أرشيف المقالات

تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (2) ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
تدبر معاني حروف الجر في القرآن الكريم (٢)
﴿ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾
 
جاء في خاتمة سورة (محمد) عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].
 
وللمفسرين هنا قولان في توجيه تعدية فعل البخل بحرف المجاوزة (عن)[1]:
الأول: أن البخل صادر عن نفسه، وضعَّفوه.
 
الثاني: القول بالتضمين، وأن فعل بخل هنا لما تعدى بـ(عن) تضمَّن معنى أمسك؛ قال القنوجي[2] رحمه الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾؛ أي: يمنعهما الأجر والثواب، وبخل وضن يتعديان تارة بعلى، وبعن أخرى، لتضمينهما معنى الإمساك والتعدي؛ قال السمين: والأجود أن يكونا حال تعديهما بعن مضمنين معنى الإمساك، وقيل: المعنى يبخل عن داعي نفسه، لا عن داعي ربه؛ ا.
هـ.
 
فتأمل كيف ألقى هذا الحرف بظلاله على المعاني، وأفاض بإيحاءاته على المباني، فأفاد معنى الحرمان والخِذلان، وصرف الخير عن البخيل الممسك عن الإنفاق في سبيل الله، والمقام مقام الجهاد بالمال في الآية فالحرمان عظيم؛ قال السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].
 
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله، وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال، وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة: الإعانة على تقوية المسلمين، وعلى توهية الشِّرك وأهله، وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح، لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد، وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: ﴿ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ كالتعليل لذلك[3].
 
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: روى البخاري عن حذيفة: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، قال: نزلت في النفقة، وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه، مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: سبحان الله، أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: وأنفقوا في سبيل الله الآية، والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، فلم يزل أبو أيوب مجاهدًا في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية، فقبره هناك[4]، فالذي صرفه البخيل هنا عن نفسه أمر عظيم من أمور الدين، ومعنى الصرف والمجاوزة هو الأصل في معاني (عن)، ويضيف هذا المعنى ببلاغة ورشاقة في السياقات، تأمل قول الفرزدق:
كيف تراني قاليًا مِجَنِّي *** قد قتل الله زيادًا عني
 
قال أبو الفتح رحمه الله: فاستعمل "عن" ها هنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه[5]، [6].
 
قال سيبويه: (وأما "عن" فلِما عدا الشيء، وذلك قولك: أطعمه عن جوع، جعل الجوع منصرفًا تاركًا له قد جاوزه) [7].
 
وهذا المعنى هو الأصل في (عن)، ولم يذكر البصريون غيره، فكان واضحًا معنى حرمان الأجر والثواب في الآية كما ذكره المفسرون بسبب حرف المجاوزة، وأما حرف الاستعلاء "على" الذي يتعدى به فعل البخل عادة، فلا يفيد إلا كون ضرر البخل واقعًا عليه، فلما تعدى بعن توسَّع المعنى، وأضاف بُعدًا جديدًا للسياق، وصورة الذي صرف الأجر والثواب عن نفسه تمهيدًا لما سيذكر بعده من سنة الاستبدال في الآية نفسها، وقد يذكر في السياق المعنى المنصرف عنه إلى المنصرف إليه، كما جاء من سورة النجم في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]؛ قال السعدي رحمه الله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾؛ أي: ليس نطقه صادرًا عن هوى نفسه، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)؛ أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى في نفسه وفي غيره[8]، فدلت آية النجم أنه صلى الله عليه وسلم بَعُد وتجاوز عن النطق عن الهوى وبيَّنت المتجاوز إليه، وهو أنه إن هو إلا وحي يوحى، وكذلك هنا في خاتمة سورة (محمد) عليه الصلاة والسلام، ظهر المنصَرف عنه الخير والثواب إن تولَّى إلى المنصِرف إليه الخير والأجر والجهاد في آية واحدة؛ لأن ما بخل به عن نفسه هنا من الأجر والثواب والجهاد في سبيل الله تعالى في هذه الآية قد تجاوزه إلى غيره، فيتم صرف مقام الجهاد بالمال عن البخيل إلى قوم مغايرين يبتلون بالدعوة إلى الإنفاق، فيستجيبون ولا يكونوا أمثاله، فأفاد تعدية البخل بعن معنى أن بخله على نفسه بالإنفاق في سبيل الله، صرف عنه هذا المقام الرفيع إلى غيره، وأما في غير الإنفاق في سبيل الله، فلا يلزم منه هذا المعنى، فلم يكن التوعد هنا لمن يبخل على أهله وولده مثلًا بالاستبدال وإن كان إثمًا، فالآية لها خصوصية في موضوعها، وهو الدعوة لنصرة دين الله عز وجل بالإنفاق، والله عز وجل ناصر دينه وهو الغني؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ﴾ [محمد: 38]، فإن بخلت ولم تنفق، فكأنما أمسكت عن نفسك ركوب قطار النصر، وباعدت نفسك عنه، وتركت مكانك فيه لغيرك، فتحصل سنة الاستبدال[9]، والجزاء من جنس العمل، كما أمسك عن الإنفاق في سبيل الله أُمسك عنه الثوابُ والأجر والمقامة في طريق الجهاد، جاء بعدها: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].
 
ولا شك أن أعظم الحرمان أن تُستبدل، فجاء حرف (عن) مناسبًا مناسبة بليغة معجزة للسياق وبمعانٍ لا يتضمنها حرف الاستعلاء "على" الذي يتعدى به البخل عادة، فما أعظم وأجل كلامه عز شأنه.
 
فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا، والحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.



[1] جاء في الجني الداني: وذكروا له معاني: الأول: المجاوزة، وهو أشهر معانيها، ولم يثبت لها البصريون غير هذا المعنى؛ ا .هـ، ثم ذكر لها المرادي رحمه الله سبع معانٍ، وقال: واعلم أن هذه المعاني السابقة إنما أثبتها الكوفيون، ومن وافقهم، قال بعض النحويين: وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون باطل؛ إذ لو كانت لها معاني هذه الحروف لجاز أن تقع حيث تقع هذه الحروف، فوجب أن يتأول جميع ما ذكروه مما خالف معنى المجاوزة؛ ا .هـ.


[2] فتح البيان في مقاصد القرآن.


[3] بتصرف يسير من تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان».


[4] الجامع لأحكام القرآن، سورة البقرة (195).


[5] المحتسب في تبين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها.


[6] وكان الفرزدق هرب من البصرة إلى المدينة واختفى فيها؛ خوفًا من زياد بن أبيه لغضبة غضِبها عليه، فلما بلغة موت زياد وهو في المدينة، ظهر وأنشد هذا الرجز؛ إظهارًا للشماتة به، وفرحًا بالسلامة منه، والمجن: الترس، وقلاه كناية عن عدم الحاجة إليه؛ انظر: ديوان الفرزدق: 2/ 881، والخصائص: 2/ 310.


[7] (انظر: الكتاب لسيبويه: 2 /308).


[8] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.


[9] تسلسل المعاني وتناسب الجمل لبعضها من وجوه إعجاز القرآن العظيم.

شارك الخبر

المرئيات-١