))، فقال المسلمون: صدَق الله ورسوله؛ فهو أعظم الفتوح، والله ما فكَّرْنا فيما فكَّرْتَ فيه، ولأنت أعلمُ بالله وأمرِه منا.
واعتبارًا لفقه المآل وضرورة النظر في عواقب الأمور يعلِّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمتَه كيف تحقِّق النصرَ وما تريد بأقلِّ الخسائر، بل بدون خسائر أحيانًا؛ فقد حقن دماء المسلمين عندما غيَّر طريقَه واختار طريقًا وعرًا حماية للدماء والنفوس التي تهدر الآن بغير وعي بسبب أخطاء بعض الأفراد الذين يستعجلون النتائج، ولا يعلم هؤلاء أن كونَ الله يسير بقوانينَ ربانية، ما إن سار عباد الله في فلكها ظفِروا بالمطلوب، وقد جاء في كتاب "اقتباس النظام العسكري في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم" ما يُبيِّنُ الحكمةَ من تغيير الطرق ما نصه: ويؤخذ من اتخاذ الأدلة والتحول إلى الطرق الآمِنة أن القيادة الواعية البصيرة، تسلُك في سَيْرِها بالجيش دروبًا بعيدة عن المخاطر والمهالك، وتتجنب الدروب التي تجعل الجيش خاضعًا تحت تصرفات العدو وهجماته"؛ (انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص374، نقلاً عن اقتباس النظم العسكرية، ص 258).
وهنا نقف وقفة الإجلال مع الفقه النبوي الذي يؤصِّل قاعدة اعتبار المآلات، مستلهمًا ذلك من القرآن الكريم من خلال قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 108]، وغيرها من الآيات، وطبَّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الفقه عمليًّا في أكثرَ من موضع، نذكر منها: "أنه رفض طلب من أشار عليه بقتل من ظهَر نفاقُه، مع أن هذا يريح الأمةَ من شرهم، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف أن يتحدث الناسُ أن محمدًا يقتل أصحابه"، ويظهر هذا الفقه أيضًا في قوله لعائشة - رضي الله عنها -: ((لولا أن قومَكِ حديث عهدهم بكفر، لأسستُ البيت على قواعدِ إبراهيم)).
وقد جاءت النتائجُ كما رتب لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان صلح الحديبية فتحًا مبينًا كما بيَّن ربنا - تعالى -: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]، وتحققت نتائج صلح الحديبية التي كانت في صالح المؤمنين، والتي من أهمها: 1- اعتراف قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة؛ فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين نِدَّين، وكان لهذا الاعتراف أثرُه في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش؛ حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
2- دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقَّن الكثير منهم من غلبة الإسلام، وقد تجلَّت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير منهم إلى الإسلام، مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلُّفهم.
3- أعطت الهدنة فرصةً لنشر الإسلام، وتعريف الناس به؛ ممَّا أدى إلى دخول كثيرٍ من القبائل فيه؛ راجع: في ظلال القرآن، والسيرة النبوية لابن هشام (3/351).
4- أمِن المسلمون جانب قريش، فحولوا ثقلهم إلى اليهود ومَن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوةُ خيبرَ بعد صُلح الحديبية.
5- مفاوضات الصلح جعَلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحليس بن علقمة عندما رأى المسلمين يُلَبُّون رجَع إلى أصحابه قال: لقد رأيت البُدن قد قُلِّدت وأشعرت، فما أرى أن يُصَدوا عن البيت.
6- مكَّن صلحُ الحديبية النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوةً جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
7- ساعد صلحُ الحديبية النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على إرسالِ رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
8- كان صلحُ الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنةُ مقدِّمةً بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز اللهُ به رسوله وجندَه، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطِّئَ لها بين يديها بمقدِّمات وتوطيئات تؤذنُ لها وتدل عليها؛ (انظر: السيرة النبوية لابن هشام، زاد المعاد لابن القيم).
هذه إشارة سريعة لهذه القاعدة العظيمة؛ فقه المآلات من خلال صلح الحديبية، هذا الفقهُ الذي غاب عن أنظار كثيرٍ من الناس، بل عن كثير من الفقهاء والعلماء، فوقعت وانجرَّت الأمةُ الإسلامية في فخاخ الأعداء، ونسأل اللهَ أن يُعلِّمَنا ويلهمنا التصرُّف السديد بحكمة ورشاد؛ ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269].



شارك الخبر

المرئيات-١