أرشيف المقالات

التدرج في التشريع الإسلامي ( العبادات أنموذجا )

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
2التدرج في التشريع الإسلامي ( العبادات أنموذجاً )
تمهيد إن الشريعة الإسلامية هي أكمل الشرائع وأتمها؛ حيث نسخ الله تعالى بها سائر الشرائع السابقة، وفي هذا يقول الله - عز وجل -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].   ويتسم التشريع الإسلامي بالخصائص الآتية: 1- الربانية. 2- الإنسانية. 3- الشمول (العالمية والاستيعاب). 4- الوسطية أو التوازن. 5- الواقعية. 6- الوضوح. 7- الجمع بين الثبات والمرونة[1].   والشريعة الإسلامية تتميز كذلك بما يلي: 1- التيسير ورفع الحرج، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال - عز وجل -: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، ومن مظاهر ذلك: أ- نزول القرآن منجمًا. ب- الدعوة إلى التوحيد أولاً. جـ- عدم نزول التكاليف بمكة ونزولها بالمدينة المنورة.   2- العدالة وعدم المحاباة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].   3- الرحمة بالمخلوقين؛ ومن مظاهر ذلك: أ- إرسال نبي الرحمة إلى الخلق أجمعين، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].   ب- عدم التكليف بما فوق الطاقة، قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].   جـ- التخفيف ومراعاة الضعف الإنساني، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، ولذلك صور عدة؛ منها: • إباحة الفطر للمسافر والمريض. • إباحة التيمم عند الضرورة؛ كفقد الماء، أو في حالة المرض، أو الخوف من الضرر كما في البرد الشديد. • القصر والجمع في الصلاة. • التخيير في الكفَّارات.   4- احترام النفس الإنسانية، ومن أجل ذلك فُرِض القِصاص لحفظ النفس، وفُرِض حدُّ الزنا لحفظ العِرض، وحُرِّمت الخمر لحفظ العقل.   5- المساواة بين الناس، فلا فضل لأحد إلا بالتقوى والعلم والعمل الصالح، فهو مقياس التفاضل، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].   وسوف أتناول في هذا الباب - بعون الله وتوفيقه - مسألة التدرج في التشريع؛ ليكون بيانًا عمليًّا توضيحيًّا لِمَا سبق، وأكتفي بما يلي: 1- التدرج في فرض الصلاة. 2- التدرج في فرض الصيام. 3- التدرج في فرض الجهاد. 4- التدرج في فرض تحريم الخمر. 5- التدرج ومراتب الاحتساب.   التدرج في تشريع العبادات: أولا: التدرج في فرض الصلاة: أقول وبالله التوفيق: إن من أوائل ما نزل من القرآن قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 1، 2].   ذكر المفسرون أن الله تعالى فرض قيام الليل على المسلمين عامًا كاملاً، ثم نزل التخفيف في آخر السورة بعد عام كامل في قوله تعالى: ﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]، فنسخ قيام الليل للمسلمين، وظل الأمر فرضًا على النبي صلى الله عليه وسلم[2].   وذكر البخاري - رحمه الله تعالى - قول عائشة أم المؤمنين أنها قالت: (فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرت صلاة السفر، وزِيدَ في صلاة الحضر)[3].   قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (إنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما كان وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد، وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وذكر الشافعي أن صلاة الليل كانت مفروضة، ثم نُسخت فصار الفرض قيام بعض الليل، ثم نسخ بالصلوات الخمس)[4].   وكان فرض الصلوات الخمس في ليلة الإسراء، كما ورد ذلك في قوله تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].   يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -: (وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة)[5].   ومن هذا يتبين أن الصلاة فُرضت على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: فرض قيام الليل ثم نسخ. المرحلة الثانية: صلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي. المرحلة الثالثة: فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء.   ومن هنا تتضح سنة التدرج في فرض الصلاة، وهي أول عبادة، بل هي العبادة الوحيدة التي فُرضت بمكة.     ثانيًا: التدرج في فرض الصيام: من المعلوم الثابت أن الصيام لم يفرض بمكة؛ وإنما فرض بالمدنية بعد الهجرة، وقد مرَّ فرض الصيام بثلاث مراحل متدرجة، ذكرها ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره، فقال: (وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدنية فجعل يصوم من كل شهر ثلاثةَ أيامٍ، وصام عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] إلى قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، فكان مَن شاء صام ومَن شاء أطعم مسكينًا فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله تعالى أنزل الآية الأخرى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، إلى قوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، فأثبت الله صيامَه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام)[6].   • ومن هنا تبيَّن لنا التدرُّج في فرض الصيام، وقد مر بالمراحل الآتية: المرحلة الأولى: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام عاشوراء.   المرحلة الثانية: فرض الصيام على التخيير، فكان من شاء صام ومن شاء أطعم، مع الترغيب في أفضلية الصيام: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].   المرحلة الثالثة: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].   إن الصيام عبادةٌ راقية، وهو سرٌّ بين العبد وربه، وقد غيَّر فيها وبدَّل الذين كانوا مِن قبلنا، فهي تترقَّى بالمسلم إلى درجات التقوى والمراقبة لله عز وجل، وهي كذلك تدريب وترويض للنفس على الانضباط حسب منهج الله عز وجل؛ لذا فلم تُفرَض إلا في المدينة بعد أن استقر الإيمان في القلوب، وكما ذكرت فقد فُرِضت بتدرج؛ لكي تتقبلها النفس وتستجيب طواعية ورغبة في أدائها على أكمل وجه، وتلك من حكم التدرج.   إن الصيام فرض بالمدينة - كما ذكرت - بعد أن استقر الإيمان في القلوب، وصارت منقادةً لقَبول التكاليف والأوامر، خصوصًا وأن هذه العبادة تتعلَّق بأهم وأخطر شهوتينِ، وهما شهوتا البطن والفرج، والصيام يساعد على كبح جماح تلك الشهوتين ويضبطهما، فهو لا يمنع الطعام ولا الشراب ولا الوقاع مطلقًا، ولكن جعل لذلك توقيتات محددة، وفي هذا يقول سبحانه: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].   فالصيام يُدرِّب المسلم على أن يتحكَّم في شهوته، لا أن تتحكم فيه شهوتُه، كما أنه يصل بالمسلم إلى درجة المتقين لمحارم الله، الحافظين لحدوده.     ثالثا: التدرج في فرض الجهاد: وإذا كان الصيام ترويضًا للنفس على الانضباط حسب منهج الله عز وجل، وهو كذلك يعين على التحكم في شهوات النفس، ومنع الطعام والشراب والملذَّات عنها، فالأحرى بها وقد انتهت وامتنعت عن الحلال حسب نظام الصيام، أن تنتهي وتمتنع عن أكل الحرام في كل وقت، ومن هنا كان هذا الموقع العجيب لهذه الآية الكريمة بعد آيات الصيام، وهي قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون ﴾ [البقرة: 188]، وهذا ترتيب عجيب؛ لأن ثمرة الصيام هي تقوى الله عز وجل، وعدم أكل الحرام هو ثمرة العبادة والتقوى؛ لأن كل عبادة في الإسلام لها ثمرة، والعبادات في الإسلام تخدم المعاملات، وهدف العبادات في الإسلام هو إيجاد مجتمع نظيف اليد، طاهر النفس، نقي الضمير، يتعامَلُ بشرف وبأمانة وبصدق، فلا يأكل مال الغير بغير حق.   فكان ذكر الصيام، ثم النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، ثم الأمر بالقتال، وهذا تدرُّج عجيب، وترقٍّ رائع؛ لأن الذي لم يتدرَّب على الصيام وترويض نفسه عن الامتناع عن شهوات الدنيا وملذَّاتها، وقاوم في نفسه غريزة الطمع وحب المال وكراهية الحرام - لا يصلح للجهاد، وهناك موقع مشابه في سورة آل عمران، فقد جاء قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130]، جاءت هذه الآية في ثنايا الحديث عن غزوة أُحُد؛ لنعلم أن منع الظلم، ورد المظالِم، وشيوع العدل، من أسباب النصر في القتال، ومن أسباب التمكين في الأرض.   وجدير بالذكر أن القتال فُرض بالمدينة ولم يفرض بمكة؛ حيث كان الأمر بالصبر وضبط النفس، وتحمُّل الأذى في هذه المرحلة.   إن الجهاد بمفهومه العام الشامل بدأه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة أن قال له الوحي: ﴿ قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 2]؛ أي: إنه بدأ الجهاد بمكة، ولكنه جهاد الكلمة، وجهاد الدعوة إلى الله تعالى، ونجد من القرآن المكي قوله تعالى: ﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].   يقول الرازي: (قال بعضهم: المراد بذل الجهد في الأداء والدعاء، وقال بعضهم: المراد القتال، وقال آخرون: كلاهما، والأقرب الأول؛ لأن السورة مكية)[7]، فكان الأمر بالجهاد؛ أي: بتبليغ الدعوة، وهو المعنى العام والمقصود الأول من الجهاد.   ومن هنا أقول: إن الجهاد أمر من الله تعالى للمسلمين جميعًا؛ ليجاهدوا بالكلمة، ويبلغوا دين الله عز وجل، وليرفعوا راية التوحيد، وليُحرِّروا الناس من العبودية لغير الله عز وجل، ولرفع الذل والهوان، والضعف بكل أشكاله وألوانه عن المسلمين؛ كالضعف الاقتصادي والعلمي، والعسكري، ولكي يتحرَّر المسلمون من التبعية لغيرهم.   وإنه لكي نَسُودَ العالَم، ونستعيد الكرامة الضائعة، ونُعلِي كلمة التوحيد في أرجاء الأرض؛ لا بد من الأخذ بأسباب الرقي، وأول هذه الأسباب توحيد الله تعالى وتعظيم شأن العقيدة، وثاني هذه الأسباب هو الأخذ بأساليب التقدم العلمي، مع الالتزام بالأخلاق الإسلامية الأساسية.   والبداية إنما تكون من داخل النفس؛ لهذا كان جهاد النفس أولى مراحل الجهاد.   يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (الجهاد أربع مراتب: 1- جهاد النفس. 2- جهاد الشيطان. 3- جهاد الكفار. 4- جهاد المنافقين)[8].   ثم يقول - رحمه الله تعالى -: (فجهاد النفس أربع مراتب: تعلُّم العلم، والعمل به، وتعليمه مَن لا يعلمه (الدعوة)، والصبر على مشاق الدعوة وأذى الخلق.   وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان: جهاده على دفع ما يُلقِي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، وجهاد الشهوات.   وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.   وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، فثلاث مراتب: الأولى باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهَد بقلبه، فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ومَن مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث نفسَه بالغزوِ مات على شعبة من النفاق)[9].   ما أحوجَنا معشر المسلمين إلى الأخذ بهذه المراتب، ونبدأ طريق الإصلاح من داخل النفس، متحرِّكين شيئًا فشيئًا، فنُجاهد الشيطان بدفع الشبهات ومقاومة الشهوات؛ كي نكون أهلاً لمواجهة العدو الخارجي المتربص بنا.   إننا لا يمكن أن نجاهد عدوَّنا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي، فيكون البَدْء جهاد النفس.   أما القتال في الإسلام، فهو فرع من أصل، وجزء من كل، وله ظروفه وأحكامه وأحواله، والقتال في الإسلام لم يفرض بمكة، ولم يفرض دفعة واحدة؛ ولكن بتدرج، وسأبين مراحله: • التدرج في فرض القتال: وقد مر بالمراحل الآتية: المرحلة الأولى: قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 39، 40].   ذكر ابن كثير - رحمه الله -: (أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر رضي الله عنه: علمت أنه سيكون قتال...)[10]، فكانت الآيات إعدادًا للنفوس وتهيئة لأمر القتال.   المرحلة الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]، قال ابن القيم: (ثُمَّ فرض عليهم قتال مَن قاتَلهم دون مَن لم يقاتلهم، وكان محرَّمًا، ثم مأذونًا به، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين)[11].   فكانت هذه المرحلة تمثل مرحلة رد العدوان والدفاع عن النفس والدين والأرض.   المرحلة الثالثة: قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5].   يقول الرازي: (وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان)[12]، فهو أمر بقتال المشركين بدون عدوان، لا لشيء إلا لتطهير الأرض من الكفر وأهله، ولضمان وصول الدعوة إلى الناس وإزالة العوائق من طريقها.   إن القتال فيه إزهاق النفس، وبذل المُهَج، وترك الحياة الدنيا بزينتها وزخرفها ومتاعها وعلائقها، فلا يقدر على ذلك أيُّ إنسان، فكان لا بد من تربية النفوس، وشحذ همتها، وترويضها على التعلق بمعالي الأمور لا بسفاسفها، وتحريضها على ترك الحياة الفانية من أجل الحياة الباقية، فكان لا بد من التدرُّج في فرض الجهاد عمومًا، وفي فرض القتال على جهة الخصوص، وهذا ما كان.   ويقول د.
جمال العمري: (والباحث المدقق في سياسة التشريع الإسلامي للجهاد يجد أن السمة البارزة فيه هي: التدرج، فقد شرَع الله في مكة جهادَ النفس والهوى والشيطان، كأساس لكل أنواع الجهاد، ثم شرع جهاد الكفار في مكة ثانيًا بالصبر على أذاهم، وتوضيح الحُجة لهم، والاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق، ثم لَمَّا صاروا على العناد، شرَع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد)"؛ وانظر: أدب الحرب والسلام في سورة الأنفال، دار المعارف ط1 1989 ص124".   من كتاب: "خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج)"


[1] انظر: الخصائص العامة للإسلام؛ د.
يوسف القرضاوي ص 5، مكتبة وهبة، الطبعة الخامسة 1999م، وكتاب أصول الدعوة؛ د.
عبدالكريم زيدان، ص45 مؤسسة الرسالة، الطبعة التاسعة 2001. [2] انظر: تفسير ابن كثير ص 434، ص 438. [3] فتح الباري جزء 1 ص 369. [4] فتح الباري جزء 1 ص 369. [5] تفسير القرطبي ص 3919 جزء 6. [6] تفسير ابن كثير ص 214 جزء 1، دار إحياء الكتب العربية. [7] مفاتيح الغيب ص 74 جزء 12. [8] زاد المعاد ص 39 جزء 2 المطبعة المصرية. [9] انظر زاد المعاد ص 39 جزء 2 بتصرف واختصار. [10] تفسير ابن كثير جزء 3 ص 225. [11] زاد المعاد ص 58 جزء 2. [12] مفاتيح الغيب ص 573 جزء 7.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣